"أنا الراوي اللئيم/ أجلس فوق المصباح/ وأرقب ما يجرى"... بهذا الإنكار الصريح لدور الشاعر يستهل فريد أبو سعدة أحدث دواوينه"سماء على طاولة"، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة، ويعيد فيه ربط التواريخ والأماكن والتجارب، ليبين كيف يدرك الفرد عالمه وكيف ينظمه، مقترحاً في سياق عام يضم أشكالا متنوعة من العرض، أن الفرد يستطيع ابتكار خريطة شخصية لإدراكاته وردود أفعاله تجاه ثقافته. الديوان هامش مطول على متن قصير لا يتجاوز صفحتين، والمتن مشهد يصف الراوي/ المروي عنه في غرفته"الآن"، أو في أي لحظة حاضرة تتراجع سريعاً، كي تفسح المجال لدهمة ماضٍ مشوش، يتدافع من خلال ثلاث نوافذ للذكرى: ما يذكره الراوي من كلام السماء والعائلة والرجل الوحيد. تعود اللحظة الحاضرة في نهاية الديوان، ولكن في إطار الهامش، بإشارة لطيفة إلى أنه التهمها، فأصبحت هي نفسَها ماضياً لا سبيل إلى استعادته: "رأيت/ كأن الصوان يهتزُّ/ ثم/ تنفتحُ دلفتاهُ فجأة/ ويخرجُ أناسٌ/ يحملون نعشاً/ أنا فيه!/ رأيت كأن النعش يحمله شيوخُُ أربعة/ وكأن طيوراً معدنية تتعقب الناس/ فيسقطون ويقومون/ يموتون ويبعثون/ حتى وصلوا إلى المقبرة/ فإذا المقبرة غرفة/ وإذا في الغرفة سرير/ عليه قبة من سحاب/ وطاولة/ عليها سماء قديمة/ تغط في نومها/ وإذا رجل/ في منتصف الغرفة/ كأني هو/ النافذة أمامه/ لا تزال/ والصوان خلفه/ لا يزال/ لكن صورته/ اختفت". بناء الديوان رحب، يسمح باستيعاب ما لا حصر له من فيض الذاكرة، وهذا ما يعجل بملاحظة عدم الاتساق بين نصوص كل قسم والعنوان الذي يضمها. ويوحي بأن البناء يقود مادته قسراً، من مجموعة شعرية إلى ديوان مترابط الوحدات، اعتماداً على التصدير، وعلى اتصال النص الأول بالأخير وعدم عنونة النصوص. في قسم"ما أذكره من كلام السماء"مثلاً نجد في صوت الراوي متحدثاً عن نفسه وعن آخرين: مغنية سابقة تتلصص على أحلام الوعول، سحابة أطاحت به من السيارة الحمراء، خشيته من القلاع، الراوي كالجني في مصباح علاء الدين يراوح بين مكافأة من يُخرجه وقتله، تأكد الخبراء من اقتراب الساعة وإعداد سفينة نوح، الطرق الواسعة في قلب الراوي وملاءمتها لمرور الملائكة والشياطين، رموز يشربون الينسون ويتحدثون عن الماضي، مَن يشعل النار بطرقعة إصبعين، مَن سأم ثلاث حيوات ولجأ إلى قاتل مأجور ثم فقد الاتصال به، مَن يقلب صوره العجائبية في الألبوم، فرصة مع تعويذة الأحلام السبعة، محاولة مع تميمة سحرية تحول التراب ذهباً. تحويلات مميزة لليأس والاكتئاب، عبر أنماط معقّدة من الملاحظة والمحاكاة والتأمل، تظهر وتختفي في مجال يبدو مخلوقاً بلا سبب معين، عدا أنها نزهة هادئة بين الواقعي والسحري لإعادة تنظيم الوعي، وتشكيل خريطة شخصية للألم. "هل الحياة رهان/ بين الموت والألم؟"، يبدو السؤال شخصياً، لكن إجاباته الموقتة في الديوان بطابعها التجريبي تقود إلى تعريف الفرد في العالم المعاصر، الفرد من دون دور أكثر من تعبئة الخواء، فتقود بالتالي إلى إنكار الذات، ليس بالتظاهر بالأدنى الراوي المحايد مثلاً بل بالاهتمام الهزلي بالأعلى، ورؤية ما عدا الذات بدرجة من الدهاء. ربما اقتضت بطولة الراوي المفترضة في الديوان تلك العناية الإيجابية بالحدث المتوتر وتعدد الشخصيات، لكن التركيز على الحوار بنوعيه أثر سلباً، فجعل البطولة ادعاءً، وأطفأ أحياناً لمعان الأفكار الجذابة كما في نصوص: المغنية العجوز، الأنبياء القدامى، الأحلام السبعة، وشوش أخيراً وضوح الصور الكلية ومغزاها. قصيدة فريد أبو سعدة عموماً محمولة على هاجس بالزمن وافتقاد الموقع الملائم. وطريقته في استدعاء الزمن ترتكز على صور لعالم يتفكك، لذلك لا توجد في شعره مقاومة لتقاليد السرد الصريح، لأن السرد ببساطة يجمع ما تفكك وينظمه. تبدو صور الأشياء في"سماء على طاولة"تحديداً كما لو أنها إغواء غير المرئي، بحضورها الذي ينافس الأحياء، ويمسرح معها بالتساوي قدراً من الشك والقلق، في إطار تأملي ينزع إلى تتبع العلاقات الخفية. الموبايل، الكونسول، الطبق، أكرة الباب، إلخ... هذه الأشياء العادية بإيحاءاتها وتحولاتها، وبالتعارض مع التأملية، تزود مجال النصوص بامتلاء واضح ومبهم في وقت واحد، يشبه رقع الكانفاه العارية من التطريز، والتي تخدع البصر بالمراوحة بين الخروم والخيوط. اللغة في الديوان صافية وتكاد لا تلحظ، تنسحب معانيها إلى عالم من الخسارة والضجر، وتظهر الولع بإخفاء الهوية، خصوصاً في استخدام الضمائر أو تغييب البشر المعرّفين، وهذا لا يحمل الأشياء وحدها عبء التأثير الجمالي، فحسب، بل يشكل أيضاً مجال سرية واتساع، لأنه يشير إلى وعي بوجود جماعي، ومن سمات هذا الوجود أنه يمنح امتداداً في المكان/ التاريخ وروايات جزئية متحيزة. تكشف قراءة"سماء على طاولة"أن هناك ما يستبعده فريد أبو سعدة من مجمل تجربته، ما يستبقيه، وما يطوره. يستبعد تصوير المشهد الحميم بامتلائه الحسي وتطوير الموضوع من خلال التفاصيل الهامشية، أيضاً الاستعارات الكبرى التي تنبعث من توسل الأشياء لنموذج ميتافيزيقي عنيد. تبقى خلاصة الموقف الصوفي، المتمثلة في التحرر من الوعي بالذات والثقة بالمعرفة، ومستفيداً من هذا الموقف يطور الشاعر خاصية الإبلاغ والعلاقة بالمتلقي، مؤكداً دور الوسيط الناقل، والسيطرة على اقتراح تشريح الثقافة، مع توسيع مدى الرؤية والتأسيس لشكل اتصال مختلف بتجلياتها المعقدة.