فيما بدا أنه إسعاف متأخر للرئيس الأميركي جورج بوش في واشنطن اختار توني بلير رئيس وزراء بريطانيا أن يقوم بجولة لا معنى لها في الشرق الأوسط مروجا من جديد لأفكار "المحافظين الجدد". هي جولة لا معنى لها لأن توني بلير نفسه دخل بالفعل مرحلة الخسوف السياسي بعد عشر سنوات في السلطة تصرف خلالها على أنه التابع المطيع لواشنطن فيما تريده وتفعله. في هذه المرة اختار توني بلير أن يعلن من دبي دعوته إلى إقامة تحالف من الدول المعتدلة في الشرق الأوسط ضد ايران، معتبرا أن ايران"باتت تشكل عقبة في طريق تحقيق السلام في الشرق الأوسط"، ومقررا من جانبه أن من يشكل الخطر الإستراتيجي الأكبر في ايران هم من يحكمونها حاليا، ومضيفا القول:"إنهم يحاولون إعاقتنا في لبنانوالعراق وفلسطين... ردنا يجب أن يكون مواجهة ما يقومون به وإنشاء تحالفات لمنعهم وإعاقتهم في جميع أنحاء المنطقة"، مشيرا إلى أنه"على من يؤمنون بالديموقراطية والإعتدال التحالف في مواجهة من يؤمنون بالتطرف". بعدها بقليل خرج متحدث باسم توني بلير لكي ينفي أن تصريحاته متناقضة مع ما ورد في تقرير مجموعة دراسة العراق الأميركية برئاسة جيمس بيكر ولي هاملتون، وأنه لايرغب في"تحالف سني"لمواجهة طهران، ولكن في تحالف من"المعتدلين"... إلخ . وبينما الأميركيون احتاجوا بعض الوقت لكي يبدأوا في مراجعة أنفسهم فإن توني بلير في بريطانيا لايبدو عليه الاستعداد لمراجعة خطاياه في الماضي، فهو أيضا الذي زايد على إدارة جورج بوش في توجهها لغزو العراق مؤكدا في تقرير رسمي إلى مجلس العموم أن العراق يحوز فعلا أسلحة دمار شامل، بل ونشرها بين قواته بما يجعلها قابلة للاستخدام الفوري خلال 45 دقيقة من صدور الأوامر بذلك. موال العراق طال واستطال وتحولت الحرب/ النزهة إلى الحرب/ الكارثة. كارثة على العراق وعلى المنطقة، ولكنها أيضا كارثة للمشروع الإمبراطوري الأميركي. وفي كتابه الذي صدر قبل سنتين بعنوان"نزع سلاح العراق"سجل هانز بليكس كبير مفتشي الأممالمتحدة اندهاشه المستمر من ضغط الإدارة الأميركية عليه للإقرار بوجود أسلحة دمار شامل لدى العراق عشية الغزو الأميركي رغم أن مفتشيه - وبينهم أميركيون - كانوا قد فتشوا فعلا خمسمائة موقع عراقي فلم يجدوا شيئا. مع ذلك أصر مسؤولو الإدارة الأميركية - وتحديدا ديك تشيني نائب الرئيس - على وجود أسلحة الدمار الشامل بغير أن يحددوا له مطلقا أين يمكن العثور على تلك الأسلحة. كان هانز بليكس يطرح السؤال المنطقي التالي:"هل يمكن أن يكون هناك تأكد بنسبة مائة بالمائة من وجود أسلحة دمار شامل في العراق بينما المعرفة بمواقعها هي صفر بالمائة؟". لم يجب مسؤول أميركي أو بريطاني واحد في حينها على ذلك السؤال من هانز بليكس. ومضى غزو العراق في طريقه المخطط له أصلا بغير أن يعثر 140 ألف جندي أميركي حتى الآن على فتفوتة سلاح للدمار الشامل في العراق. الآن في 2006 تبدأ التعبئة لهدف جديد هو ايران هذه المرة، وبحجة أخرى هي وجود برنامج سري لديها للتسلح النووي. ايران لديها برنامج نووي سلمي يخضع للإشراف والتفتيش الكاملين من وكالة الطاقة النووية. ومع ذلك فلا أميركا ولا بريطانيا قدما حتى الآن ذرة معلومات إلى الوكالة بالمواقع المحتملة لذلك البرنامج الآخر - البرنامج السري - لدى ايران للتسلح النووي. نحن هنا أمام نفس سؤال هانز بليكس مرة أخرى. ومنذ أيلول سبتمبر 2002 قررت أميركا رسميا في استراتيجية معلنة للأمن القومي أن ايران تتصدر محورا للشر في الشرق الأوسط لابد من القضاء عليه. وهو نفس ما كررته في وثيقة مماثلة في آذار مارس 2006، متابعة نفس أسلوب الحشد والتعبئة الدعائية الذي جرى سابقا مع العراق، ومعبئة كل دبلوماسيتها مؤخرا لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بعقوبات مبدئية ضد ايران. دبلوماسية قادها الرئيس جورج بوش شخصيا في إلحاحه على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالمكالمات التليفونية حتى تقوم روسيا بمسايرة التوجه الأميركي ولو حتى ضد مصالح اقتصادية واستراتيجية روسية مباشرة. بل ربما أيضا لضرب تلك المصالح مرة أخيرة ونهائية. أستعير هنا بعضا من تحليل لمعلق بريطاني خبير بالشرق الأوسط هو ماكس رودينبيك من مجلة"الإيكونوميست"الذي كتب مؤخرا يقول:"بالنسبة لمراقب موضوعي تبدو أميركا هنا محظوظة بشكل مدهش إذا كان صحيحا حقا أن ايران أصبحت تمثل التحدي الأكبر ضدها. فبلا شك كانت إحدى نتائج الغزو الأميركي للعراق هي توسيع نفوذ ايران هناك بدرجة ضخمة. تحدى كانت سياسة أميركا الخاصة هي التي جعلته ممكنا. لكن الجمهورية الإسلامية تبعد عن سواحل أميركا بمسافة نصف العالم وسكانها ربع سكان أميركا وناتجها القومي الإجمالي واحد من مائة من ناتج أميركا القومي وهي في الوقت الحاضر محاطة بقوات مسلحة من أميركا وحلفائها وبتسليح أفضل وقدرة أكبر. كل هذا بالمقارنة مثلا مع تهديد الإبادة النووية الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي السابق ضد أميركا في ما بين سنتي 1949 و1989. وحتى لو أصبحت ايران مسلحة نوويا فعلا وهو احتمال غير قائم بالمرة فهي لن تجرؤ مطلقا على ضرب القوة العظمى الوحيدة حاليا لأنها بذلك ستخاطر تأكيدا بإبادتها كرد فعل. وفي الخلاصة فمن الواضح أن أميركا هي التي تمثل تهديدا لإيران أكبر بكثير جدا مما تمثله ايران لأميركا. وللتناقض فإن هذا التهديد الأميركي لإيران حاليا هو - أكثر من أي شيء آخر - الذي يدعم من وجود حكومة قمعية وغير شعبية في ايران". لكن المشروع الإمبراطوري الأميركي رفض من البداية أي منطق وهو لا يكره أكثر من الحقائق المجردة. من هنا جاء تقرير لجنة بيكر - هاملتون مؤخرا بمثابة جملة اعتراضية على كل تلك المكابرة. لم تكن أهمية التقرير هي أن إدارة جورج بوش ستأخذ به، فهي اعتبرته من اللحظة الأولى قاسيا جدا، بل وبدأت الإدارة بعده في التحدث عن زيادة القوات الأميركية المحتلةبالعراق. وأعلن روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي الجديد أن أميركا باقية في العراق ودول الخليج والشرق الأوسط لوقت طويل قادم. وقت غير مسمى. أما كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية فأعلنت بكل وضوح أن التكلفة التي تحملتها أميركا في حرب العراق - 350 مليار دولار و2950 جندياً قتيلاً حتى اللحظة - إنما هي بمثابة"استثمار جيد"بحجة أن بزوغ نجم العراق كعامل استقرار سيفتح الباب على مصراعيه لظهور شرق أوسط جديد. نقرير لجنة بيكر - هاملتون لا تعتمد أهميته إذاً على أخذ الإدارة الأميركية بتوصياته . لن تأخذ الإدارة بتوصياته. إنما الأهمية الأساسية هي أن التقرير فتح باب النقاش العام داخل أميركا ذاتها ،وهو الباب الذي حرصت الإدارة الأميركية على إغلاقه تماما منذ اللحظة الأولى لدخول جورج بوش إلى البيت الأبيض لأول مرة. نتذكر هنا مثلا أول عضو في الإدارة انشق عليها في الولاية الأولى لجورج بوش، وهو بول أونيل وزير الخزانة الذي أصدر كتابا قبل ثلاث سنوات كشف فيه عن الأسلوب الذي تعمل به الإدارة والطريقة التي يفكر بها الرئيس جورج بوش حيث:"توجد حول الرئيس عصابة... وهو نفسه لا يجادل ولا يسأل وإنما يحتفظ بأفكاره الحقيقية لنفسه". في حينها - وحتى بعيدا عن المشروع الإمبراطوري لإدارة جورج بوش - حاول وزير الخزانة الإعتراض على التخفيضات الضرائبية الهائلة التي يريدها الرئيس جورج بوش وبطانته لكبار الأثرياء والشركات الكبرى . لكن ديك تشيني نائب الرئيس رفض معارضة الوزير المختص قائلا له: هؤلاء هم الذين دعمونا فى الانتخابات وعلينا مكافأتهم. بعد استقالته وإصداره لكتابه قال الوزير المستقيل عن الرئيس وحاشيته:"هؤلاء الناس قذرون ولديهم ذاكرة طويلة". وحينما سئل إذا كان هذا يعني أنه يخشى من انتقام البيت الأبيض منه، فرد بقوله:"إنني رجل عجوز، ثم إنني ثري بما فيه الكفاية، وليس هناك شيء يستطيعون عمله لإيذائي". بعد محاولات مبدئية للتحرش، لم يقم أحد بإيذائه. لكن الإدارة نجحت في فرض ستار من الصمت على كتاب الوزير المستقيل ولم يتحرك أحد في الكونغرس لمحاسبة الإدارة عن الحقائق التي كشف عنها بول أونيل وزير الخزانة المستقيل، وتتعلق أساسا بالعلاقات العضوية بين الإدارة وشركات"الرأسمالية المتوحشة"داخل أميركا وخارجها. هذا يذكرنا بكولن باول وزير الخارجية الذي أقاله جورج بوش بعد أسبوع واحد من إعادة انتخابه. لقد روجت الإدارة وقتها لفكرة أن باول هو نفسه الذي كان قد فاتح الرئيس سابقا بعدم رغبته في الاستمرار بمنصبه عقب الانتخابات. لكن كتابا صدر مؤخرا في واشنطن يؤكد على لسان كولن باول نفسه أن هذا غير صحيح، بل وإنه عرف بإقالته عبر مكالمة تليفونية من كبير موظفي البيت الأبيض قال له فيها ان الرئيس"يريد عمل تغيير"... وهذا هو كل شيء. أما الأكثر دلالة فهو أن كولن باول في هذه المرة يعطي صورة من الداخل لكيفية عمل هذه الإدارة حيث:"الرئيس يميل إلى إعطاء أقصى اهتمامه إلى آخر شخص يهمس في أذنيه. وهذا الشخص يكون فى العادة هو ريتشارد تشيني"نائب الرئيس. حينما جرى التصديق أصلا على تعيين كولن باول وزيراً للخارجية سئل في مجلس الشيوخ عن العراق فأجاب يومها بقوله:"العراق مجرد دولة مهشمة ومفلسة وضعيفة"، وبالتالي لا تمثل تهديدا لأميركا أو المنطقة أو أي أحد، فوق أنها اصلا تحت حصار محكم لأكثر من عشر سنوات. مع ذلك ففي أوائل كانون الثاني يناير 2003 قال الرئيس الأميركي لوزير خارجيته ببساطة إنه ينوي غزو العراق واحتلاله. لحظتها أدرك باول أن الرئيس لا يستشيره. فقط يبلغه بقرار متخذ فعلا. وحينما سأله كولن باول:"هل تدرك عواقب ذلك؟"رد بوش بالإيجاب ثم بسؤال: هل أستطيع الاعتماد على مساندتك؟. رد كولن باول بكل طاعة وانصياع: نعم. الإجتماع لم يتجاوز 12 دقيقة عاد بعدها وزير الخارجية إلى مكتبه ليتصرف كجندي مطيع. من بين تلك الطاعة قيامه بالدور المرسوم له في جلسة مجلس الأمن الشهيرة في 5/2/2003 وشهدها العالم كله على الهواء مباشرة. في الجلسة خاطب كولن باول العالم كله بما قال إنه الأدلة المفحمة، بالصوت والصورة والتسجيلات الصوتية وبيانات الأقمار الصناعية والشهود والخرائط... تأكيدا لفكرة أن العراق لايملك فقط أسلحة الدمار الشامل، وإنما هو تهديد للمنطقة وللعالم كله إذا لم يتم مواجهته فورا. العالم كله عرف في ما بعد - وبتكلفة مروعة للعراق وللمنطقة - كم كان كل هذا ملفقا من أوله إلى آخره . والآن يتبين بأثر رجعي أن كولن باول كان يعرف الحقائق الكافية، لكنه اختار استرضاء الرئيس وإدارته، من أجل الإحتفاظ بمنصبه. أما الأكثر دلالة بالنسبة لنا فهو ما يكشف عنه كولن باول الآن بأثر رجعي من خريطة السلطة الحقيقية في واشنطن، حيث نائب الرئيس ديك تشيني تحول إلى ما يشبه رئيسا للوزراء مع أن النظام رئاسي بطبيعته... إلى درجة أن نائب الرئيس هذا اتصل ذات يوم بموظف في وزارة الخارجية لكي يملي عليه صيغة إنذار عليه نقله فورا إلى تركيا باسم وزير الخارجية، مع تعليمات منه بألا يطلع وزير الخارجية على ذلك. أو... حينما يقوم جورج بوش ونائبه تشيني بإبلاغ تعليمات جديدة إلى السفير الأميركي في وزارة الخارجية المكلف بملف المباحثات مع كوريا الشمالية مخالفة بالكامل للتعليمات التي لديه من وزير الخارجية كولن باول. أما في المسألة الفلسطينية فيسجل الكتاب الجديد أن الرئيس جورج بوش قام ثلاث مرات خلال 15 شهرا فقط بإعلان التزامه بإيجاد طريق إلى السلام بين اسرائيل والفلسطينيين. وفي نيسان ابريل 2002 قال الرئيس بوش علنا"إننى أتوقع نتائج"بعد أن طالب اسرائيل بتجميد مستوطناتها والتوقف عن اختراق مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني". بعدها بثلاثة اشهر وعد الرئيس علنا بأن أميركا"سوف تقود نشاطا وجهدا حثيثا"للتوصل إلى"اتفاقية للتسوية النهائية"بين الجانبين بحلول سنة 2005، بعدها بسنة ومن شرم الشيخ المصرية تناول جورج بوش علنا ما أسماه"التزامي ببذل الجهد والطاقة اللازمين لتحريك العملية قدما". وفي كل مرة كان بوش ينسف بأفعاله ما أعلنه بأقواله .. تاركا لوزير خارجيته الخروج بتفسير إلى العالم. وذات يوم كلف الرئيس جورج بوش وزير خارجيته كولن باول بجولة أولى في الشرق الأوسط محورها اسرائيل، واقفا أمام الكاميرات في حديقة البيت الأبيض إعرابا عن تكليفه ودعمه لوزير الخارجية في مهمته. لكن بمجرد أن استقل وزبر الخارجية الطائرة مغادرا غير الرئيس الأميركي تعليماته إلى وزير خارجيته. وطوال وجود كولن باول في اسرائيل والمنطقة كانت تتصل به يوميا كوندوليزا رايس - وهي وقتها مستشارة الأمن القومي - لكي تبلغه باعتراضات البيت الأبيض على تصريح أو آخر يكون قد أدلى به. الآن، بأثر رجعى، يقول كولن باول عن تلك المحنة:"تلك كانت عشرة من أكثر الأيام تعاسة في حياتي". لو كانت تلك إدارة دولة في العالم الثالث لقلنا إنها غير مفاجئة. لكنها إدارة القوة العظمى المنفردة حاليا ومؤقتا بعرش القوة العالمية. القوة التي لم تتعظ من أفغانستان ولا من العراق، فاصبحت الآن تسعى إلى الاشتباك مع المزيد من الدول، وتختار ايران مثلا لكي تلفق لها أوزار مشاكل الشرق الأوسط التي خلقتها أميركا نفسها. إنه سيناريو يذكرنا فورا بما روجت له نفس الإدارة الأميركية من قبل لفكرة أن العراق خطر على المنطقة والعالم. وحينما تنفصل دولة عن الحقائق إلى هذا المدى، أو هي تعرف الحقائق لكنها تريد من العالم كله تقبل أوهام متعمدة من تأليفها، يصبح على العالم باتساعه ألا ينام مطلقا وهو حتى... شبه مطمئن لأي مما يجري. * كاتب مصري.