عند مقاربة موضوع"الاستقواء بالخارج"في تاريخ العرب الحديث والمعاصر لا بد من تحديد الإطار التاريخي والرقعة الجغرافية للبحث، لئلا نغرق في بحر واسع من الأمثلة والنماذج والظروف التي شهدت سياسات من هذا القبيل. كما ان اتساع العالم العربي يقودنا الى أخذ كل كيان عربي أو بلد أو قطر على حدة للدخول أيضاً في خصوصياته وتفاصيل تكونه ونشأته، ما يثقل المقاربة ويعطل إمكان الوصول الى استنتاجات ضرورية ومفيدة قادرة على استشراف آفاق المستقبل، لا سيما ان التاريخ الخاص لنشوء هذه الكيانات وتثبيت حدودها الجدية والمحددة والنهائية مرتبط بسقوط الامبراطورية العثمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 وقيام كيانات عربية وأقطار ذات حدود معترف بها اقليمياً ودولياً. يعتقد كثير من المؤرخين بحدث تاريخي طاغٍ يشكل مفصلاً لتحول مسار التاريخ، فينهي حقبة زمنية انقضت ويدشن أخرى بدأت، فهل ان حملة بونابرت على مصر 1798 هي الحدث، الذي يصلح للتأسيس عليه واعتماده بداية لتاريخ المنطقة العربية الحديث؟ إلا أن هذا الحدث على أهميته بالنسبة الى مصر واعتباره منعطفاً تاريخياً حاسماً يحتم القبول به وإقراره على مضض، يظل مبدئياً ونظرياً أكثر منه عملياً بالنسبة الى سائر أقطار المنطقة. ذلك ان طبيعة السلطة الحاكمة والعلاقات الاجتماعية السائدة ومدى تطور وسائل الانتاج والتبادل لم تتغير في الأقطار العربية الأخرى، كما جرى في مصر ابتداء من حكم محمد علي 1769 - 1849. فغالبية الأشياء لم تتغير البتة عندنا ولا شهدت تحولات ملحوظة وجدية كمصر بفعل تلك الحملة والتحولات التي أحدثتها هناك، بل كانت الحملة أشبه بحادث تاريخي سطحي وعابر، فالناس في سائر المناطق العربية الأخرى من الامبراطورية العثمانية لم تأبه كثيراً لذلك المنعطف، وظلت ترزح تحت واقع اجتماعي اقتصادي سياسي أقرب الى القرون الوسطى منه للعصر العربي الحديث. شهدت مصر آنذاك تحولات مهمة وقفزة نوعية في الإمكان وصفها بعصر النهضة الصحافة المطبوعة، الدراسات العلمية، البعثات الى الخارج، الصناعة الحربية، تحديث الجيش، إنشاء المستشفيات، زراعة القطن واحتكار الدولة له.... بل في الإمكان الادعاء ان التقدم العلمي والتطور الذي أحدثه لم يطاول في مصر نفسها كل الشرائح الاجتماعية وظل محصوراً بفئات اجتماعية حاكمة دون سواها. فالقديم والموروث وسيطرة الأمية والجهل والتخلف بقيت طاغية على الأوساط الشعبية وغالبية السكان. يومها، وتمهيداً للاستقواء على الامبراطورية العثمانية استطاع هذا الرجل المتنور محمد علي، على رغم ضحالة ثقافته الشخصية، ان يكتشف بحدسه أهمية الحداثة والعصرنة والتطور الذي ميّز مرحلة الحكم النابوليوني لفرنسا وما رافق ذلك من انتصارات عسكرية وإصلاحات اجتماعية ومؤسسات ثقافية وتعليمية وقوانين عصرية، فأطلق في مصر نهضة واعدة ومميزة أحدثت صدمة تاريخية مهمة. إلا ان هذه الاصلاحات ظلت محدودة داخل مصر، لكنها في الخارج مكنته من انزال هزائم عسكرية ساحقة بجيوش السلطنة والسيطرة على كل سورية الطبيعية، وقد ارتبط اسمه باسم ذلك الضابط الفرنسي التي تكفل بتطوير الجيش المصري وعصرنته وهو الكولونيل سيلف Selve الذي اعتنق الإسلام فأصبح سليمان باشا الفرنساوي. إلا ان هذا الاستقواء بفرنسا الذي حقق انجازات عسكرية مهمة ودعماً فرنسياً مطلقاً في المحافل الأوروبية ما لبث أن ضعف حيال استقواء اسطنبول بالدعم البريطاني فأكرهت محمد علي على الجلاء عن سورية عندما حرضت عليه مدعومة من الانكليز الاصطفاف الطائفي اللبناني عامية انطلياس عام 1840. وبالفعل أنجز محمد علي استقلال مصر والسيطرة على السودان، لكن المصالح الأوروبية حالت دون تحقيقه كل أحلامه، خصوصاً بعد بروز المخاوف الأوروبية من تصاعد النفوذ الروسي في البلقان على حساب الامبراطورية العثمانية وقيام الأزمة الدولية المسماة"المسألة الشرقية"1854. في تلك الفترة كانت فرنسا التي استكملت ثورتها الصناعية تحتل الجزائر 1830 وتتطلع الى السيطرة على كل شمال افريقيا معاهدة باردو مع تونس سنة 1881، السيطرة على المغرب 1912 في الوقت الذي كان البريطانيون يسيطرون بأساطيلهم على مناطق مهمة من القارة الأفريقية، في ظل ازدهار المشاريع القومية الإيطالية والألمانية وسيطرة مبادئ بسمارك الداعية الى إنشاء المانيا قوية وموحدة تمسك بزمام السياسة الأوروبية، من دون الالتفات فعلياً لأهمية المستعمرات كمصدر للمواد الأولية والخامات الضرورية لتطوير الصناعة واقتصادها القوي. لا يمكن للاستقواء بالخارج ان يصبح فاعلاً وحاسماً إلا بالاستناد الى التعثر الداخلي والاهتراء، وجرى ذلك عندنا عندما أدى الاقتتال الطائفي الى إجهاض حركة نهوض الفلاحين اللبنانيين حركة طانيوس شاهين وتحويل اتجاه الصراع من مضمونه الاجتماعي الطبقي الى اتجاه آخر طائفي بامتياز. وهكذا شهد لبنان عام 1860 مذابح طائفية خطيرة عبرت سياسياً عن نفسها بمناشدة الفلاحين الموارنة فرنسا التدخل واعتماد الدروز على الدعم البريطاني، فتم إنشاء نظام المتصرفية فأصبح لبنان الجبل يتمتع باستقلال ذاتي داخل الامبراطورية العثمانية يضمنه المجتمع الدولي. وقد أفسح اهتراء وتداعي الوضع الداخلي في الامبراطورية العثمانية المجال لاستقواء الأقليات الدينية والاثنية بالدول الكبرى، فكما شكّل الموارنة امتداداً للنفوذ الفرنسي، وجد الدروز ضالتهم في بريطانيا والارثوذكس سنداً لهم في روسيا، وكان المؤتمر العربي في باريس 1913 دليلاً قاطعاً على استقواء العرب بالدول الكبرى فلم يكن يخفي رئيسه نجيب عازوري راجع كتابه"يقظة الأمة العربية" بحثه عن الدعم الفرنسي والأوروبي. في الوقت الذي راح حكم الضباط الأحرار "تركيا الفتاة" في تركيا يبحث عن الدعم الألماني لمواجهة هذا الاستقواء ويشكل التربة الخصبة لانضمام تركيا لتحالف الدول الوسطى ألمانيا، النمسا - المجر... ودخولها الحرب الشاملة 1914 - 1918. ان الظروف والملابسات التي رافقت قيام الثورة العربية الكبرى ودور الكولونيل لورانس البريطاني في إنشائها وتوجيهها دليل على قصور الوعي القومي العربي وعدم نضجه كفاية ليؤسس حركة قومية مستقلة تعتمد على قواها الذاتية، بل أدى نهج الاستقواء بالانكليز ودعمهم العسكري الى وقوع الحركة القومية في القبضة البريطانية وحليفها الفرنسي. وبدا ذلك واضحاً خلال مؤتمر الصلح في باريس 1920 الذي أنشأ كيانات عربية جديدة على أنقاض الولايات العربية التركية: لبنان الكبير 1920، العراق، سورية، إمارة شرق الأردن، فلسطين الذي أعد وعد بلفور 1917 المنبثق من اتفاقية سايكس - بيكو 1916 الى تحويلها وطناً قومياً للشعب اليهودي... وقد عزز قيام لبنان الكبير من نزعة الاستقواء بالأجنبي الفرنسي تطلعات الشعوب العربية الى الاستقلال، وكانت معركة ميسلون 1920 التعبير الصارخ عن هذا الاستقواء. تنازع تركيبة لبنان الكبير منذ سنة 1920 اتجاهان متناقضان مرتكزان على الاستقواء بالخارج: فمن جهة أنصار النفوذ الفرنسي الانتدابي والمتمثل بالمارونية السياسية التي نعمت بامتيازات خاصة في السلطة والادارة، ومن جهة اخرى الاتجاه المعاكس الرافض للكيان الجديد، ويتمثل هذا الاتجاه بپ"حزب الساحل"المستقوي بالعمق العربي ذي الغالبية الإسلامية الساحقة. وأدى الشعور بالهزيمة والإحباط عند المسلمين اللبنانيين كما كانت حال غالبية العرب خارج لبنان الى التعلق والرهان والاستقواء بألمانيا التي راحت تشهد صعوداً لا مثيل له لسيطرة النازية على السلطة فيها. ومما لا شك فيه ان حركة الهجرة المتواصلة لليهود باتجاه فلسطين وعززت هذا الاتجاه، ولم يكن الحاج أمين الحسيني، ولا رشيد عالي الكيلاني وانقلابه في العراق لمصلحة المحور 1941 إلا النموذج الآخر لهذا الرهان الطفولي السطحي. وجاء الوعي النسبي لوعي البورجوازية الوطنية اللبنانية بدورها الاقتصادي، ليعبر عن مصالحه بالدعوة الى استقلال لبنان عن الانتداب وإبرام ميثاق 1943 كدستور يضع حداً لهاتين النزعتين المستقويتين بالخارج الفرنسي من جهة والعمق العربي من جهة أخرى. لكن المكونات الطائفية والمذهبية للبنان الحديث وسيطرة التخلف والنوازع العصبية على الدستور والقوانين والحياة السياسية حالت دون قيام الوحدة الاجتماعية الضرورية وتحصين الوضع الداخلي حيال نوازع الاستقواء. فلم تلبث البلاد ان انقسمت عام 1958 بين هذين الاتجاهين المتعارضين، في صراعات حادة. وفي الوقت الذي شهدت المنطقة العربية صعود المشروع العربي القومي بعد حرب 1956 على مصر والأخطار التي مثلتها دولة إسرائيل 1948 وبروز القضية الفلسطينية، كان الاتجاه المعاكس يبحث عن سند خارجي للاستقواء به على الداخل عبر عن نفسه بمشروع ايزنهاور وحلول أميركا عملياً محل النفوذ البريطاني - الفرنسي المتراجع، وكان الاتجاه العربي الأول في ظل الحرب الباردة وجد في الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية سنداً خارجياً قوياً له. وفي الإمكان القول هنا ان بروز المقاومة الفلسطينية المسلحة كذراع عسكرية إسلامية في الداخل اللبناني المهترئ وشعور المسيحيين بالخطر المحدق هما أساس الحرب الأهلية اللبنانية 1975 - 1990. وحاول دعاة الدفاع عن النظام السياسي القديم المنبثق من دستور 1943 الاستنجاد بالنظام السوري للحفاظ على مصالحه، عندما تم تكليفه بالوصاية على لبنان 1976 في الوقت الذي كان النظام الخدماتي المصرفي اللبناني يتعرض لأفدح المخاطر بعد هزيمة حرب حزيران يونيو 1967 وتداعياتها على المنطقة العربية بكاملها. وما لبثت إسرائيل ان اقتطعت تحت نفوذها العسكري 1978 منطقة حدودية مهمة. إلا أن الرهان الماروني السياسي على الدعم السوري راح يتعثر أمام تناقض مصالحه مع مصالح النظام السوري، فجرت الاستعاضة باستقواء من طراز جديد: اسرائيل. إلا ان اسرائيل التي جرى الاستنجاد بها والتي اجتاحت لبنان 1982 لم تكن لتخفي نواياها بتأمين مصالحها في لبنان دون اللجوء الى مواجهة عسكرية شاملة مع النظام السوري. وتميز الفصل الأخير الذي ما زلنا نشهد تداعياته حتى اللحظة على صعيد المنطقة العربية ببروز ظاهرة الجمهورية الاسلامية في ايران وظاهرة الاسلام السياسي. وارتدى الاسلام السياسي في ايران طابعاً مذهبياً قوياً، وكان هذا الطابع عبّر عن نفسه على المستوى اللبناني في ظل مراحل الحرب الأهلية بنشوء حركة أمل كحركة شعبية شيعية تنادي بمقاومة وطنية لبنانية على خلفية صعود نفوذ الطائفة الشيعية، لكن النظام الايراني لم تعد تخدم مصالحه في لبنان حركة شعبية فضفاضة كحركة أمل التي بدت دون برنامج سياسي ومشروع فعلي خارج السلطة القائمة، فانبعثت من رحمها"قوات أمل المؤمنة"التي ما لبثت في بداية الثمانينات ان ولدت"حزب الله"الذي ابتعد بأدائه السياسي عن الصفقات المالية الملتبسة والفساد، بل راح يحظى بعد اتفاق الطائف واطلاق يد نظام دمشق على لبنان بدعم متزايد من الطائفة الشيعية، هو الذي اعتمد على تنظيم حزبي قوي ومتراتب، ودعم عسكري يتمثل بإعداد الكوادر والمقاتلين ومساندة سورية كاملة، بعد زوال الحرب الباردة وبروز حاجة سورية ملحة لدعم خارجي بديل عن الاتحاد السوفياتي: النظام الايراني. هكذا، بعد زوال أهمية المقاومة الفلسطينية في لبنان، برز"حزب الله"كبديل مقاوم لإسرائيل، يستند الى قوة عسكرية متزايدة، فتحول عملياً في الجنوب اللبناني أشبه ما يكون بدولة حقيقية داخل الدولة اللبنانية لها أطرها الإدارية وتمويلها الخارجي والذاتي، جيش حقيقي يستقوي بالنفوذ السوري وبرافعته الغنية بالنفط: النظام الإيراني. وعزز نفوذه من دون شك الانسحاب الاسرائيلي سنة 2000 من الجنوب، ومراكمته خبرات عميقة في حرب العصابات ضد اسرائيل، وتحوله الى قوة سياسية فاعلة في الواقع اللبناني. وأدت التطورات التي أعقبت أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001 ونشوب حرب افغانستان ثم العراق 2003 وسقوط نظام صدام حسين الى تقدم كبير للنفوذ الإيراني في الخليج والشرق الأوسط، تحول"حزب الله"الى قوة عسكرية ضاربة تستند الى محور طهران - دمشق في إمكانها، ليس تفجير حرب حقيقية مع إسرائيل فحسب، بل بالسعي الى وضع لبنان، على حافة الحرب الأهلية اللبنانية من جديد. فإن كانت سورية اضطرت الى سحب قواتها من لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري 2005 والشبهات المحيطة بها في تورط مخيف في هذا الاغتيال، فإن التعثر الأميركي في العراق حيث يستمر نزف الحرب الأهلية المذهبية هناك، يتيح الفرصة لپ"حزب الله"وحلفاء سورية للاستقواء بمحور طهران - دمشق لإعادة انتاج الحرب الأهلية اللبنانية كخيار أخير قد تؤدي تداعياته الى مواجهة اقليمية ذات أبعاد دولية خطيرة قد تكون مقدماتها مشكلة المحكمة الدولية موضوع النزاع الآن. * كاتب لبناني