جملة واحدة جعلت من المستجيل على العراق ان يبين عدم امتلاكه اسلحة دمار شامل هي جملة "عبء الإثبات". وهذا ما يدركه جميع الذين يعترفون الآن ب"خطأ" تقدير الترسانة العراقية من أسلحة الدمار الشامل، انما يتمسكون ب"صحة" قرار الحرب. كل هذا الاستدراك، وكل هذا الاقرار، وكل هذا الاعتراف بعدم وجود الأسلحة التي كانت مبرراً للحرب ليست سوى عملية تبييض للحرب التي تم تسويقها على أسس زائفة، أبرزها الأسلحة المحظورة والربط بين العراق والارهاب وبين صدام حسين وارهاب 11 ايلول سبتمبر في الذهن الاميركي. ان يقال ان العراق أفضل من دون صدام حسين، كلام مقبول. وان يقال ان ازاحة صدام حسين من السلطة لم يكن ممكنناً بالعمليات العسكرية في حرب اميركية، كلام صحيح. اما ان يُزعم ان عدم اكتشاف الأسلحة يشكل مفاجأة، ففي هذا تحايل على حقائق وتغطية على قرارات سياسية مبيّتة ليس لإدارة جورج بوش فحسب، وانما ايضاً لإدارة بيل كلينتون قبله ولشخصيات عدة في الساحتين الاميركية والدولية. موضوع العراق قد يصبح القضية الحاسمة في الانتخابات الاميركية وفي مستقبل رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، ليس لأن الفرد الاميركي والبريطاني العادي يضع مستقبل العراق في حساباته قبل الاقتصاد، وانما لأن أخذ اميركا وبريطانيا الى الحرب على أسس زائفة فضيحة لم تكتمل فصولها بعد. لا أحد في اميركا وبريطانيا يندم على مصير صدام حسين، والكل يعترف بأن العراق أفضل من دونه. لكن هذا لا يزيل أمرين اساسيين: أسباب وذرائع الحرب من جهة، وافرازاتها على الساحة العراقية وعلى القوات الاميركية والبريطانية من جهة اخرى. القيادتان الاميركية والبريطانية وافقتا الآن على اجراء تحقيق مستقل في اسباب اخطاء الاجهزة الاستخبارية عندما أفادت ان العراق امتلك الأسلحة المحظورة وأقام علاقات مع شبكة "القاعدة". لكن ادارة جورج بوش وحكومة توني بلير حرصتا على ألا يجري التحقيق في قراراتهما السياسية في شأن الحرب، ولذلك فإن فكرة التحقيق المستقل المحصور محاولة اخرى للحماية من المساءلة والمحاكمة. تقرير رئيس فريق التفتيش الاميركي ديفيد كاي الذي أطلق تعابير "أخطأنا" و"أخطأت"، حقق أمرين لإدارة بوش: فهو أولاً، في اعلانه عدم العثور على أسلحة الدمار الشامل واستبعاده وجودها حذف المساءلة في المسألة اثناء فترة انتخابية، وبالتالي خدم جورج بوش خدمة كبيرة. ثانياً، قدم ديفيد كاي خدمة أخرى للرئيس الاميركي ولأقطاب ادارته عندما حمّل الأجهزة الاستخبارية مسؤولية الفشل في التقدير، وحرص تكراراً على تبرئة الادارة من ممارسة الضغوط على اجهزة الاستخبارات للتوصل الى استنتاجات تتماشى مع افتراضات وسياسات وضعتها الإدارة الاميركية التي كانت اساساً قرارات خوض الحرب. هدية ديفيد كاي الى بوش ثمينة لأنه أغلق له ملف المساءلة في مصير الأسلحة التي وعد بالعثور عليها، ولم يفعل... ولأنه ايضاً وفرّ لبوش فرصة التكليف بإجراء تحقيق مستقل لن تظهر نتائجه إلا بعد انتهاء الانتخابات يمكنه الى ذلك الحين رفض التحدث فيه لأنه هيئة "مستقلة" لا يجوز لرئيس اميركي التعليق عليها. أما اكتشاف "الخطأ" الذي تحدث عنه ديفيد كاي فإن المدهش فيه هو الدهشة ذاتها. فقد كان جلياً لأي مراقب للملف العراقي ان ادارة جورج بوش تعمدت قطع الطريق على المفتشين الدوليين الذين وافق العراق على استئناف عملهم في العراق ومد لهم كل تعاون ممكن، بعدما أدرك ان الحرب تُعدّ. كاي، وهو مفتش سابق مع لجنة "اونسكوم" للأمم المتحدة في أوائل التسعينات، وعُرف بما اعتبره العراقيون استفزازاً وعملاً لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية، كان يعلم تماماً قبيل الحرب بمعادلة "عبء الإثبات"، كان ايضاً يكن بعض الازدراء للمفتشين الدوليين في لجنة "انموفيك" التي حلت مكان "اونسكوم"، وكان يترأسها هانز بليكس. هانز بليكس وقع وأوقع "انموفيك" في فخ "عبء الإثبات" فوضع التعرف الى حقيقة ما امتلكه أو لم يمتلكه العراق من أسلحة دمار شامل قبيل الحرب في خانة الاستحالة. فمعادلة "عبء الإثبات" وضعت ذلك العبء على العراق، بمعنى ان عليه اثبات براءته من امتلكه الأسلحة المحظورة. حكومة صدام حسين امتلكت الأسلحة الكيماوية والبيولوجية عند غزوها الكويت عام 1990 ثم بعد الحرب الأولى عام 1991 قامت، حسب قولها تكراراً، بتدمير انفرادي للأسلحة وكذلك للوثائق عنها لاخفاء أثرها. بليكس حمّل بغداد مسؤولية الاخفاء الى حين تقدمها بوثائق تثبت التدمير. انما لأن هدف التدمير الانفرادي كان الاخفاء، لم تتوافر الوثائق لإثباته. وهكذا الحلقة المفرغة. وهكذا استحالة معادلة "عبء الإثبات". وهكذا وقعت حرب الوثائق والبرامج والنوايا وقدرات العلماء العراقيين. هكذا وقعت الشكوك، وحرب "عبء الإثبات" التي لم تجد أثراً لأسلحة الدمار الشامل في العراق. المفتشون الدوليون دمروا قدراً أكبر بكثير من الأسلحة المحظورة في العراق مما دمرته حربان: حرب ادارة جورج بوش الأب وحرب ادارة جورج بوش الإبن. على رغم ذلك كانت الحرب الأخيرة باسم الحرب على أسلحة الدمار الشامل التي شكلت تهديداً لأميركا وللعالم. ادارة بيل كلينتون تبنت سياسة الاحتواء ورفضت تنفيذ قرارات مجلس الأمن التي نصت على رفع الحظر النفطي عن العراق بموجب الفقرة 24 من القرار 687 لدى تنفيذ العراق مطالب لجان نزع السلاح. فلقد كان خوفها من رفع الحظر استئناف العراق برامج التسلح، فعكفت على مطالب تعجيزية وعلى رفض التعامل مع الفقرة 24 من القرار 687. وهي بدورها عطلت عمداً استكمال عمل المفتشين الدوليين لأنها ايضاً كانت تدرك ان الأسلحة المحظورة تمت ازالتها من العراق. فهي قتلت "اونسكوم" ثم جاءت ادارة بوش لتقتل "انموفيك" عمداً. لذلك، كل هذه الدهشة بعدم اكتشاف اسلحة دمار شامل في العراق دهشة مصطنعة. الاجهزة الاستخبارية كانت تعلم تماماً ماذا في العراق وماذا لم يعد فيه من أسلحة محظورة، وكذلك الاجهزة السياسية ربما فقط بعض "الخبراء" والمحللين كان حقاً على خطأ في تقدير ماذا في العراق ولماذا الحرب. وربما ايضاً وزير الخارجية كولن باول. قبل سنة تماماً عرض باول سيناريو الرعب في مجلس الأمن بإعلانه عن كميات "ضخمة" من الأسلحة البيولوجية والكيماوية في حوزة العراق وعن علاقات بين النظام العراقي وشبكة "القاعدة". تحدث عن عمل بغداد على امتلاك اسلحة نووية وعن وجود كميات ضخمة من مواد مثل "الانتراكس" وغاز الأعصاب. ذلك اليوم تحول كولن باول الى واجهة للصقور الذين وضعوا سيناريو الحرب قبل ايجاد مبرراتها، فقدم سيناريو الرعب نيابة عنهم في المحفل الدولي. هذا الاسبوع تحدث باول بلسانين مختلفين: شكك في ان يكون له الموقف نفسه المؤيد لحرب على العراق لو قيل له ان هذا البلد لا يملك ترسانة اسلحة دمار شامل. وشدد على ان غزو العراق كان "القرار الصحيح" مبرراً الغزو بسبب "نيات" العراق وقدراته على صنع الأسلحة ومخاطر نطامه - بغض النظر عن مخزون الأسلحة. كولن باول "جندي" يلتزم الولاء، وهو وزير خارجية في ادارة يريد رئيسها ان يُعاد انتخابه مجدداً. فهو معذور نسبياً، وان كان التاريخ سيعاتبه لاحقاً. انما ذلك الاندفاع بين "المحللين" أو "الخبراء" الى محو أسباب ومبررات وذرائع الحرب بصفتها غير مهمة لأن المهم هو النتيجة - والنتيجة هي خلاص العراق من صدام حسين - فأمر يستحق التوقف عنده لأسباب عدة: لو قيل للأميركيين ان الولاياتالمتحدة ستخوض حرباً "انسانية" لانقاذ العراقيين من نظام مستبد وحرباً "ديموقراطية" لنقل العراق والمنطقة من السلطوية الى الديموقراطية، لما وافقوا على هذه الحرب. فالاميركيون ليسوا مستعدين لإيفاد ابنائهم الى حروب الديموقراطية والانسانية. وهم يدركون ان صدام حسين ليس وحده النظام المستبد في العالم، بل ان لأميركا حروبا سابقة أطاحت ديموقراطيات وأتت بديكتاتوريات. وبالتالي، ان السؤال الرئيسي الذي يستحق الأميركيون والبريطانيون، وكذلك العرب والعالم، الإجابة عنه هو: هل تعمدت الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية بمساعدة الحكومة الاسبانية تضليل الرأي العام؟ وما هي الأسباب الحقيقية وراء الحرب، عدا مزاعم خلاص العراق من صدام حسين الذي تحول من شريك وحليف في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات إلى عدو في التسعينات وما بعد. أي تحقيق "مستقل" لا يتناول هذه الأسئلة سيكون مجرد تغطية وتعمّق في التضليل. وكل دفاع عن قرار الحرب بغض النظر عن مبرراتها، ليس سوى تصديق على التضليل. وللتأكيد، وكي يكون النقاش مفيداً، من الضروري ألا يوضع في نطاق وإطار صدام حسين. فهو بالتأكيد أتى بالبلاء ضد إيران، وكذلك عندما قام بغزو الكويت في حرب "الطمع"، وعندما تلاعب مع الأممالمتحدة في حرب "المكابرة". فالمسألة أكبر بكثير من صدام حسين الذي سار تماماً على الخطى التي رسمتها له كل إدارة أميركية وليس فقط إدارة جورج دبليو بوش التي وجدت فيه النموذج الأفضل لتطبيق العقيدة "الاستباقية" في حرب العراق. كما أن النقاش يجب ألا يكون على حساب العراق. فهذا البلد يستحق الدفع به إلى التعافي بدلاً من استخدامه ساحة لحروب الآخرين. التاريخ سيسجل لاحقاً لأميركا ما إذا كانت نتائج حربها الاستباقية في العراق مبرراً كافياً للتضليل، فإذا جاءت النتائج بسيطرة أميركية على منابع النفط في "الشرق الأوسط الأكبر" وضمان استمرار تفرد أميركي بالعظمة، قد ينسى الأميركيون العاديون حكاية التضليل ليتذكروا الفوائد منها. أما إذا تحول العراق إلى مستنقع تغرق فيه الولاياتالمتحدة، فستهب رياح الاحتجاج الحقيقي في الساحة الأميركية. حكم التاريخ من وجهة نظر بقية العالم سيختلف عن تقويم وقراءة الأميركيين للتاريخ، والتاريخ في أوله، أميركياً. عراقياً، الأمر أصعب وأكثر تعقيداً. فليست أميركا وحدها من يستخدم العراق ساحة حرب على الإرهاب، وإنما كذلك غرباء من نوع آخر. وتلك المجزرة القبيحة اللاأخلاقية في أربيل ليست سوى مثال واحد على فحش الكراهية والتعصب الأعمى. فالعراق ما زال ساحة مفتوحة تقع فيها "الأخطاء" ثم "الاعتراف" ثم "الاستدراك" ثم "الأخطاء"... وليس بالضرورة سهواً. فهناك أخطاء مدروسة لا يكفي الاعتراف بها لمحوها ولتجنب المحاسبة.