«بلاد بلا سماء» هي الرواية الرابعة للكاتب اليمني وجدي الأهدل، بعد «قوارب جبلية»، و«حمار بين الأغاني»، و«فيلسوف الكرنتينة». وهي تُطبع للمرة الثانية (دار التنوير) بعد أربع سنوات على صدورها في صنعاء. وإذا كانت كلمة «سماء» في اللغة تعني: القبّة الزرقاء، والفضاء الواسع، وكلّ ما علا، ورواق البيت، وسقف كلّ شيء، وظهر الفرس، والمطر، والسحاب، والعشب، ومسكن أرواح الأبرار، فإن عنوان الرواية «بلاد بلا سماء» يحيل إلى بلاد بلا أفق وفضاء وسقف وماء وحياة وروح، مما تشي به معاني الكلمة المعجمية. في المتن الروائي، كلمة «سماء» هي اسم لفتاة جميلة، ذكية، غزيرة العلم، موسوعية المعرفة، متفوّقة في دراستها الجامعية، مهتمّة بعلم الآثار. وخلوُّ بلادٍ منها يرمز إلى خلوّها من هذه الصفات. وباجتماع المعنى المعجمي للكلمة مع المعنى الروائي الذي استخدمت فيه، تغدو البلاد ال «بلا سماء» بلاداً مغلقة على نفسها، تفتقر إلى المستقبل، والتقدم، والآفاق المفتوحة. فهل يشكّل النص الروائي ترجمة لهذا العنوان؟ في روايته الرابعة، يتناول وجدي الأهدل مجموعة من القضايا يعانيها العالم المرجعي الذي تحيل إليه الرواية وتمتح منه حكايتها، وهو المجتمع اليمني. ومن هذه القضايا: التحرّش الجنسي وعبء الأنوثة، المجتمع الذكوري - القَبَلي، الفساد الجامعي وتمظهراته المختلفة، ضريبة الحب والتعلّق في مجتمع محافظ، عجز السلطة عن إحقاق الحق، وسيطرة الغيبيات على مفاصل الحياة... حكايات شخصية هذه القضايا تثيرها الرواية مداورةً من خلال: حكاية «سماء»، الشخصيّة الرئيسيّة، وحضورها المباشر في النص حين تروي بنفسها شطراً من معاناتها في مجتمع ذكوري مكبوت يمارس كلّ أنواع التحرّش الجنسي، وحضورها غير المباشر في ما يقوله الرواة الخمسة الآخرون عنها. تمثّل «سماء» الأنثى الجميلة في عالم مرجعي مكبوت، يبحث الذكر فيه عن أي متنفّس للتنفيس عن كبته، ما يجعل الأنوثة الجميلة عبئاً على صاحبتها. هذه الفتاة تروي أنواع التحرّش، وأماكنه، والقائمين به. فالتحرّش يحصل بالنظر، والحركة، والإشارة، والكلام، واللمس. ويحدث في الشارع، والباص، والدكان، وكلّ مكان. ويقوم به البقّال، وابن الجيران، والسائق، والمتديّن، والعجوز، والعامل. وتأتي مضايقات الأهل وحصار المجتمع لتزيد الطين بلّة. وإذ تختفي «سماء» في ظروف غامضة، يستنفر الأهل، وابن الجيران، والقبيلة، والسلطة/الشرطة للبحث عنها، ويعود الجميع من الغنيمة بالإياب. تجرى عملية البحث والتحقيق في إطار بوليسي، يكتنف فيه الغموض الاختفاء والبحث والنتائج. ومحتوى هذا الإطار جوٌّ من الواقعية السحرية، تختلط فيه الوقائع بالتصوّرات، وعالم الشهادة بعالم الغيب، والواقع بالسحر والشعوذة، والإنس بالجن. هذا الإطار البوليسي ومحتواه الواقعي السحري يحيلان إلى عالم مرجعي متخلّف، يتجاور فيه الواقعي والسحري، السلطوي والقَبَلي. ويمارس العقل الغيبي تأثيره الكبير في حياة الناس وخياراتهم. تترتّب على عملية الاختفاء الغامض والبحث نتائج غامضة بدورها، على مستوى الفرد (ابن الجيران)، والسلطة (الجامعة والشرطة)، والمجتمع (الأسرة والقبيلة). - على مستوى الفرد، يقوم علي نشوان، جار «سماء» ورفيق الصبا الذي يصغرها ببضع سنوات بالبحث عنها، انطلاقاً من العلاقة بينهما. وهي، من جانبه على الأقل، علاقة مركّبة يختلط فيها الإعجاب بالحب والشهوة. وهي علاقة عرفت تحوّلات، من القرب حتى القطيعة، بفعل الوشاية والخوف من الهيئة الاجتماعية في مجتمع قَبَلي، مكبوت، ومحافظ. فعلي الصبي الذي كان يأنس لجارته الجميلة، ويختلق المبرّرات للاقتراب منها، ويحلم بالزواج منها حين يكبران، تأتي العقلية الذكورية مجسّدةً بالأب، إثرَ وشاية من بقّال عجوز متصابٍ، لتفرض على «سماء» التحجّب والانتقال من عالم الطفولة إلى عالم الحريم، ولتفرض على علي الانقطاع عن زيارتها، فيروح يعوّض عن هذه القطيعة المفاجئة بطريقتين متناقضتين: طريقة المحب الذي يطيل الجلوس عصراً على مصطبة البقال الواشي لعلّه يحظى برؤية وجهها عبر نافذة شقّتها المطلة على المصطبة، وطريقة المكبوت جنسيّاً الذي يقتفي أثرها صبيحة كل يوم ويغرز نظره في مؤخرتها، حتى إذا ما اختفت فجأةً، يتحوّل إلى عاشق مولّه، ويروح يبحث عنها، ليل نهار، في حديقة كلية العلوم، فيعثر في شجرة الرمّان على شنطتها ودفترها، ومن ثم يعثر على ثيابها، بإيحاء من كهل/شبح، يزعم علي لدى التحقيق معه أنه جنّيٌّ، الأمر الذي يجعله في موقع المشتبه به، فلا يقنع السلطة، ولا يقنع القبيلة، فتقوم الأخيرة بإنرال حكمها به تعذيباً حتى الموت. - على مستوى السلطة، يتمظهر الأداء السلطوي في فساد المؤسسة الجامعية، وعجز المؤسسة الأمنية؛ فالدكتور عقلان يرمز إلى الفساد والانحلال، يمارس شذوذه بالتقرب من طلابه وطالباته، يبتزّهم في علاماتهم لتحقيق مآربه متسبّباً في انتحار أحدهم، يبتزّ «سماء» نفسها ويعطى صورة سلبية عنها للمحقق. ولا يتعاون مع التحقيق مدعوماً بعلاقاته السلطوية، ما يحول دون الوصول إلى نتائج مرضية.وهنا، يتكامل الفساد في المؤسسة الجامعية معه في المؤسسة الأمنية لقطع الطريق على التحقيق. أمّا العجز في المؤسسة الأمنية، فيتجلّى في سلوك ضابط الشرطة ومساعده، فهما لا يستطيعان التمادي مع الدكتور عقلان رغم الاشتباه به ووجود سوابق تدينه، وهما لا يجرؤان على التحقيق مع أسرة «سماء» وقبيلتها بتهمة قتل علي، ما يدفع إلى الاستنتاج أن القبيلة أقوى من السلطة. - على مستوى المجتمع، تفشل الأسرة والقبيلة في العثور على «سماء» أو حل لغز اختفائها. ويتمظهر الفشل في الإقدام على تعذيب علي حتى الموت وهو براء مما نُسب إليه، وفي اللجوء إلى المشعوذ الذي يأخذ المال، ويشير عليهم بمخاطبة العفريت في الشجرة ثلاثة أيام وأمره بإعادة «سماء»، وبحرق الشجرة في حال عدم استجابته، ما يدل على تحكّم العقل الغيبي بسلوك الفرد والجماعة. فإذا كان إجماع علي والدكتور عقلان وناصر العتمي على مشاهدة الكهل المربوع، بثيابه البيضاء وكتابه الأبيض، عند شجرة الرمّان، لحظة اختفاء «سماء»، يشير إلى تأثير الغيبيات في الأفراد، فإن إقدام القبيلة على استشارة المشعوذ، والعمل بإشارته، والاقتناع بروايته، يرمز إلى تأثير الغيبيات في الجماعة أيضاً. ويأتي تشابه التوقعات التي دوّنتها «سماء» في دفتر يومياتها، قبل عام من اختفائها، مع المصير الذي آلت إليه ليؤكد غرابة بعض الأحداث في الرواية، وسيطرة الرؤيوي، الغيبي، القَبَلي، الذكوري على العالم المرجعي للرواية، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. لعلّ وجدي الأهدل أراد القول إن البلاد التي لا سماء فيها، بالمعنيين المعجمي والروائي، هي بلاد بلا مستقبل. هذه الحكاية يصطنع لها الكاتب خطاباً روائيّاً يقوم على تعدّد الرواة؛ فالرواية تتألف من ستة عناوين فرعية، يتعاقب على روايتها ستة رواة. هم: سماء، ضابط الشرطة، صاحب البوفيه، علي، مساعد ضابط الشرطة، وأم سماء. وكلٌّ من هؤلاء يروي، بصيغة المتكلم / الغائب، الحكاية من منظوره. والحكايات تتقاطع، وتتعارض، لكنها تتكامل، في نهاية الأمر، في سياق الحكاية الواحدة. وبذلك، يكون قد استخدم خطاباً حديثاً، ديموقراطيّاً، يتقدم على الحكاية القائمة على القمع، والكبت، والاختفاء، والقتل، والسحر، والشعوذة. ويتقدم على العالم المرجعي الذي تحيل إليه. ولعل هذا الخطاب، على عدم تناسبه مع الحكاية، هو ما يجعل الرواية تجمع بين فائدة الحكاية ومتعة الخطاب، ويمنحها جدارة القراءة.