أصبحت تطورات الأحداث الحادة في دارفور عنواناً دائماً في الإعلام الدولي تتزاحم مع المسألة النووية في كوريا وإيران، حتى ظن البعض أن هذه المشاكل الثلاث المتفجرة تتساوى في أهميتها عند الطرف الآخر الذي يمسك بخيوط هذه المشاكل وهو الولاياتالمتحدة. لكن أهمية هذه المشاكل لدى المتابع تختلف تماماً في أولوياتها لدى الإدارة الأميركية. ولا شك أن قضية دارفور تحتاج إلى متابعة يومية لسببين رئيسين، السبب الأول: هو الحالة الإنسانية التي تتحدث عنها الإدارة الأميركية والأممالمتحدة ومنظمات حقوق الإنسان والتي تصور الأمر على أنه نزيف بشري لا يحتمل التأجيل وأن سبب هذه المذابح هو الحكومة السودانية التي تتستر عليها أو تشارك فيها ولا تريد لها أن تتوقف. بل إن بعض التقارير وصلت في فلسفة الموقف إلى درجة الاعتقاد بأن الحكومة السودانية تقوم بهذه المجازر لإحداث تغيير جوهري في موازين القوى الحاكمة لخريطة الإقليم والذي يصل عدد سكانه ومساحته إلى سدس سكان ومساحة السودان. معنى ذلك أن الحكومة السودانية وهي طرف أساسي في المعادلة تحاول أن تسيطر على عناصر الموقف في دارفور. أما السبب الثاني فهو إصرار الولاياتالمتحدة على ما تسميه مسارعة المجتمع الدولي لإنقاذ دارفور وأنه لا سبيل إلى إنقاذها إلا بالتصدي للحكومة السودانية وإبعادها عن الإقليم وذلك عن طريق نشر قوة دولية فيه. ومن الواضح أن البعد الإنساني هو الذي يتقدم لكي يبرز البعد السياسي أو بعبارة أخرى فإن الولاياتالمتحدة تصور الموقف على أنه مسألة إنسانية بحتة وأن الآثار السياسية المرتبطة بإبراز هذا البعد الإنساني تتصادم مع الموقف المعاكس للحكومة السودانية. بينما ترى الحكومة السودانية أن القضية أولاً وأخيراً قضية سياسية محركها الأساسي هو الرغبة الأميركية والإسرائيلية في السيطرة على إقليم دارفور بموارده الضخمة وموقعه الاستراتيجي المميز بالإضافة إلى اعتقاد الحكومة السودانية أن البعد الإنساني لا يعدو أن يكون ذريعة للأطماع السياسية. ومن هذا يتبين لنا موقفان متناقضان هما الموقف الأميركي والموقف السوداني. من ناحية تبدو الولاياتالمتحدة ووراءها المجتمع الدولي ومجلس الأمن ومجموعة كبيرة من قراراته لإنقاذ ملايين المعذبين والمشردين وضحايا المذابح، ومن ناحية أخرى تبدو الحكومة السودانية وكأنها تصارع تياراً طاغياً تتسع تحالفاته كل يوم بينما تضيق خياراتها كل يوم. فالحكومة السودانية تشعر بأنها تدافع عن أراضي السودان ضد مخطط أميركي يستهدف السودان وأقاليمه وأن التفريط في المقاومة هو تسليم بهذا المخطط واستسلام له. بينما ترى الولاياتالمتحدة أن الحكومة السودانية ترتكب عن عمد أعمالاً إجرامية وتحاول الولاياتالمتحدة أن تدفع الجهود الدولية نحو بلورة الأوصاف القانونية لهذه الاعمال بحيث تصبح جرائم حرب وإبادة جماعية، ولهذا السبب فقد أسعد واشنطن تصريح الرئيس النيجيري أبا سانجو الذي رعى اتفاق أبوجا للسلام بين الحكومة السودانية والفصائل في دارفور، والذي أكد فيه أن الجرائم التي ترتكب في دارفور هي من قبيل جرائم الإبادة الجماعية، وهو اصطلاح تجنبت الأممالمتحدة ومنظمات حقوق الإنسان أن تطلقه على الأوضاع في دارفور. ونظن أن تقويم الموقف في دارفور لتحديد مصير هذا الصراع يتطلب مراجعة دقيقة لأوراق وتحالفات الطرفين المتصارعين. فمن وجهة نظر السودان هو صراع بين الاستقلال الوطني والاستعمار الجديد. ومن وجهة نظر الولاياتالمتحدة هو صراع بين الخير الذي تريد واشنطن أن ينعم به أبناء دارفور وبين الشر الذي تمثله الحكومة السودانية المتهمة بارتكاب المذابح والتستر عليها، وهو من وجهة نظر واشنطن صراع بين المجتمع الدولي وبين حكومة مارقة تفقد شرعيتها كلما اشتد مروقها وتعنتها. وتركز الصراع أخيراً على ملف القوة الدولية التي تستميت واشنطن بكل الطرق لنشرها وتستعين بالجميع من أجل تحقيق هذه الغاية. يقابل ذلك إصرار سوداني لم تؤثر فيه حتى الآن كل محاولات كسره واحتوائه أو حتى القفز عليه وتجاوزه. نتج عن الصدام المباشر المزيد من الضغوط الأميركية المباشرة على السودان، وظهور اقتراح توني بلير رئيس الوزراء البريطاني بتقديم مجموعة من الحوافز والإغراءات والتهديدات أيضاً للتغلب على رفض الحكومة السودانية نشر القوة الدولية. ترتب على جمود الصراع عند نقطة معينة أيضاً تجدد المحاولات الأميركية المباشرة تجاه الخرطوم مثل التلويح بالتدخل العسكري ونشر القوة الدولية ضد رغبة السودان, وكذلك تقديم الوعد للرئيس السوداني بلقاء الرئيس بوش وامكان قيام فرص لتحسين العلاقات السودانية - الأميركية. يدخل في ذلك أيضاً ارسال المبعوثين من الجانبين للقيام بإتصالات مباشرة مع القيادتين الأميركية والسودانية. ترتب على ذلك من ناحية ثالثة أن مساعد الأمين العام للأمم المتحدة اقترح الاكتفاء بالقوة الافريقية وتركيز مساعدات الأممالمتحدة بالتعاون مع الحكومة السودانية ومع القوة الافريقية وهو اقتراح لم يجد ارتياحاً عند واشنطن فتجاهلته وشنت حملة غاضبة على صاحب الاقتراح. على الجانب الآخر لاحظت الحكومة السودانية تمسك واشنطن بالقوة الدولية ولذلك حاولت تفنيد الأسباب المعلنة لارسال هذه القوة بل أكدت أن القوة الدولية لا تستطيع أن تحل مشكلة سياسية اجتماعية، وكلما زاد إلحاح واشنطن على القوة الدولية، زادت شكوك السودان في نيات واشنطن مما يدفعه إلى المزيد من الرفض. واتجهت الحكومة السودانية أخيراً إلى العناية ببعض الجوانب التي أثارتها واشنطن في دارفور. فبدلاً من إحالة المتهمين بارتكاب جرائم في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية اقترحت الحكومة السودانية إنشاء دوائر قضائية خاصة بهذا النوع من الجرائم فقط ولكنها لاحظت أن الحكومة الأميركية لا تهمها الجرائم وضحاياها بقدر ما يهمها المسؤولون السودانيون الذين تتهمهم بارتكاب هذه الجرائم. من ناحية أخرى شدد السودان على أن الأموال المقترح إنفاقها على القوة الدولية يمكن أن تنقذ الضحايا في دارفور إذا تعاونت الدوائر الدولية مع الحكومة السودانية. من ناحية ثالثة يرى السودان أن القوة الافريقية كافية ولكن هذه القوة لا تستطيع أن تعمل على أساس صحيح ما دام المتمردون لم يوقعوا اتفاق السلام وما دامت أوروبا والولاياتالمتحدة لم تفيا بما تعهدتا به لدعم القوة الافريقية، وبدلاً من ذلك نفضتا أيديهما من هذه القوة وقفزتا إلى اقتراح القوة الدولية من دون مقدمات. وفي مواجهة الشكوى من الموقف الإنساني أعلن السودان أنه وضع خطة مدتها شهران لنزع سلاح قبائل الجنجاويد، وهو اتزام قديم تكرر ذكره في قرارات مجلس الأمن، كما أنه التزام على الحكومة السودانية في اتفاق السلام الموقع في أبوجا. فإذا لم يكن لدى واشنطن مخطط للقضاء على السودان والاستيلاء على دارفور فإننا نعتقد أن هناك الكثير من العناصر التي يمكن العمل والتفاعل معها والتعاون بحسن نية في إطارها لحل مشكلة دارفور وأهم هذه العناصر هي: مبادرات الحكومة السودانية المتعاقبة لتسوية الأزمة, وعدم تحمس أوروبا للخط الأميركي في دارفور والتفهم الافريقي الواسع وكذلك العربي لموقف السودان من القوة الدولية، وهو الذي اضطر مجلس الأمن في ايلول سبتمبر الماضي إلى تقرير استمرار القوة الافريقية حتى كانون الأول ديسمبر 2006 في دارفور لعل هذه المهلة يمكن الاستفادة منها للتوصل إلى تسوية لملف القوة الدولية. ان واشنطن تسعى إلى إضعاف الموقف السوداني المناهض للقوة الدولية ولا تهتم بالمبادرات السودانية وتقوم بتحريض الجميع ضد السودان خصوصا في موضوع القوة الدولية، ولا يمكن أن تقبل واشنطن من السودان بأقل من الموافقة على نشر هذه القوة حتى بات المراقبون يتوقعون انهيار الموقف السوداني بأي ثمن. فما هو مستقبل هذا الصراع على ضوء هذا التحليل وما مستقبل السياسة الأميركية في دارفور إذا استمر الرفض السوداني أو اضطرت الخرطوم إلى التراجع؟ وما أثر ذلك على مجمل الأوضاع في السودان وما جاوره في الحالتين. الظاهر أن إصرار واشنطن على اختزال قضية دارفور في ملف القوة الدولية، وتراجع التأييد الداخلي والدولي بشكل عام للموقف السوداني بسبب الضغط الأميركي يضعان علامة استفهام كبيرة على الوجهة التي يتجه إليها هذا الصراع. * كاتب مصري