بالتأكيد سيجد المؤرخون في المستقبل مهمتهم أكثر سهولة حينما يعيدون فحص ملف "المسألة العراقية". إنما في الوقت الراهن لا يزال هناك إصرار عنيد على المراوغة والتحايل والخداع كلما فرضت الأحداث الجارية على السياسيين في واشنطنولندن مواجهة التساؤلات المتجددة من الرأي العام داخلياً وخارجياً. في المؤتمر الصحافي الأخير للرئيس جورج بوش يوم الثلثاء 13/4/2004 - وهو الثالث فقط له منذ تولّيه السلطة - استبعد بوش بكل بساطة أية أسئلة لا يريد اعطاء أجوبة جادة عليها. هل أصبح الموقف في العراق يتطلب قوات أميركية اضافية؟ اسألوا الجنرالات. كم من الزمن ستبقى القوات الأميركية في العراق؟ قواتنا ستبقى في العراق بالقدر الزمني الضروري وليس بعدها بيوم واحد. الى من ستسلم السلطة في العراق بعد 30 حزيران يونيو المقبل؟ الإجابة عند مندوب الأممالمتحدة:. وهكذا. كانت تلك المراوغة موجودة دائماً منذ البداية، بل من قبل البداية. يوم الأحداث الإرهابية في نيويوركوواشنطن في 11/9/2001 كانت كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس بوش للأمن القومي ستُلقي خطاباً يلخص الأولويات السياسية والاستراتيجية للإدارة. وأخيراً تبين بأثر رجعي أن تلك الأولويات تتركز أساساً في برنامج ضخم ومكلف من الدفاع الصاروخي وفي العلاقة القلقة مع الصين. وتبين - وبأثر رجعي أيضاً - أن غزو العراق واحتلاله كان هو الأولوية السرية المطلقة للإدارة منذ يومها الأول. ومن كتاب بول أونيل وزير الخزانة وقتها في الإدارة الجديدة عرفنا أن الرئيس جورج بوش أثار مسألة غزو العراق هذه في الاجتماع الأول الذى عقده لطاقم الأمن القومي ووزير الخزانة نفسه عضو فيه ولم تكن مضت سوى أيام قليلة على وجود جورج بوش في البيت الأبيض. وعرفنا أخيراً أيضاً من كتاب جديد لريتشارد كلارك منسق مكافحة الأرهاب في البيت الأبيض أنه بعد ساعات قليلة من أحداث أيلول سبتمبر 2001 ضغط الرئيس بوش على بعض مساعديه للبحث عن ذرة معلومات - أو شبه معلومات - تربط العراق بتلك الأحداث. وعرفنا كذلك أن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع طرح غزو العراق في التو واللحظة بمعلومات أو بغيرها. وعرفنا أيضاً وأخيراً من كتاب جديد لبوب وودوارد أن في خلال أقل من شهرين من أحداث أيلول أعطى الرئيس بوش أمراً لوزير الدفاع رامسفيلد بإعداد الخطط العسكرية سراً لغزو العراق واحتلاله، ومن دون أن يرجع وقتها الى مستشارة الأمن القومي أو وزير الخارجية مُنبِّهاً عليه بأن يظل الأمر بالغ السرية داخل الإدارة والبيت الأبيض. وعندما لزم الأمر إبلاغ الجنرال تومي فرانكس، قائد المنطقة المركزية وقتها التي تدير الحرب في أفغانستان، تفوّه الجنرال بألفاظ نابية خارجة لأنه رأى في هذا التوجه انحرافاً عن الشعار المعلن بالحرب ضد الإرهاب. بالطبع اضطر الجنرال فرانكس بعدها كمعظم الجنرالات الى مسايرة قرار البيت الأبيض في نهاية المطاف، لكن الملفت هنا هو قدر الخداع والتضليل الذي مارسته الإدارة على الرأي العام الأميركي ذاته . وحينما تجرّأ الجنرال اريك شينيسكي مثلاً - وهو وقتها رئيس أركان القوات البرية الأميركية - على التصريح علناً بأن غزو العراق واحتلاله سيتطلب مئات عدة من آلاف الجنود الأميركيين سخر منه مسؤولو الإدارة علناً، وبعد قليل أُحيل الى التقاعد. وفي سعي الإدارة للحصول على تفويض بالحرب من الكونغرس الأميركى رفضت بإصرار اعطاء أية تقديرات مالية بتكاليف الحرب. وحينما اجتمع عدد من الأعضاء النافذين في مجلس الشيوخ الأميركي مع وزير الدفاع رامسفيلد بحثاً عن اجابات لتساؤلات الرأي العام أفحمهم الوزير بأنه اجتمع بهم ليتحدث هو اليهم وليس للإجابة على أية أسئلة منهم. وأشاعت الإدارة من البداية مناخاً من الارهاب الفكري لم تألفه الحياة السياسية الأميركية منذ عقود طويلة. انها لم تصادر فقط حريات وضمانات شخصية اعتز بها الأميركيون طويلاً، وإنما هددت كل من يخالفها بأنه ضعيف الوطنية تعني سنتيمتراً واحداً من الخيانة العظمى. هناك شعار رفعته الإدارة منذ البداية هو "من ليس معي فهو مع الأرهاب": لم يكن موجّهاً الى العالم فقط وإنما أيضاً الى الشعب الأميركي ذاته. وظلت خطط الإدارة وبرامجها سرية دائماً انعكاساً لعقلية جديدة فرضتها على الجميع. ولم تطرح الإدارة مطلقاً رؤية حقيقية جادة للأسباب والنتائج بدءاً من أحداث أيلول نفسها والوضع مستمر حتى الآن وكلما حاصرتها الأسئلة غيّرت الموضوع. فقط كل ما عندها هو حلول عسكرية خارج أميركا وحلول بوليسية داخل أميركا. ومن المهم في هذا السياق أن نتوقف ملياً عند توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الذي اختار من اللحظة الأولى أن يكون التابع الأمين والخادم المخلص لأولئك المحافظين الجدد الذين سيطروا بالكامل على السياسة الأميركية. وأخيراً فقط عرفنا باتفاق سري أُبرم على مائدة عشاء بعد أحداث أيلول بين الرئيس الأميركي جورج بوش، ورئيس الوزراء البريطانى توني بلير. الاتفاق كان على غزو العراق واحتلاله والذي كشف عنه أخيراً هو كريستوفر ماير سفير بريطانيا وقتها لدى واشنطن وبصفته تلك كان حاضراً العشاء - تسعة أيام فقط بعد الأحداث - وما تلاه. في حينها كان العالم كله متعاطفاً مع الشعب الأميركي ومتقبلاً - ولو على مضض - التوجه العسكري الأميركي نحو أفغانستان. لكن في تلك الليلة أفصح الرئيس الأميركي لتوني بلير سراً بأن هدفه الحقيقى المقبل هو العراق. معك يا جورج:. والسر في بئر. السر سنحجبه عن العالم كله وبئر البترول كفيل بالتكاليف والفوائد. الآن - وبأثر رجعي - ليس ملفتاً فقط ذلك الالتزام السري المبكر من توني بلير: وانما الملفت بدرجة أكبر هو ما بذله في ما بعد لإخفاء ذلك الإلتزام كاملاً عن أعضاء حزبه وكل أعضاء حكومته في لندن. فبعد الانتهاء من أفغانستان دارت الآلة الدعائية الأميركية للتعبئة محلياً ودولياً باتجاه خطر ماحق وشيك اسمه العراق لديه أسلحة دمار شامل مرعبة يهدد بها جيرانه والولاياتالمتحدة ذاتها. وفي 26/7/2002 سجّلت كلير شورت الوزيرة وقتها في حكومة توني بلير ضمن يومياتها الخاصة أنها عبّرت لرئيس الوزراء عن قلقها من الدعايات الرائجة وطلبت منه عرض المسألة للنقاش في اجتماع مقبل لمجلس الوزراء هو الأخير قبل اجازات الصيف. يومها أجابها توني بلير بأن هذا غير ضروري حيث مسألة العراق لا تستحق، كما أنه لا يوجد قرار أميركي في شأنها. وما أخفاه رئيس الوزراء البريطاني عن الوزيرة - ونعرفه الآن - هو أنه في الأسبوع نفسه أوفد الى واشنطن مستشاره الخاص للسياسة الخارجية ديفيد باتينغ ليجتمع بالرئيس الأميركي جورج بوش ومستشارته للأمن القومي كوندوليزا رايس لاستكمال التنسيق في شأن احتلال العراق وغزوه. مسؤول أميركي في مكتب ديك تشيني نائب جورج بوش أفصح أخيراً أنه بعد تموز يوليو 2002 قرأ تفريغاً مكتوباً لنص مكالمة هاتفية بين جورج بوش وتوني بلير مستخلصاً منها انطباعاً بأنهما "اتفقا على أن لا بد من التخلص من صدام أياً تكن النتائج: وبلير لم يكن محتاجاً الى أي اقناع" من جانب بوش. ويقول المسؤول الأميركي: "قبل تلك المكالمة كان احتمال الحرب مرتفعا لكنه لا يزال أقل من مئة في المئة. بعد المكالمة أدركت أن الصفقة - بين بوش وبلير - منتهية". في 9/9 /2002 سافر توني بلير الى كامب ديفيد للاجتماع مع جورج بوش ونائبه ديك تشينى، في ما بدا أنه مناقشة للمسات الأخيرة. يومها تسجل كلير شورت الوزيرة في حكومة بلير في يومياتها الخاصة: "حينما طلبت من توني مناقشة مسألة العراق في اجتماع وزاري أجابني بأن لا يوجد أي قرار وشيك يستدعي ذلك. انما في اليوم نفسه علمت أنه أعطى تعليمات سرية بوضع عشرين ألف جندي بريطاني في الخليج في حال الاستعداد" . فلنتوقف هنا قليلاً لنتذكر الملابسات. في الجانب الأميركي كانت هناك تعبئة متزايدة للحرب في العراق واعلان متردد من جورج بوش بأنه سيضع الأممالمتحدة أمام امتحان أخير ونهائي: إما أن تعطيه تفويضاً مفتوحاً بالحرب لغزو العراق أو تصبح مستقبلاً عديمة الشأن والاعتبار. العالم وقتها لم يستغرب فقط تلك البلطجة وانما استغرب بدرجة أكبر مزايدات توني بلير على صقور واشنطن وحماسه المفرط لاصطياد العراق. انما بلير بفذلكته التي كشف العالم دوافعها لاحقاً حاول أن يوهم الجميع - خصوصاً شركاءه في الاتحاد الأوروبي - بأنه فقط يساير الادارة الأميركية المتعطشة لغزو العراق واحتلاله سعياً الى التقليل من غلوائها وإعادتها الى الشرعية الدولية من خلال الأممالمتحدة. لنتذكر أيضاً أن العالم كله في حينها كان يغلي غضباً من رعونة الادارة الأميركية ويضغط من أجل اعطاء فرصة جادة وحقيقية لمفتشي الأممالمتحدة بقيادة هانز بليكس بحثاً عن الحقيقة. حتى فرنسا عرفنا أخيراً بأنها أوفدت الى واشنطن مبعوثاً رئاسياً في 13/1/2003 ذهب بصحبة سفير فرنسا في واشنطن الى البيت الأبيض لنقل عرض محدد من الرئيس شيراك: فلتوقف الولاياتالمتحدة ضغوطها على أعضاء مجلس الأمن للحصول على قرار جديد يفوضها بالحرب لأن هذا ضد الشرعية الدولية:. أو تختار الذهاب الى الحرب بعيداً من الأممالمتحدة وستلتزم فرنسا حينها بالهدوء. بالطبع أميركا ركبت رأسها بتصفيق من توني بلير وضاعفت من ضغوطها على أعضاء مجلس الأمن الدولي: دولة بعد دولة . لقد تبين لاحقاً أن الاستخبارات البريطانية استجابة لطلب أميركي تولّت التجسس والتصنت على اتصالات ومقابلات كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة وهانز بليكس كبير المفتشين وأيضاً على الدول الست "المتأرجحة" الأعضاء في مجلس الأمن أنغولا والكاميرون وغينيا وتشيلي والمكسيك وباكستان لمنعهم من التقدم بمشروع قرار يعطي مهلة جديدة لمفتشي الأممالمتحدة لاستكمال مهمتهم في العراق كبديل عن الحرب. وبالطبع قبل هذا وبعده لنتذكر الدور الذى لعبه توني بلير في طرح ملفات استخباراتية عن أسلحة دمار شامل في العراق تهدد المصالح البريطانية في الخليج وجزيرة قبرص جاهزة للاستخدام خلال45 دقيقة:. الخ. كان هناك تناغم مدهش بين توني بلير و"المحافظين الجدد" في واشنطن. الأخيرون كذبوا وضللوا وخدعوا واحتالوا كفريق واحد عرفنا اخيراً من كتاب بوب وودوارد أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول كان يسميهم "فريق الغستابو" بقيادة ديك تشيني نائب الرئيس. وللتّذكرة فأن "الغستابو" هي تلك المنظمة التي مارست كل الأعمال السرية والتلفيقية الدنيئة في ألمانيا النازية. الحرب وقعت اذن ولم يكن هذا ممكناً إلا بذلك الجبل من الخديعة والتضليل. والآن تعاني أميركا من نذر العواقب بما اضطرها أخيراً الى تمديد خدمة عشرين ألف جندي ضمن 135 ألفاً موجودين في العراق، كما أن البحث جار للدفع بقوات أكثر وأكثر الى العراق. أخيراً قرأت لبول كنيدي، ذلك المؤرخ الرصين الحصيف، مقالاً يطرح فيه فكرة مدهشة خلاصتها: ان الادارة الأميركية الحالية تواجه أخيراً مأزقاً صعباً هو: كيف تدبر قوات عسكرية اضافية تبعث بها الى العراق. * كاتب مصري.