تقول دفاتر بغداد ان المشهد عادي جداً. بارد وتنقصه الإثارة. كئيب وهجين ومستورد. وان الحكام الجدد ضعفاء الى درجة الاتكاء على القانون. هذه بغداد فلا تخطئ في الحساب. لا يولد الحاكم هنا في أحضان الدستور. هنا القصر بوابة القبر. لا فسحة بينهما. لا يتعب الحاكم. لا يستقيل لا يتقاعد. لا وقت لديه لتدبيج المذكرات. بالبطش والمكر يفوز الحاكم بالقصر. وبالبطش والمكر يخسره. وليمة الحكم لا تتسع لشركاء، وتكون فيها طاعناً أو مطعوناً. كاد صدام حسين يبتسم حين لفظ القاضي الحكم. الإعدام شنقاً حتى الموت. الإعدام ليس كائناً غريباً يثير الرعب في نفسه. يمكن القول ان الإعدام كان مهنته وقاموسه في مخاطبة خصومه. يمكن القول انه أخفى دائماً في ثيابه حبلاً ومسدساً. وان السيد اعدام تحول حاجباً في مكتبه. وان حسه العملي لم يتسع لمحاكمات ومرافعات وتقديم دفوعات وأدلة وقرائن. كان الاعدام شريكه ورفيقه. مدير مكتبه. كان عضواً في القيادة القطرية وفي قيادة القوات المسلحة ايضاً. بوطأة الإعدام طهّر الجيش وطهّر الحزب وطهّر الشعب. كاد صدام حسين يبتسم حين لفظ القاضي الحكم. تأخر الاعدام في الوصول. قال في سره. دائماً كان يتوقع تنفيذ حكم الاعدام به ومن دون اطلاعه مسبقاً على حيثيات الحكم. كان يرى شبح المؤامرة يجول في عيون الأعداء وأحياناً يراه في عيون الرفاق. بالإعدام وحده يمكن مخاطبة من يستعد لإعدامك. كان يمكن لمشهد البارحة ان يرتدي بُعداً آخر. كما كان جميلاً لو ان المستبد حوكم على أفعاله فيما يعيش العراق في ظل ديموقراطية فعلية. جميل ان يساق الديكتاتور أمام العدالة وان يُسأل عما اقترفت يداه. لكن شيئاً ما كان يعكر الاحتفال. لعله هذا الشعور بأن حكم الاعدام نفذ. بحق العراق قبل ان يُنفذ بحق صدام. وان بعض الذين رقصوا ابتهاجاً بسقوط صدام ارتكبوا ويرتكبون أضعاف ما ارتكب. وان مسؤوليتهم في اغتيال العراق تفوق مسؤولية الاحتلال على رغم فداحة ارتكاباته. ارتكب صدام ما يبرر صدور الحكم. ترك وجعاً في كل مدينة وقرية ووراء كل نافذة. فتيان آلة القتل أنفسهم وقعوا في شباكها. يستحيل العثور له على أسباب تخفيفية. ان عداء حاكم للولايات المتحدة لا يغسله من جرائمه. ان هجاء جورج بوش لتأكيد براءة صدام حسين يشبه العمل في مطابخ صدام أيام عزه وأوسمته وكوبوناته. ان ربط كرامة الأمة بكرامة حاكم مرتكب عمل يفتقر الى الصدقية والسوية الأخلاقية. ارتكب صدام داخل العراق وخارجه ما يبرر صدور حكم الإعدام شنقاً حتى الموت. لكن كل محب للعراق يشعر بأن ارتكابات بعض القوى التي ظهرت غداة سقوط التمثال والمستبد تنوف في خطورتها جرائم صدام. الفرز الطائفي والمذهبي. القتل على الهوية. تحويل العراق أرضاً مستباحة من الاحتلال من جهة، ومن وفدوا بحجة مقاومة الاحتلال من جهة أخرى. تفكيك النسيج العراقي واطلاق مشاعر الطلاق. تصديع الوحدة الوطنية والسماح للقوى الاقليمية وعلى رأسها ايران بالتسلل الى داخل المعادلة العراقية. ان التذرع بمقاومة الاحتلال، وهي حق مشروع، لتغطية سياسات فئوية أو طائفية عمل يوازي المشاركة في إعدام العراق. لا مبرر للاحتفال. إعدام العراق سبق إعدام صدام حسين. ها نحن نشهد تفكك دولة كنا نراهن على أنها ستكون الرافعة والنموذج بفضل ثرواتها الطبيعية والبشرية. لا مبرر للاحتفال لأن عراق ما بعد صدام يبدو أشد خطورة على نفسه وجيرانه من عراق صدام وهو كان بالغ الخطورة. ولا مبرر للاحتفال لأن المرء يخشى أن يولد في كل حي في العراق صدام صغير يحترف الإعدام وأن نفيق ذات يوم على عراق يغص بألف صدام وصدام في شرق أوسط يعوم على الحروب الأهلية والظلام والاستبداد والجثث المجهولة الهوية والترسانات.