مع ضربة الغولف الساحرة التي سددها رائد من "محطة الفضاء الدولية"، والتي يتوقع ان تقطع مئات الكيلومترات قبل أن تهوي الى الارض محترقة في غلافها الجوي، يعود السؤال القديم الى الظهور مجدداً: لماذا يهتم الانسان بالفضاء الى هذا الحدّ، أو بالأحرى ما علاقة هذا الانسان بالفضاء؟ يمكن تدقيق هذا السؤال قليلاً بالقول إن اكتشافاً مثل تفكيك الشيفرة الوراثية الجينية "الجينوم" للانسان يملك علاقة مباشرة مع سعي الكائن الانساني الى اكتشاف نفسه وهويته. مع الجينوم يبدو الانسان وكأنه "يُحدّق" في نفسه بمجهر هائل القوة ليرى المُكوّن الأدق الذي يتحكم في تركيبته. ولكن ماذا عن الفضاء؟ هل تفيد أبحاث الفضاء الجنس البشري في التعرّف الى نفسه؟ الانسان ذرات أيضاً في الفيزياء، يبدو الأمر أكثر وضوحاً. فمنذ أيام اليونان، أدرك العقل البشري أن المادة تتألف من مُكوّنات فائقة الصغر، وان كل مادة يمكن ان تُفكك الى مركب أصغر منها، الى ان يصل الأمر الى مكوّن لا يمكن تفكيكه، هو الشيء الأصغر الذي يتجمع ليكوّن المواد كلها. أطلقوا عليه اسم"الشيء الذي لا ينقسم" Atom أو الذرّة. وسرعان ما تبين أن ذلك الشيء الأصغر، مُكوّن من أشياء أكثر منه صغراً. وشرع العلماء في التعرّف الى مكوّنات الذرة مثل البروتون والالكترون والنيترون ثم الكوارك وغيرها. ومع هذه عملية التفكيك هذه، ظهر شيء آخر أكثر أهمية. فقد تبيّن ان الذرة، على صغرها، تحتوي مجموعة كبيرة من القوى، لقّبها البعض بالقوى الأساسية"وقد بلغ عددها خمساً. ومع القنبلة الذرية، برهن العلماء ان بعض القوى الذرية هو أشد ضخامة مما يتخيّل البشر. وحدث تطور مشابه في مجال البيولوجيا. وعرف البشر أن الأنسجة الحيّة تتكوّن من خلايا"كل خلية تحتوي نواة"وفي داخل النواة ترقد مُكوّنات الوراثة وخصوصاً الحمض النووي الريبوزي الناقص الاوكسجين"دي أن آي"DNA. وزادت الصورة تعقيداً مع اكتشاف أن الحمض الوراثي يضم مجموعة من الكروموزومات، تحتوي الجينات Genes. ويعتبر الجين أصغر مكوّن فاعل في الوراثة. وعلى غرار الذرّات، تبيّن أن الجينات تضم شيفرة المعلومات التي تتركب منها الكائنات البيولوجية الحيّة، وضمنها الانسان. ولم تكن سوى خطوة أو أقل ليثور السؤال: هل من علاقة بين الذرّة والجينات؟ "لسنا سوى رماد وغبار من نجوم منقرضة"، بهذه الكلمة لخّص الفلكي الفرنسي هيوبرت ريفز فصولاً طويلة من كتابه الجميل"غبار النجوم". عمرنا الفلكي، أو عمر المواد الحميمة التي تشكّلنا، يعود الى زمن صناعة الذرّات في النجوم التي ورثناها عند موتها، بل الى زمن الانفجار العظيم لبيضة الكون الأولى بيغ بانغ Big Bang منذ نحو عشرين بليون سنة! إننا إرث كوني: كل ذرّة في خلايانا الحية وفي عناصرنا الكيماوية وفي هوائنا وفي الأرض التي تحملنا"صنعت منذ بلايين السنين في أتون نجمي مناسب، على حرارة عشرات أو مئات ملايين الدرجات المئوية. ولقد احتاجت الذرّات الثقيلة حرارة بلايين الدرجات المئوية وانفجارات نجمية أعظم من الخيال كي تأتي الى الوجود! لو نعرف كيف نستنطق هذا الإرث الذرّي، هذه الحجارة الكونية القديمة الأثرية لأخبرتنا حكايات شديدة الغرابة عن الفواجع الفلكية الكبرى التي أوصلتها إلينا! ربما نسأل: على أي حرارة وتحت أي ضغط خُلقت ذرّات الكالسيوم الذي يشكّل عضامنا؟ أو ذرات الأوكسيجين؟ أو غيرها؟... أسئلة لم تعد على كل حال خارج متناول الفيزيائيين النظريين. لقد بدأنا نفهم قراءة الملحمة الطويلة لظهورنا في هذا العالم. وقد نجحنا الى حدٍّ بعيد بإعادة رسم الفصول الرئيسة لهذا الظهور وفق سيناريو تدعمه الوثائق الفلكية الماثلة أمام أعيننا في السماء، وحوادث ولادة وموت النجوم المرصودة بتلسكوبات شديدة النظر وموتها، والتمثيل بالحاسوب الذي بات في الإمكان برمجته ليعطيك صورةً مستقبلية لم تأتِ بعد أو صورةً كانت في الزمن الغابر. عندما تموت النجوم، أي حين ينضب وقودها النووي الداخلي، فإنها تنثر محتوياتها في الفضاء إثر انفجارٍ عظيم يقال له سوبرنوفا أو إثر انتفاخٍ تدريجي يصل الى ملايين بل بلايين الكيلومترات في مرحلة تسمى العملاق الأحمر. هكذا عندما يرينا التلسكوب كتلةً فلكية ممتدّة غنية بالألوان والأشعة المرئية وغير المرئية، فإن ما نشهده ليس سوى عوارض احتضار لنجم كبير، إنها آخر صرخاته المدوية قبل الوفاة. ولا يغيب عن بالنا أن ما نشاهده اليوم كان قد حدث في الماضي البعيد، لكن بريد الفلك يسير بسرعة الضوء فقط! في قلب النجوم، في هذا المرجل الأسطوري الذي فيه تُطبخ المادة، تلتقي الذرّات وتتّحد في في جزيئات، والجزيئات في حبوب غبارٍ صغيرة. هذا الغبار سوف يتراكم على مهل ليشكل لاحقاً الكواكب. وتلك الجزيئات سوف تتفاعل ويتطوّر بعضها ليصبح حالاً عضوية أو ربما كائنات نباتية أو حيوانية. الشمس ونعمة القرب شمسنا مثال على ما يجرى في النجوم. إنها نجم عادي متوسّط الكتلة طويل العمر. وتعتبر بين النجوم الصغيرة القليلة الضياء. وهي النجم الأقرب إلينا إذ لا يبعد عن الأرض سوى 8 دقائق ضوئية أو نحو 150 مليون كيلومتر. يبلغ قطر الشمس نحو مليون و400 ألف كيلومتر أي أكثر ب 109 أضعاف قطر الأرض، وكتلتها أكبر من كتلة الأرض ب 333 ألف مرّة وأكبر ب750 مرة من كتلة مجموع كواكب الكتلة الشمسية، لذلك فهو يحكمنا بجاذبيته. ولهذا النجم يرجع الفضل بإتاحة الفرصة لنا كي نكون. فنحن ندين له بكل شروط الحياة على الأرض. شمسنا هذه ليست سوى مختبر عظيم للفيزياء النووية. في منطقتها المركزية تنسحق المادة تحت تأثير ضغط الجذب المركزي الكبير لكتلتها، فترتفع الحرارة الى نحو ستة عشر مليون درجة مئوية. على هذه الحرارة تتفكّك المواد الى جزيئات والجزيئات الى ذرّات والذرّات الى إلكترونات وأنوية. وتُقذف الإلكترونات الخفيفة بعيداً نحو الخارج، أما الأنوية الشديدة الهيجان فإنها تتصادم وتتفاعل وفق عملية اندماجٍ نووي نوعي. البروتونات تنصهر زوجاً زوجاً محوّلةً الهيدروجين الى هيليوم. هذا الاندماج يترافق مع إطلاق طاقة حرارية عالية جداً في كل الاتجاهات، مسخّنة بقية طبقات الكتلة الشمسية البعيدة من المركز بحيث تبدأ ذرّاتها ببثّ أشعتها المميّزة. من هناك، من تلك المصادر الذريّة في الشمس يصلنا غذاؤنا الضوئي. أُمّنا الشمس أصبحت في منتصف العمر، ولم يبلغ عمرها بعد خمسة بلايين سنة! إنها تحرق نحو 564 مليون طن من الهيدروجين في كل ثانية بطاقة تعادل بضعة آلاف الملايين من القنابل الهيدروجينية! وهي سوف تبدأ الموت بعد نحو خمسة بلايين سنة أخرى، حين ينضب وقودها النووي. حين ذاك ستبدأ التحول الى"مارد أحمر"، وستحمّصنا وتبخّرنا من دون رحمة أو اعتذار، مثل فيلٍ جريح حين يدوس على عنكبوت صغيرة من دون انتباه... إذاً، كي نأتي الى هذا الوجود كان لا بد من مجامر تتخطّى حرارتها بلايين الدرجات، وانفجارات نجمية رهيبة، وقذف كبير للمواد الملتهبة بحيث تنشأ غيوم السديم من الغبار المتطاير في الفلك. إن مناطق الخصوبة في هذا الفلك الضارب في الوحشة هي هناك في مناطق الكوارث النجمية والمحارق النووية المستعرة. بات المشهد مختلفاً... ففي صقيع الفراغ الكوني المتوحّش حيث متوسط الحرارة يبلغ 270 درجة مئوية تحت الصفر، نتطلّع الى نقاطٍ مضيئة ملوّنة تزيّن السماء لنكتشف أنها محارق نووية أسطورية يفوق شرّها وشررها الخيال، ونقنع بحظّنا السعيد الذي جعلنا بعيدين جداً عنها. ها نحن نحتمي خلف غلافنا الجوي، ملتصقين بالسطح النديّ الدافئ لكوكب الأرض بحيث نشعر بأننا في أمان. خارج هذا الحزام الجوي، وفي كل مكان آخر في المدى المرصود، تستحيل الحياة البشرية. عندما نذكر ما قاله الكيميائي الفرنسي باسكال وهو يتأمل النجوم في هدأة الليل:"يخيفني هذا السكوت الأبدي للفضاءات اللامتناهية"، تُرى ما الذي كان يخيفه؟! فلم يكن معروفاً حينها أن هذه الفضاءات تغلي بشكل دائم بانفجارات نجمية جهنمية وكوارث فلكية عظيمة. تُرى هل كان لديه الحدس حول هذه الأحداث الرهيبة التي لم يكن يصل منها إليه أي صدىً يعكّر صفو لياليه الصامتة؟! * أستاذ فيزياء في الجامعة اللبنانية