في كل عام يحدث الأمر نفسه، فما أن يولي فصل الصيف بشمسه الساطعة ويطل فصل الشتاء بضوئه الخافت، حتى يدخل كثيرون في نفق مظلم يسوده مزيج غريب من العوارض المزعجة التي تُعرف في الوسط الطبي بالكآبة الشتوية. وتتظاهر الكآبة على شكل انهيار حاد يسوده الحزن والقلق، والرغبة في الانعزال، وفقدان الاهتمام بالآخرين، وتراجع النشاط، وصعوبة التركيز واليقظة، وتدني الرغبة الجنسية، وقلة الحيلة والتشاؤم والشعور بالذنب، وارتفاع حدة الشهية على الطعام، خصوصاً المأكولات الحلوة، والأسوأ من هذا ظهور الميول الانتحارية. وتتميز الكآبة الشتوية عن غيرها من حالات الكآبة العادية، بكونها تميل للحدوث في فصل الشتاء الذي تتلبد فيه السماء بالغيوم وتحجب الشمس فتقل كمية الضوء الطبيعي، ما يؤدي الى شعور بالكآبة لدى بعض الأشخاص تعرف بالكآبة الشتوية. قبل ثمانينات القرن الماضي لم يكن هناك تمييز بين الكآبة الشتوية وحالات الاكتئاب العادية، ولكن منذ العام 1984 أصبح الأطباء يلاحظون هذه الظاهرة ويولونها الاهتمام اللازم. ويصيب مرض الكآبة الشتوية مئات آلاف الأشخاص خصوصاً أولئك الذين يقطنون المناطق الشمالية من الكرة الأرضية حيث المناخ البارد والنهار القصير في فصل الشتاء. وعلى هذا الصعيد يشير الدكتور أنتوني ليفيت استاذ الأمراض النفسية في معهد كلارك الكندي، الى ان المرض له علاقة مباشرة بالعوامل الجغرافية والمناخية، وفي هذا الصدد تقول منظمة الصحة العالمية ان هناك شخصاً واحداً من بين 50 في أوروبا الشمالية والدول الاسكندينافية يقع ضحية داء الكآبة الشتوي، وأن واحداً من أصل عشرة من هؤلاء يقدم على الانتحار في فصل الشتاء، خصوصاً في المرحلة العمرية من 18 الى 35 سنة، واللافت ان المرض يضرب النساء أكثر من الرجال، وقد عزا بعضهم هذا الى قلة تعرضهن للضوء الخارجي كونهن لا يخرجن كثيراً من منازلهن في فصل البرد ذي الطبيعة الضبابية، ويعمدن الى اختصار الزيارات، وفي المقابل فإن الرجال يخرجون ويتفاعلون مع الحياة في شكل عادي تقريباً. ما هي أسباب مرض الكآبة الشتوية؟ لا يعرف أحد حتى الآن السبب الحقيقي الذي يقف وراء هذا المرض ولماذا يصيب أشخاصاً معينين. هناك فرضيات ترددت عن أسباب مرض الكآبة الشتوية غير أن الفرضية الأقرب الى الواقع هي ان هذا المرض سببه وجود خلل طارئ في الساعة البيولوجية التي تنظم ايقاع الجسم في دورة الليل والنهار، أو بالأحرى دورة الظلام والنور، ذلك ان المصابين بمرض الكآبة غير قادرين على ضبط الساعة البيولوجية على دورة الظلام. ان نقص كمية الضوء التي يتعرض لها الانسان شتاء يؤدي الى حدوث خلل في افراز هرمون الميلاتونين الذي تطرحه الغدة الصنوبرية الدماغية خلال فترة النوم، وهذا الهرمون له دوره في تنظيم الساعة البيولوجية الداخلية للجسم وفي الحفاظ على الدورة الطبيعية للنوم واليقظة. وهناك عوامل خطرة تسهم بشكل أو بآخر، في التمهيد لاستيطان الكآبة الشتوية، من بينها الضغوط العصبية والنفسية، والاستعداد الوراثي، والبطالة والإصابة بمرض مزمن وفقدان الأمل، والإحباط والعجز والحرمان، أيضاً فإن قلة الحركة، والعزوف عن الرياضة، والبقاء في المنزل والعزلة واليأس، وعدم التجديد في الحياة اليومية، كلها من شأنها التعجيل في الإصابة بمرض الكآبة الشتوية، لا بل قد تدفع صاحبها الى القيام بمحاولات للتخلص من حياته. وقد يكون الكآبة الشتوية أحياناً صعب التشخيص لتشابه مظاهره مع تلك التي يعطيها أكثر من 45 نوعاً منه، غير أن مرض الكآبة الشتوية يعد الأخطر بينها، اذ على رغم التطور الطبي، فإنه قد يفلت من قبضة الأطباء، ما يؤدي الى إهمال علاجه، وهنا تكمن الكارثة، لأنه قد ينتهي بالانتحار. وتفيد التقديرات العالمية بأن أكثر من ثلثي حالات الانتحار التي تحصل سنوياً في العالم انما يعود سببها الى مرض الكآبة الشتوية، من هنا ضرورة ألا يغفل الأهل والمحيطون بالشخص أي عوارض تندر بمرض الكآبة الشتوية، مثل الميل الى العزلة، والشراهة على الطعام، والإفراط في النوم، وتحاشي لقاء الآخرين وغيرها. فالاستشارة الطبية هنا تصبح مهمة جداً لتفادي وقوع المحظور، ألا وهو أن يضع الشخص حداً لحياته من دون أن يشعر أحد به. وأمام الصعوبة التي نجدها أحياناً في كشف داء الكآبة الشتوية، فإن أطباء نفس بريطانيين وضعوا معادلة حسابية تساعد في حديد حيوية الإنسان ونشاطه في فصل البرد وبالتالي تعطي فكرة أولية عن مدى استعداده للإصابة بالكآبة الشتوية أولاً. وبما أن أهم العوامل الذي يسبب الكآبة الشتوية هو قلة كمية الضوء التي يتعرض لها الانسان، فإن العلماء ابتكروا العلاج الضوئي لمداواته، وهذا العلاج يعد من أكثر الوسائل فاعلية، وفيه يوضع المصاب في غرفة مزودة بمصابيح تشع منها أضواء ذات قوة معينة، ويتم العلاج خلال جلسات تختلف عدداً ومدة وفقاً لدرجة الإصابة وحالة المريض. وحتى وقت قريب كانت البراهين التي تثبت فائدة العلاج الضوئي هي براهين ذاتية شخصية، ولكن علماء من جامعة"لافال"الكندية استطاعوا أخيراً الإتيان ببراهين علمية تؤكد فائدة علاج مرض الكآبة الشتوية بالضوء، ففي دراسة شملت 22 مصاباً بالمرض وپ16 آخرين لا يعانون منه، وبعد إجراء تخطيط كهربائي لشبكة العين عند المشاركين، لاحظ البحاثة وجود تبدلات في التخطيط عند الذين يعانون من المرض. في حين لم تسجل مثل تلك التبدلات لدى الأصحاء. وبعد ذلك خضع المصابون بمرض الكآبة لعلاج ضوئي وذلك بوضع مصباح كهربائي بقوة 5 آلاف واط أمام الوجه على بعد 50 سنتم وذلك لمدة 30 دقيقة يومياً ولفترة استغرقت أربعة أسابيع، وعند قراءة المعطيات سجل البحاثة نتائج ملموسة على الصعيد السريري وعلى صعيد شبكية العين. وبما أن درهم وقاية خير من قنطار علاج، فإن هناك بعض النصائح التي من شأنها أن تقطع الطريق على حدوث مرض الكآبة الشتوية، وأهمها: الحرص على الخروج الى الهواء والتعرض لأشعة الشمس، وممارسة الرياضة، واتباع نظام غذائي سليم ومتوازن، والأهم من ذلك كله مقاومة الكسل الشتوي وطرد عوامل القلق والتوتر والانفعال.