كلما تقادم الزمن بالمشكلة العراقية في ظل نظام صدام حسين تزداد تعقيداً وتشنجاً وصعوبة، لأنها تكبل ارتباطاً بالارادة الدولية عموماً، الغربية منها والشرقية، وبالارادة الاميركية خصوصاً، لتصبح، بالتالي، حلول هذه القضية اكثر صعوبة، واشد تعقيداً. ولا شك في ان القضية بمثل هذه الحالة المتشابكة يصعب حلها، الا ان استمرارها يؤذي الشعب العراقي، لا سيما مع اختلاف المصالح، وتباين الاهداف، وتعدد الأطر. وقد استطاع صدام بغباء سياسته الخرقاء وارتباطها بالمخطط الصهيوني لهدم العراق، ان يوصل الوضع السياسي العراقي الى هذا المستوى من التدهور الذي يسوء يوماً بعد يوم، وذلك نتيجة سياساته الرعناء الخطيرة، ان مع الدول الاقليمية، او الدولية، ناهيك عن تنكيله المتواصل بالشعب العراقي الاعزل الذي ترفض غالبيته الساحقة قبول حكمة الفاشي، وعنجهيته الديكتاتورية، فينال من ممارساته القمعية ما يعجز عنه الوصف. وتشهد القضية العراقية تطوراً جديداً، تمثل ب"المشروع الاميركي لاسقاط صدام"، وقد اكد المسؤولون الاميركيون على جدية العمل فيه، والاهتمام به الى درجة، وضعوا قانوناً لذلك، وأسموه "قانون تحرير العراق". اني لا اشك في مقدرة اميركا على اسقاط النظام بصفتها القوة الأحادية في العالم، خصوصاً بعدما استطاعت ان تدفع القوى العالمية معها في تنفيذ ما تريده، وذلك بطرد قوات صدام من الكويت بعد غزوه لها، ولعل موضوع كوسوفو - حالياً - واخضاع الديكتاتور ميلوشيفيتش للتنازل عن عنجيته، وقبوله بتنفيذ قرارات حلف الاطلسي بشأن الازمة في البلقان خير دليل على ذلك. بالنسبة الى القضية العراقية فقد تكون آراء المحللين السياسيين متفقة على الاشارة الى اهتمام الادارة الاميركية بانهاء الوجود الصدامي في بغداد، او في مناطق معينة من العراق كمرحلة اولى، وان معظم تصريحات المسؤولين الكبار في الادارة تؤكد ذلك. وقد ذهب بعضها الى حد تعيين موعد سقوط النظام بنهاية هذا العام، وقناعتي الخاصة ان اميركا قادرة على التغيير لو شاءت ذلك. ولكن هذا الامر غير واضح منها حتى لدى العراقيين المتعاطين مع هذا التوجه خصوصاً في ما يتعلق بطريقة التغيير، ونوعية البديل، اذ يصرّ الاميركيون على عدم البوح بهذين الامرين "خشية تسرّب الخطة"، ومن ثمة فشلها - كما يدعون - والنتيجة هي الغموض والابهام. ولعل هذا التكتم وعدم الاطمئنان، حتى لدى من يتبنى المشروع - ينبع من الرغبة في ان تكون عملية التغيير قائمة على استبدال صدام بآخر من دائرته الخاصة او ب"هيئة رؤوس" اخرى للحفاظ على بقية جسد النظام. ومثل هذا التغيير مرفوض ولا قيمة له على اساس ان صدام خلق مدرسة لهذا التوجه. فالمطلوب بالتغيير هو ازالة "الورم السرطاني الخبيث". ومن الضروري ان تكون لدى الواجهة العراقية، المشاركة مع الاميركيين في التغيير خطة، او - على الاقل - ملامح هذه الخطة، والا فانها مشاركة في امر مبهم للغاية، فيه من المخاطر الآنية والمستقبلية ما يضر بالمصلحة الوطنية، والمعادلة السياسية، وفوق هذا وذاك خيبة امل عند الشعب العراقي بالفرج الموعود، بعد هذه السنين القاتمة الساخنة، علماً بأن وهج الوعود سرعان ما يخبو بسبب عدم تفاعل الخطة الاميركية مع آمال العراقيين في التخلص من صدام وزمرته. يجب ان لا ننسى من الذي ساعد على وصول صدام الى السلطة، ومن الذي اجهض الانتفاضة الشعبانية آذار/ مارس 1991 ومن المسؤول عن المعاناة القاتلة التي يعاني منها الشعب العراقي، ومن افسح المجال للجيش الصدامي باجتياح كردستان العراق وهي تحت الحماية الدولية رسمياً، وغير هذا كثير وكثير؟ هناك فرق كبير بين ان تسعى اميركا، او اي جهة اخرى، لتغيير النظام الحاكم في العراق، وتساعد في مجيء سلطة اخرى - كما حدث في الانقلابات السابقة - وبين مشاركة جهة عراقية في عملية التغيير، فتكون المسؤولية مشتركة بينها وبين القوى المغيّرة، وحساب الشعب في غدٍ مع العراقيين، وليس مع الآخرين، وهذا ما يسبب احراجاً للمتعاطين مع المشروع لعدم وضوحه. نحن ضد بقاء العراق، شعباً ووطناً، رهن مقاطعة يستغلها صدام وآله، وقد أُجهد الشعب بالتضحيات الجسام طيلة هذا الحكم الاسود، والحكومات السابقة: ملكية وجمهورية مع اختلاف كبير في النسبة فلا بد من عمل ما مع قوى اقليمية ودولية لانهاء هذا الكابوس ولكن يجب ان لا يكون التعاون على حساب مصلحة الشعب والوطن، وانما على اساس المساعدة والتعاون. وهنا يبرز سؤال لا بد من مواجهته: ما الفائدة من تغيير يكون الشعب العراقي في معزل عنه لا حول له ولا قوة فيه؟ ولعل القادم أسوأ من صدام - وان كنت لا اعتقد ان ما بين العراقيين من هو اسوأ منه الا عصابته التي درّبها على هذا التوجه الدموي الفريد. الاحتمالات التي نتلمسها من خلال التصريحات الخارجية هي ان المطلوب في عملية التغيير رأس النظام وازالة الدائرة الخاصة، مع ابقاء النظام، او فرض ديكتاتور جديد يتظاهر في البداية بالديموقراطية والسلام والكلام المعسول، حتى اذا ما ثبت نفسه في الحكم كان صداماً ثانياً او اقل او اكثر حسبما تسمح له الظروف. وهذا اللون من التغيير نسميه "معالجة وقتية"، وليس حلاً جذرياً لمأساة الوطن التي أرهق بها منذ ما يسمى بالحكم الوطني الى هذه الساعة، بالامراض القاتلة والفتّاكة. وما جاءت حكومة - كما رأينا - الا ولعنت سابقتها، فتتظاهر بالاصلاح فترة قصيرة ثم تعود كسابقتها، وكأنها حملت تراث الماضي السيء ميراثاً وتزيد عليه "طغارين" كما يقول المثل العراقي. لا أريد - وأحسب ان الكثير من اخواني العراقيين - ان نسد الطريق على اي طرف من المعارضة العراقية المؤمنة بقضيتها، والصادقة في نيتها، فمصادرة الرأي والرأي الآخر نوع من الديكتاتورية التي نرفضها رفضاً قاطعاً. ولكن نذكر ان هذه المهمة مسؤولية خطيرة امام الله والتاريخ والاجيال والوطن. فالاجتهاد المرتجل في هذه القضية غير مقبول، لان هذه القضية تختلف كثيراً عن القضايا الاخرى التي ليست مصيرية، لان الضرر، في هذه الحال، يعود على الامة والوطن، ف"حب الوطن من الايمان" كما يؤكد الحديث الشريف. ان المشاريع التي طُرحت اخيراً يعوزها الوضوح، اذ يكتنفها الغموض الى درجة كبيرة، ونحن لا نريد حلاً مقارباً للمثل المعروف "تمخض الجبل فولد فأراً"، انما نتمنى تغيير النظام اليوم قبل غدا، وان يكون عراق ما بعد صدام يمثل عهد الاستقرار والتنمية، وعودة الشعب الى حاله الطبيعية من نمو فكري، وحياة لا يشوبها قلق، ودولة تتمثل فيها كل سبل السعادة والسلام والديموقراطية، وهذا كله يقتضي تكاتفاً شعبياً في الداخل والخارج على وحدة العمل نحو تحقيق هذا الهدف العظيم، وعدم الركون والاعتماد على الوعود الخلابة من هنا وهناك. فمصالح القوى الخارجية مقدمة - هذا في نظرهم - على مصالح وطننا، ان لم تكن مغايرة حسب الظروف والمقتضيات. ولكن هذا لا يمنع اطلاقاً من التعاون المشترك مع اي جهة - عدا الكيان الصهيوني - في ايجاد الصيغ والحلول مع مراعاة حفظ الحقوق والالتزامات، خاصة ونحن نمر في وضع صعب للغاية قد ينتهي الى اضطرار غالبية الشعب غداً لقبول "الامر الواقع" وهو ما يسعى اليه النظام وتساعده القوى الخائفة من التغيير القادم - حتى وان كان لا يزال "هاجساً". سواء اكانت هذه القوى دولية ام اقليمية، ولذلك تعزز بقاءه في السلطة بما يضمن مصالحها ولو موقتاً. ولعلي لا اكشف سراً بأن هناك خطورة في هذه المغامرة، خصوصاً مع اللعب على الواقع الطائفي للبلد، بحجة او بأخرى. وهذا ما استمر النظام الصدامي في التعاطي معه وادى الى هذه الحال المأسوية. فليست الفرصة الآن ملائمة للقوى التي تريد ان تجرب اللعبة الخبيثة ذاتها بأن تعيد عقارب الساعة الى الوراء، في وقت يطل بنا المستقبل على قرن جديد، ولا بد ان نستقبله بعقل متطور واعد بالمُثل الجديدة للسلام والخير والديموقراطية وتحري سبل الاخاء في العيش والتآلف. نحن مع كل عمل مخلص، وجهد مبذول من اجل الاطاحة بهذا النظام الديكتاتوري، ولن نقف حجر عثرة امام العاملين في هذا السبيل ولكن على الذين تحملوا مسؤولية العمل السياسي في اطره الجديدة ملاحظة القضايا المهمة التالية: 1 - استيعاب التجارب السياسية الماضية للمعارضة العراقية، والابتعاد عن مكامن الضعف وتحديد مواقع القدرة للاستفادة منها في التحرك المزمع. 2 - العمل ضمن قناعات الشعب العراقي وعدم استغفال خصوصيته وهويته، وصون حقوقه بما يتناسب وتركيبته الديموغرافية والاجتماعية، وبما لا يخل بالتوازن السكاني ومواجهة كل المحاولات البائسة والهادفة الى العمل ضمن المعادلات السياسية السابقة التي افرزت "عراق صدام". 3 - العمل الجاد لتوفير الامن والسلام في مناطق الجنوب والوسط والشمال، من خلال تفعيل القرارات الدولية الخاصة لضمان حقوق الانسان. 4 - المساهمة الفاعلة في تهيئة الاجواء والقناعات الدولية لمحاكمة صدام، والاستفادة من التجربة اليوغوسلافية في ذلك. 5 - التواصل مع الشعب والمجاهدين في الداخل لتأكيد ان ارادة الشعب هي الفيصل في تحديد واختيار نوعية الحكم، وان الديموقراطية هي الضمان لعراق الغد. 6 - كما نطالب كل الدول الديموقراطية في العالم ان تدعم قيام ديموقراطية في العراق تتبنى على اساس "صوت واحد لكل مواطن" وان لا تتعامل هذه الدول معنا بمكيالين، فلا تقبل غير النظام الديموقراطي في بلدانها، الا انها تبخل علينا بهذا النظام، فتقدم لنا بدائل اخرى على اسس لا تتطابق مع حق الانسان في اختيار النظام الذي يريده. واخيراً ارجو الله العلي القدير ان يعضد همم الشرفاء المخلصين للسعي في تحالفات نزيهة غير مشبوهة، وفي اتجاه وحدة الشعب وانهاء معاناته، وهو وسبحاته ولي التوفيق، ومسدد سلامة القصد. * هذا المقال هو نص مداخلة ألقاها الكاتب في ندوة عقدت في لندن في 23/6/1999. ** معارض عراقي.