قراءة في الخطاب الملكي    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    التزامات المقاولين    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    الاستخبارات الأمريكية وعلاقتها بالصحافة!    قصيدة بعصيدة    وزير الصحة اللبناني : ارتفاع حصيلة ضحايا تفجيرات أجهزة الاتصالات إلى 37 قتيلاً و2931 مصاباً    جوشوا: جاهز للمواجهة.. ودوبوا يرد: أنا هنا لأثبت نفسي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    الخلود يتذوق طعم الانتصار الأول على حساب الوحدة    52 غارة إسرائيلية تستهدف جنوب لبنان    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    الاستثمار الإنساني    ابتكاراتنا ملهمة    تضاعف النمو الاقتصادي الخليجي 4.4 % مع عكس تخفيضات إنتاج النفط    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    بيولي: لا يجب التركيز على الماضي بل النظر للمستقبل    «الأمن البيئي» تقبض على مخالف لارتكابه مخالفة الصيد في أماكن محظورة بمحمية الملك خالد الملكية    فريق طبي بتجمع جازان الصحي ينجح في إعادة السمع لطفل    هيئة الأفلام تطلق النسخة الثانية من "منتدى الأفلام السعودي" أكتوبر المقبل    بلدية محافظة الاسياح تنفذ فرضية استباقية لمواجهة خطر السيول والأمطار    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    محافظ الأحساء: الخطاب الملكي يحمل حرصا شديدا على حماية هويتنا وقيمنا    الكويت ترحب بتبني الأمم المتحدة قرارًا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    القيادة تهنئ الحاكم العام لسانت كيتس ونيفيس بذكرى استقلال بلادها    مجمع إرادة بالرياض: سلامة المرضى أولوية لدينا نظراً لطبيعة المرضى النفسيين ومرضى الإدمان    الغذاء والدواء: لا صحة للادعاءات المنتشرة حول فوائد مشروب جذور الهندباء    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    الرياض تحتضن القمة والمعرض السعودي للبنية التحتية الثلاثاء المقبل    البروفيسور فارس العنزي يحصد لقب الشخصية الأكثر تأثيراً في النشر العلمي بالولايات المتحدة الأمريكية    ارتفاع أسعار الذهب    أمير الشرقية: الخطاب الملكي أكد على مضي بلادنا لتحقيق المزيد من التطور والازدهار والنماء    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    اختتام دورة حراس المرمى التمهيدية في الرياض وجدة    المواطن عماد رؤية 2030    التعاون يتغلّب على الخالدية البحريني بثلاثية في دوري أبطال آسيا    حضن الليل    «التعليم»: تخصيص بائع في مقاصف المدارس لكل 200 طالب    أحياناً للهذر فوائد    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    سموه رفع الشكر للقيادة.. وزير الثقافة يُثمّن تسمية مجلس الوزراء ل "عام الحِرف اليدوية"    د. حياة سندي تحصد جائزة المرأة الاستثنائية للسلام    العواد إلى الثانية عشرة    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    إلى جنَّات الخلود أيُّها الوالد العطوف الحنون    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    سلامة المرضى    كلام للبيع    كسر الخواطر    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دارفور في مجلس الأمن : السابقة الخطيرة ومضاعفاتها
نشر في الحياة يوم 09 - 04 - 2005

في ساعة متقدمة من ليل أخر أيام الشهر الماضي، تمكن مجلس الأمن بعد جدل طويل دام أكثر من أسبوعين من إصدار القرار 1593 بناء على مشروع قرار فرنسي ساندت الولايات المتحدة كل فقراته، ما عدا الإشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية. وكان المجلس أصدر هذا القرار بغالبية 11 صوتاً من دون معارضة، بينما امتنعت عن التصويت أربع دول، هي الجزائر، والبرازيل، إضافة إلى الصين، والولايات المتحدة التي فسرت موقفها بأنها امتنعت عن التصويت بدلاً من الاعتراض بعد أن قبلت فرنسا استثناء الجنود الأميركيين في السودان من الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية. أما مندوب الجزائر فهاجم القرار بشدة، بسبب هذا الاستثناء الأميركي، ما يوضح أن الدول الصغيرة تمتنع فى مجلس الأمن عن التصويت على القرارات التي لا توافق عليها، لأنها لا تملك المعارضة.
ويبدو أن مجلس الأمن والدول الدائمة العضوية فيه التقت عند مصلحة معينة مع الولايات المتحدة فى دارفور، فأصبح المجلس أحد الأدوات الثلاث للتصعيد ضد السودان إلى جانب العقوبات الأميركية المباشرة، والضغوط الأوروبية المتأثرة بالموقف الأميركي. ومن الواضح أن المجلس صعد موقفه ضد السودان بسبب دارفور في قرارات عدة صدرت متعاقبة في الشهور الأخيرة منذ منتصف العام 2004، وتناولت بشكل منظّم تطور الضغوط على السودان، وانتهت في القرار 1556 بأن المجلس ينوي تطبيق جزاءات المادة 41 على السودان، ما لم يتعاون مع الأمم المتحدة في تحقيق أهداف القرار ومتطلباته. وركزت الولايات المتحدة على الجانب الإنساني في أزمة دارفور، وقدّم الأمين العام للأمم المتحدة تقريرًا لم يؤكد فيه ما أعلنته الولايات المتحدة من أن الجرائم المرتكبة في دارفور من جانب القوات السودانية والقبائل المتعاونة معها تصل إلى حد جرائم الإبادة الجماعية، وإنما هي جرائم حرب.
وفي كل الأحوال، وضع تقرير الأمين العام لبنة قوية بُني عليها تقرير لجنة التحقيق الدولية الذي تلقفه قرار مجلس الأمن الأخير، ومؤداه أنه إذا كانت هذه الجرائم ارتكبت في دارفور، فإنه يجب تقديم المسؤولين عنها للمحاكمة. وعند هذا الحد بدأ جدل جديد حول الجهة المختصة بتوجيه الاتهام، والجهة المختصة بالمحاكمة. فأكد السودان أن هذه القضية تتعلق بالعدالة الدولية. وحدث شقاق بين فرنسا والولايات المتحدة رفضت فيه الأخيرة رفضاً قاطعاً مجرد الإشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية، لأن الولايات المتحدة تخشى تقديم مواطنيها المتهمين بارتكاب جرائم من النوع الذي تختص به هذه المحكمة، ولذلك سحبت توقيعها على نظامها الأساسي، وقاومت نفاذ هذا النظام كما عارضت قيامها. كذلك حاولت الولايات المتحدة الالتفاف على اختصاص المحكمة، فأبرمت مع عدد كبير من الدول اتفاقات تستثني بموجبها مواطني الولايات المتحدة من تقديمهم من جانب هذه الدول إلى المحاكمة. في الوقت نفسه عملت الولايات المتحدة على استصدار قرار من مجلس الأمن لعامين متتالين بإعفاء مواطنيها من اختصاص المحكمة. في إطار هذه الصورة صدر قرار مجلس الأمن الرقم 1593 كخطوة جديدة في اتجاه يظهر للمرة الاولى في تاريخ المنظمة الدولية بهذا الوضوح، وإن كان ظهر بدرجة أقل في حادثة لوكربي، حين طلب المجلس من ليبيا تسليم مواطنيها المشتبه في ضلوعهما في الحادث للمثول أمام المحاكم الأميركية أو البريطانية. وفي هذا الصدد شدد مندوب الأرجنتين على أن الاستثناء الأميركي لا يجوز أن يصبح قاعدة، وأن هذه السابقة الأولى يجب أن تؤدي إلى احترام روح ونص ميثاق روما، وأن تضع في اعتبارها مخاوف الدول، وأن الاستثناء الأميركي ينطبق فقط على الدول غير الأطراف في نظام المحكمة.
ومن الملاحظ أن قرار دارفور أشار إلى استثناء المواطنين الأميركيين الذين يرتكبون جرائم في السودان من تقديمهم إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو إلى أية محاكم وطنية أخرى، وهو تمييز انتقدته منظمات حقوق الإنسان الدولية.
كان القرار الأول الذي أصدره مجلس الأمن بشأن دارفور يفرض حظر السلاح وتجميد الأرصدة، وحظر السفر لكل من يتحدى جهود السلام، لكن القرار الثاني تضمن إرسال عشرة آلاف جندي لحفظ السلام بين الطرفين لإنهاء واحد وعشرين عاماً من الحرب الأهلية. وبينما فضلت الخرطوم التي عارضت القرار معارضة شديدة، وشنت حملة شعبية ضده، اختصاص القضاء السوداني وحده، فإن الولايات المتحدة رغبت في أن يحال المتهمين إلى محكمة إفريقية، وهو ما لقي تأييداً محدوداً في مجلس الأمن، ولذلك فإن حصول الولايات المتحدة على ضمانات لصالح مواطنيها هو الذي شجعها على التخلي عن استخدام الفيتو ضد مشروع القرار. ومن الواضح أن مجرد الإشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية سوف يثير حفيظة المحافظين في الإدارة الأميركية بمن فيهم جون بولتون المرشح لرئاسة الوفد الأميركي في نيويورك.
وقد أخذ القرار علماً بتقرير اللجنة الدولية للتحقيق في انتهاكات القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان في دارفور مشيراً إلى المادة 16 من نظام المحكمة التي تمنع التعقب أو الاستدلال من جانب المحكمة قبل مضي 12 شهراً على طلب مجلس الأمن ذلك. وتضمن القرار في الديباجة أن الوضع في السودان وليس في دارفور لا يزال يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وأن المجلس يتصرف بموجب الفصل السابع من الميثاق، كما يتضمن القرار إحالة الموقف في دارفور منذ الأول من تموز يوليو 2002 إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، والزم القرار حكومة السودان والأطراف الأخرى في الأزمة بالتعاون التام، وتقديم المساعدة الضرورية للمحكمة وللمدعي، كما يحث كل الدول الأخرى غير الأعضاء في نظام المحكمة على التعاون، وكذلك الاتحاد الإفريقي.
وإذا كانت الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية تضمنها تقرير المندوب السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وهي البديل الثالث كما ذكرنا إلى جانب القضاء السوداني والمحكمة الإفريقية، فإن الدول الإفريقية في المجلس وهي تنزانيا وبنين أيدت تماماً قرار المجلس، وانضمت إليها البرازيل والأرجنتين، التي امتنعت عن التصويت اعتراضاً على استثناء الرعايا الأميركيين. أما السودان فانتقد القرارات غير الحكيمة للمجلس ضد بلاده، وكذلك تحالف الدول الرئيسة ضد الدول النامية، مؤكداً أن القرار يزيد تعقيد المسألة، وأظهر أن المحكمة الجنائية الدولية لن تكون إلا أداة لممارسة التفوق الثقافي ضد الدول الضعيفة النامية، كما انتقد إغفال المجلس لاقتراح نيجيريا رئيس الاتحاد الإفريقي.
فإذا كان من الواضح أن قرار مجلس الأمن خطا خطوة أخرى في تصعيد المشكلة هذه المرة ضد المسؤولين السودانيين، فإن المجلس صور الموقف في دارفور على أن مسلسل الجرائم التي ارتكبها المسؤولون السودانيون لن يمر بلا عقاب، ويبدو أن المجلس احتفظ لنفسه بالسر حول أسماء الأشخاص المتهمين، الذين تردد أنهم حوالى 51 اسمًا، بينهم كبار المسؤولين السودانيين. ويفترض قرار المجلس، كما سبق أن افترض في المسألة السورية - اللبنانية أن الدولة السودانية نفسها متورطة في هذه المذابح، ومن ثم فإن إحالة المسؤولين فيها إلى القضاء الدولى ينطوي على عدم الثقة في أن تتحقق العدالة للضحايا قبل هؤلاء المسؤولين أمام المحاكم السودانية.
وإذا كان قرار مجلس الأمن صحيحاً من الناحية الشكلية اذ يتحدث عن عدالة دولية ضد جرائم الإبادة الجماعية ما لا يقوى أحد على معارضته، إلا أن هذا القرار استخدم لتحقيق أغراض سياسية لا علاقة لها بالعدالة المزعومة، فالمجلس ينزع هنا الشرعية عن الحكومة السودانية ويضعها في قفص الاتهام، منتهكاً بذلك مبادئ السيادة والاستقلال للدول، ودور مجلس الأمن في مثل هذه الظروف. ولكن الأخطر هو أن المجلس استخدم لتنفيذ مخطط ضد السودان وتمزيقه، وربما انتزاع دارفور من أحضانه، ولذلك فإن مساندة العالم العربى للحكومة السودانية أصبحت أكثر إلحاحاً. صحيح أن هذا الصراع في دارفور راح ضحيته كثيرون من أبناء الشعب السودانى، وأن هذه القضية تظل دولية في آثارها، لكنها سودانية في محتواها وإطارها. هذه إذاً سابقة بالغة الخطر يجب التنبه لها في إطار سياسة تفكيك العالم العربي، ثم تفتيت دوله، وحتى لا يصحو العالم العربي الذي طال رقاده على سودان جديد ممزق الأوصال، وقد زالت عنه صفته العربية والإسلامية، وأصبح ساحة للصراع العربي الإفريقي بدلاً من أن يكون واحة وارفة للتعايش بين العرب والأفارقة، وجسراً متيناً للتضامن بين الطرفين، خصوصاً أن موقف الاتحاد الإفريقي ليس مقتنعاً بالطرح الأميركي، الذي يركز على أن الصراع في دارفور هو صراع بين العناصر العربية والإفريقية.
وإذا كانت القمة العربية فى الجزائر تناولت قضية التعاون العربي - الإفريقي على استحياء، فإنه من المناسب أن تبدأ الجامعة العربية على الفور حواراً مع الاتحاد الإفريقي لتنسيق المواقف العربية والإفريقية، خصوصاً أن قرار مجلس الأمن الأخير يعطي مساحة واسعة لدور الاتحاد الإفريقي، ذلك أن حصر القضية في إطار إقليمي يمكن أن يساعد على البحث عن حل عربي لصلب المشكلة، بدلاً من الدوران حول مضاعفاتها أو المتاجرة سياسية بمثل هذه المآسي الإنسانية، والعمل في إطار مخطط أوسع ضد العالم العربي والإسلامي.
ولا شك أن السودان الموحد الديموقراطي إضافة مهمة للمصالح المصرية والعربية، ولذلك فإن الطريق التي يتجه إليها السودان تمثل تحدياً حقيقياً للمصالح المصرية والعربية، وتتطلب من مصر رؤية ودوراً يتناسبان مع إدراكها لخطورة هذه التطورات، وأخشى أن تكون مصر غير قادرة على استيعاب ما يحدث في السودان ومضاعفاته عليها، أو أن تكون غير قادرة على التحرك بذرائع لا يمليها سوى القعود عن نوال المصلحة ، والعجز عن إدراك المقاصد، وفي كل الأحوال فإن مصر هي الخاسر الأكبر في معادلة السودان، وستدفع أجيالها القادمة ثمن القعود والعجز الذي لازم الموقف المصري من قضايا السودان طيلة الخمسين عاماً الماضية.
كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.