نشر إعلامي عربي معروف مقالا ينطق عنوانه بمضمونه:"ما أحوج لبنانوالعراق إلى ديكتاتور"! موقع"كلنا شركاء"الإلكتروني السوري، 3 / 12 / 2006. بأسلوب درامي، يتحدث الإعلامي الكاتب عن"آفة الطائفية القاتلة، وحكم العصابات، والمليشيات، والباكاوات، والزعران، الذي يتوارى أمامه حكم أبشع الطغاة خجلاً". ويذكر أن كاتبا عراقيا تحسر أمامه على أيام"الديكتاتور الرائع"، حيث كان ثمة"صدّام واحد، وعُدي واحد، وقُصي واحد، أما الآن فلكل طائفة، ومذهب، وعصابة، وميليشيا، صدّاماتها، وعُديّاتها، وقُصيّاتها". ويخلص إلى أنه عندما يكون"الاختيار المتاح أمامنا بين الرمد [الديكتاتورية...] والعمى ["الطائفية والعصابات"...]، فلا شك أننا سنختار الرمد، على أمل الشفاء منه يوماً ما، واسترجاع أبصارنا". ورغم أن الكاتب قومي عربي الفكرة والنبرة إلا أنه لا يتطرق إلى ما يتوقعه المرء منه من دور مفترض للاحتلال الأميركي في العراق في تفجر البلد، صارفا تركيزه إلى"مصالح طائفية ومذهبية، وفئوية، وعصبوية، ومافياوية، وميليشياوية، وباشاوية، وإقطاعية"تمخض عنها عراق ما بعد صدام. وبخصوص لبنان يحصي"الطواويس الزعاماتية، والمشيخات، والطوائف، والعقائد المتناحرة والمتكاثرة"دون ذكر لأية قوى خارجية. يساق قارئ المقال إلى استنتاج تفجر العراق واضطراب لبنان من تكوين مجتمعاتنا، لما تتسم به من تعدد ديني ومذهبي بصورة خاصة. واستنادا إلى مثل هذه"السوسيولوجية"يمنح الكاتب الديكتاتورية صفة إنقاذية في البلدين. واللافت أن الإعلامي السوري الأصل يغرق الحالتين اللبنانيةوالعراقية في وحدة حال يسميها"ديموقراطية مزعومة". لكن أقل ما يقال في ذلك إنه غير منصف. فرغم هشاشة استقرار بلدهم وسابق معاناته من حرب أهلية مديدة يتمتع اللبنانيون بحريات يحسدهم عليها مواطنو الدول العربية كافة. والأرجح أنه لو"نعم"لبنان بالديكتاتورية لما استعاد أرضه المحتلة عام 2000 دون قيد أو شرط، ولما تمتع اللبنانيون رغم كل ما لحق ببلدهم وما ألحقوه هم به وببعضهم من كوارث، بدخل يتجاوز أربعة أضعاف جيرانهم الأقربين. وغير خاف عن الإعلامي الكاتب أن التمزق العراقي الراهن سليل الديكتاتورية حتى لو لم يكن تولده عنها خاضعا لحتمية طبيعية. وكان يمكن لنقاشه أن يكون أكثر إقناعا لو أنه اكتفى بالدعوة إلى إجراءات ديكتاتورية وقتية لضبط أوضاع العراق، أي لو لم يجعل الديكتاتورية حلا. أما الديكتاتوريات الوطنية التي خبرتها بلداننا فقد فات أوانها بكل بساطة. فمن ناحية، أخفقت نماذجها الناصرية والبعثية ونظائرهما العربية في حل مشكلات الاندماج الوطني وبناء الدولة الوطنية و"تصفية إرث العصور الوسطى"لينين و"تحطيم التشكيلات الاجتماعية ما قبل القومية"ياسين الحافظ وإطلاق عملية تنمية قابلة للاستدامة، ما يشكل بمجمله بنية تحتية وطنية من أجل التحول الديموقراطي"ومن ناحية ثانية تطورت الأمثلة التي نعرفها عنها إلى نظم طغموية مغلقة تسببت في تعزيز خطير للوعي الذاتي الفئوي وتراجع أخطر للوعي الوطني. هل يصح وصفها بأنها نظم طائفية؟ ثمة نقاش ممكن حول هذه النقطة. فإذا كان المقصود بنظام طائفي نظاما"يمثل"طائفة أو"محكوما"من قبل طائفة محددة فإن هذا لا ينطبق على نظام صدام ولا على أي نظام عربي آخر. لكن نظام"القائد الضرورة"يماثل غيره من جهة أن طاقم الحكم يكاد يكون"ناديا حصري العضوية". فقد أعيقت في ظله حركية النخب العراقية، وتعرض تداولها لتجميد اصطناعي قسري، وانسدت أقنية الحراك الاجتماعي السياسي، وجنحت السلطة المغلقة إلى إنتاج طبقة أعيانها ووجهائها وذواتها، أي إلى تعزيز احتكار السلطة باحتكار الثروة أيضا في ثمانينات القرن العشرين خاطب صدام أرباب العمل العراقيين واصفا إياهم بأنهم"من صنع الثورة". في المجمل تتشكل طبقة سلطة مغلقة، كأنها طائفة، وإن تكن متعددة الأصول المذهبية. وإنما بهذا المعنى يمكن الكلام على نظام طائفي، يشكل نموذجه المغلق"الطبيعة الطابعة"للتشكل الاجتماعي"فيما الطائفية الاجتماعية، أي انتظام المجتمع طائفيا،"طبيعة مطبوعة"بلغة سبينوزا. ولما كانت الطبيعة"لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد"حسب ابن خلدون، فإن التطييف الذي تشكل نخبة السلطة المغلقة نموذجه القياسي سيسلك خطوط الالتحام الدروز الدينية والمذهبية في نسخ نفسه وتكرارها. ولن تلبث تلك الخطوط أن تتفزّر كما يحصل لبطن الحامل مع تقدم الحمل. وقد تتفجر البطن وتندلق أحشاء المجتمع، كما هو حاصل في العراق اليوم بفضل"قابلة"من صنف الاحتلال الأميركي، و"مساعدين"لها من صنف منظمات ودول حول العراق. فالطائفية"وظيفة"لانغلاق النظام السياسي، لا لتعدد الأديان والمذاهب، ولا لغريزة طائفية أصلية تستحكم بزعماء سياسيين منحرفين. ويبدو لنا افتراضا وجيها تؤيده التجربة القول إن نظاما سياسيا مغلقا، مركبا فوق مجتمع تعددي دينيا ومذهبيا، وتديره نخبة متواضعة المستوى الفكري والسياسي والأخلاقي، ستسوقه رغبته في الاستقرار والدوام إلى التطور نحو نظام طائفي صريح. جنح نظام صدام لأن يكون طائفيا صريحا، نظام تمييز طائفي بين مواطنيه، لأن استمراره وأمنه دفعاه إلى الاستفادة مما قد نسميه"الولاء التفاضلي"، أعني شعور سنيين أن النظام يخصّهم أكثر مما يخصّ منحدرين من الجماعة الشيعية. عتبة تماهى الأولين في النظام منخفضة، فيما بتسبب ارتفاعها بخصوص الأخيرين في تعسير تماهيهم، ما يثير في أوساطهم شعورا بالغربة والتهميش. ورغم أنه قد لا تترتب على التماهي امتيازات منظورة، ولا على الاغتراب حرمانات ملموسة فإن فروق التماهي، والولاء المترتب عليها، لن تتأخر في التزود بوعي ذاتي يثبتها ويرسخها. وبهذا تتحول"الطوائف في ذاتها"إلى"طوائف لذاتها"، واعية وفاعلة سياسيا. وفي العراق تجسد التطييف في أحزاب شيعية، فيما كان النظام ذاته بطريقة ما حزب السنيين أو تحقيقهم السياسي. وعلى أية حال ثمة عتبات تماهٍ متفاوتة حتى داخل الجماعة السنية العراقية، أخفضها لصالح الرابط العائلي والجهوي والقبلي. لذلك كان نظام صدام عائليا وجهويا، قبل أن يكون طائفيا. ويبقى الأساسي أن الطائفية تتعمم اقتداء بالطائفة العليا، أي نادي السلطة الحصري أو"صنفها"الممتاز. لذلك قلنا إنه إذا كنا نعني بالنظام الطائفي ذاك الذي"تحكمه"طائفة أو"يمثل"طائفة فإننا لن نجده في أي مكان. هذا على العموم مسار تطور ديكتاتوريات وطنية متعددة في المجال العربي. فبدلا من"تحطيم الأطر الاجتماعية قبل القومية"سارت الديكتاتوريات الوطنية باتجاه إحيائها وتجديد شبابها، بل بجعل الطائفية مؤسسة سياسية راسخة وشرطا لاستقرار نظم تحولت إلى ديكتاتوريات طائفية. والحصيلة الصافية اليوم أن الطائفية مؤسسة في مجتمعاتنا المشرقية، فيما الوطنية محض إيديولوجية. اختفى هذا التحول المتدرج وراء تشوه مفهوم الوطنية في ثقافتنا السياسية أو تقزيمه إلى"معاداة الامبريالية والصهيونية"، بل حتى إلى بلاغة صادحة ضدهما. وهو ما دفع إلى تصور أن المشكلة مع نظام صدام تقتصر على ديكتاتوريته، ولا تتخطاها إلى لا وطنيته أو طائفيته. والحال إننا نعتقد أن العكس أقرب إلى الصحة. فالجوهر التخريبي للنظام العراقي السابق يكمن في لا وطنيته طائفيته التي تتحجب خلف وطنية بلاغية أكثر حتى مما في ديكتاتوريته الهوجاء. بل إن ما يجعل ديكتاتوريته بالذات فاحشة وعبثية، طغيانا إجراميا محضا، هو غربته عن الوطنية فكرة وقيمة ومؤسسة حية. نريد من كل ذلك أن الديكتاتورية ليست علاجا لتمزق العراق، بل سبب أساسي لمحنته الأليمة. لكن لماذا يميل بعضنا إلى افتراض أن الديكتاتورية هي الحل فيما لا تزال معظم بلداننا تحت وطأة ديكتاتوريات عاتية يصعب أن يجد المرء كلمة طيبة بحقها؟ وكيف حصل أن الديكتاتور"وَحَشَنا وهو قُصادُ أعيننا"، كما تقول أغنية أم كلثوم عن الحبيب؟ ربما لأنه ليس في ذاكرتنا الحية نموذج حكم غير ديكتاتوري نلوذ به من مخاطر الحرب الأهلية. ربما لأن صورة الأب الحامي لا تزال تهيمن على مخيلة الأبناء العاجزين عن الاستقلال بأنفسهم، تسكّن قلقهم وتهبهم شعورا بالأمان والطمأنينة. وبالتأكيد لأننا لم نصفّ حسابنا مع الاستبداد كثقافة، حيث يبدو الاعتباط والإكراه طبع السلطة السوي وليس شكلا منحرفا من أشكال ممارستها. وفي الأصل لا يرى نظام الاستبداد إلى شعبه إلا كطائفة أو"أهل"أو عشيرة واسعة، وسيوصف الديكتاتور بأنه الأب. يغيب المواطن كعلاقة سياسية حقوقية لصالح"الابن"أو"العضو"، الذي قد يشعر باليتم فعلا حين يموت الطاغية. ويغيب الوطن في نوع من الحمى القبلي الذي يتجسد في الحاكم. يبقى أن الحنين إلى نظام ديكتاتوري نكوص نفسي ورجعية سياسية بكل معنى الكلمة. أجدر بنا أن نتحمل أعباء ابتكار نظام جديد من حلم العودة إلى نظام قديم هو عمليا حرب أهلية ممأسسة ومن طرف واحد.