Georges Corm. Le Liban Contemporain Histoire et Societe. لبنان المعاصر: التاريخ والمجتمع. La Decouverte, Paris. 2003. 320 pages. ليس هذا الكتاب الجديد لجورج قرم جديداً كل الجدة، لكنه ليس أيضاً قديماً كل القدم. فقد كانت طبعة أولى له صدرت عام 1986 تحت عنوان "الجغرافيا السياسية للنزاع اللبناني" ثم صدرت طبعة معدلة عام 1991 تحت عنوان "لبنان: حروب أوروبا وحروب الشرق". وتأتي هذه الطبعة الثالثة بعد سبعة عشر عاماً من الأولى، لتخضع الكتاب إلى إعادة صوغ حقيقية على ضوء تطور الواقعة الطائفية في لبنان، ليس فقط خلال سنوات الحرب الأهلية الأربع عشرة، بل كذلك خلال سنوات هدنة اتفاق الطائف الأربع عشرة أيضاً، وهي الهدنة التي لا تزال سارية المفعول إلى الآن من دون أن تتمخض عن مصالحة وطنية حقيقة. الفصول الجديدة التي أضافها جورج قرم إلى كتابه يتصل أكثرها بمصائر ما يسميه "الجمهورية الثانية"، أي الجمهورية التي قامت في لبنان بعد تعديل الدستور في 5 تشرين الثاني نوفمبر 1989 على إثر توقيع اتفاق الطائف، والتي شهدت حتى الآن تعاقب ثلاثة رؤساء للجمهورية: رينيه معوض الذي اغتيل بعد سبعة عشر يوماً على انتخابه، والياس الهراوي الذي تكاتف مع رئيس وزارته رفيق الحريري ليعدل الدستور وليمدد ولايته ثلاث سنوات إضافية، وأخيراً اميل لحود الذي ما زالت ولايته مستمرة منذ 1998 والذي استغنى عن خدمات الحريري بتسمية سليم الحص رئيساً للوزارة، لكنه اضطر إلى إعادة تسليم هذا المنصب إلى الحريري بعد الفوز الساحق الذي حققته قائمة هذا الأخير في الانتخابات النيابية لعام 2000. جورج قرم، الذي شغل منصب وزير المال في حكومة الحص، لا يخفي، في الفصول الجديدة الثلاثة التي أضافها إلى كتابه عن "تقلب مصائر الجمهورية الثانية"، عداءه السياسي والايديولوجي للحريري ولسياسته الاقتصادية النيوليبرالية التي أرادت أن تجعل من بيروت مونتي كارلو الشرق، فلم تفلح إلا في أن تجعل منها "دالاس لبنانية" يحكمها أصحاب الثروات السهلة ومقاولو الاسمنت المسلح وزعماء الميليشيات السابقون الذين اغتنوا في الحرب وبالحرب، وأخيراً المثقفون الانتهازيون الذين أداروا ظهورهم، كما يتهم جورج قرم، لايديولوجيتهم اليسارية السابقة ولماضيهم العلماني التقدمي، ليعودوا إلى الانغراس في تربتهم الطائفية، وليعاودوا اكتشاف فضائل الليبرالية الجديدة ويتبنوا نظريات التحديث عن طريق السوق الدولية والمبادرة الخاصة المنفلتة من إسار الشرعية القانونية ومؤسسات الدولة. ويستفيد قرم من خبرته كاقتصادي ومن تجربته كوزير للمال في حكومة الحص الاصلاحية "المجهضة"، ليحصر السياسة الاقتصادية الحريرية في الزاوية الضيقة: فهذه السياسة هي المسؤولة في تقديره عن تحول لبنان إلى أكبر بلد مديون في العالم قياساً إلى حجم سكانه. فقد بلغت الديون المتراكمة عليه 32 بليون دولار. ومعنى ذلك أن كل لبناني مديون لغيره بثمانية آلاف دولار، أي ما يعادل ضعفي دخله السنوي الذي لا يتعدى، كمعدل وسطي، الأربعة آلاف دولار. وفي سياق الحملة على السياسة الحريرية، يوجه قرم ألذع نقده إلى شركة "سوليدير" المسؤولة عن "مذبحة مالية" كلفت المساهمين اللبنانيين نحواً من بليون دولار، وإلى "مجلس التنمية والإعمار" المسؤول عن "مذبحة هندسية" شوهت وجه بيروت الثري وأطلقت يد مقاولي الاسمنت المسلح ليلغوا ذاكرة المكان والتاريخ. والأنكى من ذلك أن أيدي هؤلاء المقاولين امتدت إلى البحر، فشوهت ساحله في بيروت وفي جونيه، وإلى الجبل، فاقتلعت صنوبره لتقيم مكانه رحبة فوضوية ولامتناهية من العمارات اللامأهولة التي يقدر مخزونها بنحو مئتي ألف وحدة سكنية، ورأسمالها المجمد بنحو من ثمانية بلايين دولار، أي ما يعادل 43 في المئة من الناتج الاجمالي السنوي للبنان. وعلاوة على نقد السياسة الاقتصادية الحريرية، فإن كتاب "لبنان المعاصر" مسكون بهاجس آخر: الطائفية. وقد اتسعت رقعة هذا الهاجس إثر الاحتلال الأميركي للعراق الذي يجد نفسه اليوم مهدداً، أكثر من أي وقت مضى، بأن "يتلبنن". والخطورة في مثل هذه اللبنننة المحتملة أنها لن تقتصر على العراق، بل قد تمتد إلى مختلف بلدان الجوار العربي. ففشل مشروع الدولة القومية في هذه المنطقة من العالم يتمخض اليوم في كل مكان عن مزيد من "تطييف" الحياة السياسية في المنطقة، ويهدد بتعميم النموذج الطائفياللبناني على رغم المآسي التي جرها وراءه - ولا يزال - منذ عام 1840. ومما يمهد الطريق أمام مثل هذا التعميم، الذي لا تفتأ تحلم به الاستراتيجية الإسرائيلية البعيدة المدى، انسداد الأفق السياسي نحو أي مخرج ديموقراطي في غالبية دول المنطقة من جراء هيمنة أنظمة القمع التي لا تعدو ديكتاتورية صدام حسين أن تكون وجهاً من وجوهها، وان يكون هو الوجه الأكثر دموية. والواقع أن سياسة الإفراغ السياسي التي مارسها صدام، والتي لا مناص من أن يمارسها كل نظام ديكتاتوري، لا بد أن تتمخض في نهاية المطاف عن إعادة تديين للمجتمعات بقدر ما أن الدين يمثل في هذه الحال الصوت البديل لمن لا صوت سياسي لهم. ولكن بحكم التلوينة الطائفية للمجتمعات العربية في المشرق، فإن كل مشروع للتديين السياسي يحمل معه بالضرورة بذرة حرب أهلية على الطريقة اللبنانية. وفي العراق يبدو هذا الاحتمال أقوى مما في غيره، بالنظر إلى أن القسمة الطائفية شبه العمودية ما بين سنّة وشيعة تقترن بقسمة إثنية لا تقل عمودية بين عرب وأكراد. والسؤال، كل السؤال اليوم بعد الاحتلال الأميركي للعراق، هو التالي: هل تريد الولاياتالمتحدة، بصفتها القوة الامبراطورية الكبرى والوحيدة اليوم في العالم، أن تعيد - وبالتواطؤ دوماً مع الاستراتيجية الإسرائيلية - إحياء نظام الملل العثماني، وهو أصلاً النظام الذي يأبى أن يموت كما يشهد على ذلك النموذج اللبناني؟ هنا تحديداً، وفي الإجابة عن هذا السؤال، يمكن للبنانيين أن يلعبوا دوراً ايجابياً ويقدموا جواباً لا يخلو من ابداع، وذلك بقدر ما يمكن أن يأخذوا المبادرة إلى رفض المنطق الطائفي الذي طالما أرخى بقبضته على تاريخهم. فمن دون التنكر لواقع التعدد الطائفي، ومن دون الاستهانة بسيكولوجيا الخوف المتبادل ما بين الطوائف، فإن في استطاعة اللبنانيين أن يكونوا السباقين إلى خلق نوع من "العلمنة" عن طريق فصل النظام السياسي عن النظام الطائفي، مع الإقرار بنصاب مدني، وبالتالي غير سياسي، للطوائف الدينية. وهذا النوع من العلمنة يختلف جذرياً عن الايديولوجيا العلمانية التي لا تعدو في الأنظمة الديكتاتورية أن تكون واجهة براقة وكاذبة معاً لإخفاء واقع الهيمنة الفئوية على السلطة. وإذا استطاع اللبنانيون أن يطوّروا معادلة تجمع بين ديموقراطية لا تقفز فوق التعدد الطائفي والاثني في المجتمع وبين علمانية تفصل الشأن السياسي العام عن الشأن الديني الخاص، فإنهم سيؤدون لأنفسهم، وللعالم العربي من حولهم، خدمة تاريخية هي اليوم من أشد ما تحتاج إليه المنطقة.