ما يجري الآن في البلقان يكرر ما جرى في الخليج سنة 1991 من النواحي الاستراتيجية والتكتيكات والتغطية الاعلامية. فالحلف الاطلسي يكرر السيناريو نفسه مستخدماً مشكلة كوسوفو، وقبلها البوسنة والهرسك، لتصفية حسابات كبرى. فكوسوفو كانت على رأس اهتمامات الادارة الاميركية، وان لم تكن لها الاولوية في مطلع التسعينات، حين وجهت ديبلوماسيتها الى البلقان لمنع افلات الخيوط من ايديها، فحاولت احتواء الجمهوريات والاقاليم التي ستنسلخ عن يوغوسلافيا. تعاملت واشنطن بصرامة مع سفاح بلغراد الصاعد ميلوشيفيتش ووصفته بانه "قاس وكاذب"، لا يفهم غير لغة القوة، ولا سبيل لايقافه الا بعملية عسكرية تشمل دخول قوات برية لم يكن احد مستعد للقيام بها آنذاك. واعلنت اوروبا انها تريد الانفراد بملف الازمة، لكن بعض دولها كان يدعم سراً الصرب الذين حاربوا معهم في الحرب العالمية الثانية. وهذا ما اعترف وزير الخارجية الاميركي آنذاك جيمس بيكر بقوله: "في الوقت الذي انضم فيه الأوروبيون إلينا في التشدد بشأن منح الاعتراف بالجمهوريات المتطلعة للاستقلال، خلال صيف وخريف عام 1991، استمرت التقارير المزعجة التي تؤكد أن بعض الحكومات الأوروبية كانت تشجع بعض الفئات اليوغوسلافية سراً وتحثها على الاستمرار في القتال". وقامت واشنطن في قمة الحلف الاطلسي التي انعقدت في تشرين الثاني نوفمبر في روما، بالضغط على الألمان من أجل عدم الخروج على الإجماع القاضي بعدم الاعتراف بالجمهوريات التي تعلن الاستقلال منفردة. قد يبدو مفاجئاً ان كوسوفو كانت في رأس ملف المسألة البلقانية لدى الادارة الاميركية في عهد الرئيس جورج بوش، وكان على وزير خارجيته ان يجد لها مكاناً في أوج تصارع قادة الجمهوريات اليوغوسلافيا حين بدأ التعامل معهم في نهاية حزيران يونيو 1991. وقد يبدو مفاجئاً ايضاً ان ابلغ ما يوجز الازمة في تلك المرحلة المبكرة كانت عبارة زعيم المعارضة الالبانية آنذاك صالح بيرشا: "لقد قتلنا الشيوعية، ولكن علينا ان نعالج انقاضها التي ما تزال تنفث سمومها". وكان ذلك هاجس الادارة الاميركية حين وجهت ديبلوماسيتها الى بلغراد للتعامل مع زعماء الجمهوريات الذين كانوا يتدافعون من اجل الحصول على مكاسب في اتحاد يوغوسلافيا الذي وصل الى حافة الانهيار، وهي جمهوريات سلوفينياوكرواتيا والبوسنة والهرسك وصربيا ومونتنيغرو ومقدونيا. وكانت كل قومية تسعى للاعلان عن استقلال جمهوريتها من جانب واحد، وبالتالي قطع الطريق على امكان التفاوض السلمي. بدأت سلوفينياوكرواتيا خطوات الاستقلال الكامل، وحددتا نهاية حزيران 1991 موعداً للانفصال في الوقت الذي كانت فيه يوغوسلافيا كلها موشكة على الانفجار. ذهب الطاقم الاميركي الى القصر الفيديرالي في بلغراد وتنقل بين القاعات الست التي تمثل الجمهوريات اليوغوسلافية وبدأ الاجتماع بممثلي كوسوفو. وكان ذلك هو المؤشر الاول للتحرك الاميركي الذي بدأ في 21 حزيران 1991. وعبر بيكر عن الوضع بقوله في مذكراته "أثرت قضية حقوق الانسان المتعلقة بالألبان في كوسوفو، والهنغار في فوجفودينا، والصرب في كرواتيا. وقلت لكل الذين حاورتهم ان هذه الحقوق يمكن حمايتها من طريق ما دعوناه بالاتحاد اليوغوسلافي المتجدد ديمقراطيا. وحذرت من ان اي محاولة لتقسيم يوغوسلافيا وفق حدود عرقية لن يؤدي الا الى سفك الدماء وانكار حقوق الأقليات. وشددت على هذه النقطة تحديدا مع الصرب والكروات". تركزت المناقشات، التي انذرت من الكارثة التي تحدث اليوم في كوسوفو، مع سفاح بلغراد سلوبودان ميلوشيفيتش "الذي بنى حياته كلها على اساس استخدام الماضي من اجل اشعال النار في الحاضر" وفق تعبير احد الديبوماسيين على التحذير من خطورة الاستقطاب العرقي - المذهبي. وكان واضحاً لدى الادارة الاميركية منذ ذاك ان ميلوشيفيتش يقود يوغوسلافيا نحو كارثة انسانية قبل ان تكون سياسية، وانه لا مكان للمجاملة واللغة الديبلوماسية في التعامل مع شخص "صارم وكاذب". خاطبه بيكر بعنف قائلاً: "اود ان احيطك علماً بأننا نعتبر سياساتك السبب الرئيسي لأزمة يوغوسلافيا الراهنة. يمكنك ان تخط الطريق نحو اتحاد ديموقراطي مزدهر تستفيد منه كل شعوب يوغوسلافيا. وبدلا من ذلك فانك تدفع بشعبك وبجمهوريتك وبيوغوسلافيا الى الحرب الأهلية والهلاك". كانت هناك تحذيرات اميركية واوروبية قدمت بوضوح للقيادة الصربية، ويبدو الآن، بعد تسع سنوات، ووصول خطة التنظيف العرقي في البلقان الى ذروتها، ان النظام الدولي الجديد كان يحاول بلورة استراتيجية جديدة تريد احتواء البؤر المتوترة في العالم، وجعلها تنخرط في آلية دولية جديدة تحقق الاهداف المشتركة في المديين المتوسط والطويل. وكانت اللغة الصارمة مؤشراً لضرورة الانصياع للنظام الدولي اكثر منه ايقاف الكارثة الانسانية. فالمواقف المنذرة، تتشابه بين ما يقال الآن وبين ما قيل يومذاك حين خاطب بيكر ميلوشيفيتش في حزيران 1991: "اذا الححت على الاستمرار في الاسهام في تحطيم يوغوسلافيا فان صربيا ستصبح وحيدة. وسترفض الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي اي مطامع اقليمية صربية خارج حدودها. ستصبح صربيا معزولة دوليا داخل اوروبا لجيل او اكثر"!. كان ميلوشيفيتش الاشد مشاكسة في الاجتماعات مع زعماء الجمهوريات اليوغوسلافية كلها، وجاءت النتائج مخيبة للآمال فهو: "زبون بارد الأعصاب ولا يحب ان يوضع في موضع المدافع عن نفسه، وانصرف جهده الى انكار وجود اي شأن لصربيا بالمشاكل التي تواجهها يوغوسلافيا، ولم يكن لما عرض عليه اي تأثير على الاطلاق" وفق ما يقول بيكر. فالجميع كانوا مندفعين نحو حرب اهلية ويسيرون نحو الهاوية بقيادة ميلوشيفيتش. اعادة رسم خريطة البلقان كان اتساع نطاق النزاع في البلقان في فصلي الصيف والخريف للعام 1991، ومن ثم انفجاره في البوسنة والهرسك في فصل الربيع يرمز الى المأساة الحقيقية التي وقعت في ما تبقى من يوغوسلافيا. فالمأساة خطط لها القوميان المتطرفان الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش والكرواتي فرانيو تودجمان. بينما وصف حارث سيلايجيتش وزير خارجية البوسنة آنذاك الموقف بقوله: "هؤلاء الذين يحتضرون هم بشر حقيقيون، لن نتحدث في السياسة بعد الآن". انطلق النزاع في يوغوسلافيا السابقة من عقاله واكتسب مساره المرعب قوة الاندفاع، ولم يكن العالم الخارجي مستعداً للتدخل، وخصوصاً قائد النظام العالمي الجديد، المنشغل بالمجتمع الدولي المنقسم على نفسه والمنهمك في تطوير مؤسسات جديدة وتكييف المؤسسات القديمة لعالم ما بعد الحرب الباردة. لم يكن لدى واشنطن اي تفكير في استخدام القوات البرية الأميركية في يوغوسلافيا. فالشعب الأميركي لم يكن مستعداً لتأييد مثل ذلك الإجراء، لأنه سبق أن خاض ثلاث حروب في أوروبا خلال هذا القرن: الأولى والثانية ساخنتان والثالثة باردة. وكان يكفيه خوض الحروب الثلاث، خصوصاً بعد الحرب الرئيسية في منطقة الخليج. والأهم من هذا أن مصالح الولاياتالمتحدة الحيوية، خلافاً لما عليه الأمر في الخليج، لم تكن معرضة للخطر. فالنزاع اليوغوسلافي يتميز بأنه من النوع الذي يتعذر رصده. إلا أنه يظل مع ذلك نزاعاً إقليمياً. فميلوشيفيتش لديه شهية صدام حسين لكن صربيا لا تمتلك طاقات العراق أو قدرته على التأثير على مصالح أميركا الحيوية، كمسألة الوصول إلى إمدادات النفط. كان الاهتمام الاكبر لادارة الرئيس بوش هو الانشغال بتفكيك الاتحاد السوفياتي السائر في طريق الانهيار، ولم يكن باستطاعتها ترك الرأس في موسكو والتورط في الذيل البلقاني. وكانت مرتاحة لما يتردد في بروكسيل وباريس وبون وروما والعواصم الأوروبية الأخرى عن قوة أوروبية عظمى صاعدة، لانه يجعلها تغوص في مستنقع البلقان الدموي وتشاهد مصالحها تتضرر من دون مقدرة على حسم حقيقي. اي انها تُركت تدخل الامتحان الذي لن تخرج منها رابحة في اي حال. يقول بيكر في مذكراته: "إذا كانت أوروبا تريد احتلال مكانتها كقوة عظمى، يتعين على الأوروبيين لا الأميركيين الإمساك بزمام القيادة في مسألة إدارة الأزمة اليوغوسلافية. وبدا أن ذلك النزاع كان من النوع الذي بوسع المجموعة الأوروبية إدارة شؤونه. فيوغوسلافيا تقع في قلب أوروبا، ومصالحها معرضة للخطر مباشرة على رغم أن تاريخ تعامل الاوروبيين مع البلقان أقل من أن يوصف بالنجاح، وهو تاريخ طويل خصوصاً بالنظر الى نسيج القوميات المعقد في تلك المنطقة". كانت تجري في الوقت نفسه معركة سياسية في بروكسيل على العلاقة التي تربط بين اتحاد أوروبا الغربية WEU ذراع أوروبا الغربية الدفاعي وبين حلف شمال الأطلسي. وهي معركة تدور جوهرها على الدور الأميركي في أوروبا، إذ يعتقد بعض الأوروبيين بأن عملية اندماج أوروبا سياسياً واقتصادياً ستصبح حدثاً ثورياً بايجاد هوية دفاعية أوروبية يخفض الدور الأميركي في القارة إلى حده الأدنى. وهذا ما قاومته واشنطن منذ زمن طويل، وحاولت جعل هؤلاء يدركون أنه حتى مع تناقص الخطر السوفياتي فإنهم يحتاجون إلى أميركا. وكانت النتيجة وفق ما يرى بيكر: "بروز تيار في واشنطن، يُشعر به أكثر مما يصرح به علانية، يدعو لجعل الأوروبيين يرقون إلى مستوى الأحداث ويبرهنون على أن باستطاعتهم التصرف كقوة موحدة. ولعل يوغوسلافيا هي المثال الأفضل على الامتحان الأول". ارسلت المجموعة الأوروبية، مبعوثها الخاص اللورد كارنغتون، في محاولة التوسط في النزاع، ولم تسفر عن نجاح موثّر، لأن الأطراف اليوغوسلافية كانت تشارك في المفاوضات وهي مستمرة في الاقتتال، ثم اخذت تلك الجهود تتضاءل. وكان المشردون الذين استقروا في الدول الأوروبية المجاورة، في حال هياج بسبب انحياز الدول الاوروبية. فالألمان والإيطاليون مالوا تجاه الكروات والسلوفينيين. وابدى البريطانيون والفرنسيون قدراً أكبر من التأييد تجاه صربيا نظراً لعلاقاتهم الوثيقة بالصرب خلال الحرب العالمية الثانية. وبرزت الخشية من اضطرارالمجموعة الأوروبية إلى إشراك مجلس الأمن الدولي، واحتمال رفض بعض الدول الأعضاء فيه التعامل مع المشكلة اليوغوسلافية، واحتمال لجوء الصينيين إلى استخدام حق النقض الفيتو. كانت مخاوف الادارة الاميركية من اشراك الأممالمتحدة، تكمن في أنها ستزيد من عدد اللاعبين المتورطين في النزاع، قبل أن يكون بالإمكان تطبيق تسوية لإحلال السلام الشامل. ومن مفارقات تلك المرحلة ان قرار مجلس الأمن الدولي رقم 713 الذي فرض الحظر على السلاح الى كل الفرقاء، قطع على حكومة البوسنة تسليح نفسها. ثم جاءت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها المجموعة الأوروبية في قمة انعقدت مع دول المجموعة في لاهاي. وفي النهاية انشكف الموقف الاوروبي كلياً، حين أعلن الألمان الاعتراف من جانب واحد بكل من كرواتياوسلوفينيا، ثم حذت دول المجموعة الاوروبية حذو الألمان واعترفت بالجمهوريتين اللتين أعلنتا الانفصال. واصبح البيت الابيض في موقف داخلي صعب بمواجهة اللوبي الكرواتي الاميركي. وامكن التوصل الى حل للازمة بالمحافظة على وقف اطلاق النار وتقديم قوات حفظ للسلام تابعة للامم المتحدة بعد ان حلّت الكارثة في البوسنة. والآن يجري الحديث عن دور "اللوبي" الالباني-الاميركي في قرارات ادارة الرئيس بيل كلنتون، وعن اوجه التشابه بين بداية نشوب الازمة البلقانية سنة 1991، وتجاهل مشكلة كوسوفو يومئذ، وبين وصولها الى نهايتها الكارثية الآن، والحديث عن قوات حفظ السلام التي سترعى عملية تقسيم كوسوفو. * كاتب وصحافي سوري مقيم في بريطانيا.