سوغ رئيس الجمهورية الفرنسية، جاك شيراك ارسال قوة عسكرية مدرعة ومدفعية، بضمانات حصل عليها وفرت للقوة، على زعمه، أفضل شروط الفاعلية والأمن. وهذا ليس ثابتاً. ولكن المسألة، أي ارسال قوات عسكرية في اطار مهمات سلام دولية، هي: لماذا هذه القوات، وفي هذا الاطار؟ وماذا يتوقع منها فعلاً؟ فالنخب السياسية تتبنى، على ما هو ظاهر، ثقافة سلام من غير مشروع سياسي. ويؤدي انقطاع مهمات السلم الدولية من مشروع سياسي ينبغي أن يقوم منها مقام الركن، الى عطالة غير مجدية ولا فاعلة، والى تعريض القوات الى مخاطر كبيرة ناجمة عن عوامل ايديولوجية وجغرافية سياسية جسيمة وراجحة. وپ"ثقاقة السلام"هذه أنتجت ميثاق الأممالمتحدة، عند صياغته، وهي وليدة هذا الميثاق، معاً. وهي ولدت رسماً فكرياً وعملياً أخفق، بالأمس، في بلورة حل للأزمة البلقانية "اليوغوسلافية"، ثم للمشكلة الرواندية في 1996، وقبلها للمشكلة اللبنانية في 1978 وما بعدها، ويخفق اليوم في معالجة الأزمة العاجية. وينهض الرسم على ثلاثة أركان ديبلوماسية وعسكرية لا تحول ولا تزول: وقف اطلاق نار، ثم مفاوضات في سبيل اطار عام لحل النزاع، انشاء قوة فصل ترعى منطقة معزولة السلاح تسمى أمنية ومنطقة حماية واستقرار وثقة، الى آخر الأسماء. والحق أن أزمات حاضرنا ناجمة عن السعي في بلوغ مواقع قوة حصينة. فلا يهدأ القتال، ولا يسكت السلاح وقتاً طويلاً إلا شريطة أن يبلغ العنف حده، ويستوفي غرضه: فإما استنفد الخصمان مواردهما العسكرية، وإما بلغ أحدهما غرضه، وحمل الآخر على دخول"عملية سلمية"هي خير له من المضي على قتال هو الخاسر فيه على مثال خاتمة الأزمة البلقانية في 1995. وما خلا ذلك، يتوسل الخصمان بوقف اطلاق النار، وبالمفاوضات، الى تقوية مواقعهما، وتجديد قواهما. ففي لبنان الجنوبي، يستعمل"حزب الله"وقف النار ليثبت قدمه ويجدد موارده، وفي الوقت نفسه يسعى في بلوغ أهداف سياسية من طرق سلمية. فيقوي مشروعيته بواسطة معالجة الأهالي في مستوصفاته ومستشفياته، ويعوض خسائر الحرب ويوزع المساعدات على الأهالي. ويبادله هؤلاء المساندة والتأييد حين يحتاج"الحزب"اليهما. وفي الأثناء، تستعيد دولة اسرائيل طورها، وتعد العدة لصنف من القتال لم تستبقه نخبها. فمشكلتها باقية على حالها، وهي أمن حدودها الشمالية والشرقية. فوقف اطلاق النار الأخير، شأن اجراءات مثله سابقة منذ 1978، آجلاً أم عاجلاً مصيره الى السقوط والانتهاك. وعمليات السلام منذ ربع قرن تفصل بين قوتين متحاربتين بقوة ثالثة تتولى الأممالمتحدة تشكيلها. وتقوم هذه العمليات على نكرانٍ استراتيجي وتكتيكي. فالفصل يفترض أن الخصمين يميلان الى المفاوضة، ويقدمانها على القتال واستمراره. وعلى هذا، فحياد القوة الثالثة أو الفاصلة نظري خالص، وغير فعلي. وينظر المتقاتلون الذين لم يرجعوا عن أهدافهم من وراء القتال، الى عناصر قوات الفصل المبعثرين نظرتهم الى احجار أو بيادق على رقعة تنافسهم. فيعمدون الى تحريكها على هواهم، وبحسب مصالحهم. وتتخلل القوات المقاتلة المناطق التي تنتشر فيها قوات الفصل، وهي تقع غالباً على الحدود بين ميدانين. ويعرقل انتشارها على هذا النحو حاجة المقاتلين الى حرية الحركة أو الى التجمع. فإذا تجدد القتال في المناطق المنزوعة السلاح، وهي مناطق يفترض في قوات الفصل السيطرة عليها، لم يبق من حالها إلا نعتها اللفظي. ومنذ ربع قرن، في لبنان والبوسنة وشاطئ العاج، تتكرر صورة الحوادث، ويتخذ المتقاتلون مواقع قوات الفصل رهينة، ويقصفونها، ويتسللون اليها فيحفرون الخنادق والسردايب تحتها، على ما حصل في البوسنة من قبل، وفي لبنان الجنوبي أخيراً. وفي مثل هذه الحال، وأياً كانت قواعد الاشتباك الميداني وشروطها القانونية والمشروعة، تعجز قوات الفصل عن العمل بموجب هذه القواعد. فالسلم إما أن يقبله الخصمان، ويرعى قبولهما حياد قوات الفصل، وإما يرفضه أحدهما، أو كلاهما، ويترتب على مبادرة القوات الدولية الى الرد انحيازها السياسي الى أحد المعسكرين. فهي، والحال هذه، قوات فرض السلام وليست قوات فصل. وتفترض"عقيدة"ثقافة السلام الأممية نسبة الى الأممالمتحدة أن الخصوم، جماعات أم دولاً، يميلون الى السلم ويقدمونه على الحرب والعنف. وعلى هذا، تبوأت المفاوضة مكان الصدارة من مساعي حل المنازعات. ودعت رعايةُ المفاوضات الأممالمتحدة، والهيئات الدولية عموماً، الى الحياد بين المتنازعين والمتقاتلين، والمساواة بين المعتدي والمعتدى عليه. وفصلت الديبلوماسية من الأعمال العسكرية، وسلخت الواحدة عن الأخرى، وقصرت الأعمال العسكرية على حماية إمداد المساعدات الإنسانية في الصومال ويوغوسلافيا سابقاً، وعلى الفصل بين القوات المتقاتلة بعد المفاوضة على وقف النار. وتلتزم الديبلوماسية، ميدانياً، غاية سياسية واحدة هي السلام. وفي معظم الأحوال التي تولت قوات دولية الاضطلاع فيها برعاية المفاوضات ووقف النار والسلام، أدى اعلان الهيئة الدولية عن مفاوضة جديدة، في المرات كلها، الى انتهاك وقف النار القائم، واندلاع الحرب من جديد سعياً في السيطرة على أراض تستعمل للمقايضة على طاولة المفاوضات. ومن وقف نار الى آخر، ومن فصل قوات يليه فصل آخر، تعوله القوات الدولية على رغبة المتحاربين المفترضة في السلام، وتفتقد هدفاً استراتيجياً يربطه رابط مفهوم بالعمل الديبلوماسي أو يربط العمل الديبلوماسي به، وأدت الحال هذه الى تناثر عمل الجهاز الدولي، قواتٍ عسكريةً وديبلوماسيةً، على نحو ما أدى تخلل انتشار القوات خطوط الجبهات القتالية الى تحول الجنود رهائن في أيدي المتقاتلين. وامتحنت الأزمة البلقانية"العقيدة"الأممية، وبلت معاييرها وقيمها الانسانوية وتعويلها على الحوار وعلى عقلانية المتحاربين. ولكنها أغفلت أو تجاهلت فعل ديناميات الحرب والسلطة في المنازعات، وأثرَ الولاءات المتقلبة، وضعف استقلال المتخاصمين، في تجدد القتال وتغذية مطامع المتقاتلين. وفي صدارة ما تهمله ثقافة السلام حين تتولى رعاية أزمة، هو استراتيجيات القيادات المتربعة في رأس عصبيات أهلية وسعيها في جباية ريوع مكانة وأحوالٍ مضطربة يخلفها تصدع الأبنية السياسية المركزية. ويتيح تصدع الأبنية المركزية، ومصادرة الربوع والعوائد، تعبئة المدنيين وتسليحهم وتجنيدهم في منظمات شبه عسكرية وميليشيات محلية وسياسية جرمية مافياوية أو دينية مذهبية. وأفضى رضوخ القوات الدولية للمنطق الميداني هذا، الى التخلي عن مبادئ وأصول تكتيكية جوهرية لا يُعقل عمل عسكري إلا بها، مثل مركزة العوامل، وضمان أمنها، واشتراط حرية حركتها. فأقدم ضباط فرنسيون، وغير فرنسيين، في البوسنة على مفاوضة المتحاربين، وقبول الانتشار في مواقع مبعثرة ومتباعدة منعت القوات الدولية من حرية الحركة، وحشرت الجنود في أوضاع تودي بهم لا محالة الى التضحية بأنفسهم من دون طائل. ولا تعقل الحال هذه إلا في ضوء واطار مجتمعات كبتت ثقاقة الحرب، وأدبت جنودها بأدب رفض الحرب، ورذل استعمال القوة على أي وجه. فحمل الحرب على البربرية جزء من اطار ثقافي غلب على العقول الأوروبية منذ سبعينات القرن العشرين. واضطلع الصاروخ النووي بردع جموح العنف الى الأقاصي. وأجمعت السلطات والمقامات الفكرية والدينية والسياسية والعسكرية على التبشير بپ"إنجيل الصاروخ"على قول ا. غلوكسمان من وجه، وعلى عبادة السلام، من وجه آخر، فكبت واستبعد تدبر فعل الحرب وعنف الدولة المشروع. وعم مفهوم الردع العقلاني مستويات الحرب التقليدية. وبدت المفاوضة، والإقناع المترتب عليها، حلاً سحرياً يعالج النزاعات ويكبتها من غير أن يخلف خاسراً. وهذه أوهام بددتها اختبارات التسعينات، وحروب الارهاب، مطلع القرن الواحد والعشرين. عن اندريه تييبليمان عقيد متقاعد من الجيش الفرنسي، "لوديبا" الفرنسية، 11 - 12 / 2006