في ساعة متقدمة من ليل أخر أيام الشهر الماضي، تمكن مجلس الأمن بعد جدل طويل دام أكثر من أسبوعين من إصدار القرار 1593 بناء على مشروع قرار فرنسي ساندت الولاياتالمتحدة كل فقراته، ما عدا الإشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية. وكان المجلس أصدر هذا القرار بغالبية 11 صوتاً من دون معارضة، بينما امتنعت عن التصويت أربع دول، هي الجزائر، والبرازيل، إضافة إلى الصين، والولاياتالمتحدة التي فسرت موقفها بأنها امتنعت عن التصويت بدلاً من الاعتراض بعد أن قبلت فرنسا استثناء الجنود الأميركيين في السودان من الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية. أما مندوب الجزائر فهاجم القرار بشدة، بسبب هذا الاستثناء الأميركي، ما يوضح أن الدول الصغيرة تمتنع فى مجلس الأمن عن التصويت على القرارات التي لا توافق عليها، لأنها لا تملك المعارضة. ويبدو أن مجلس الأمن والدول الدائمة العضوية فيه التقت عند مصلحة معينة مع الولاياتالمتحدة فى دارفور، فأصبح المجلس أحد الأدوات الثلاث للتصعيد ضد السودان إلى جانب العقوبات الأميركية المباشرة، والضغوط الأوروبية المتأثرة بالموقف الأميركي. ومن الواضح أن المجلس صعد موقفه ضد السودان بسبب دارفور في قرارات عدة صدرت متعاقبة في الشهور الأخيرة منذ منتصف العام 2004، وتناولت بشكل منظّم تطور الضغوط على السودان، وانتهت في القرار 1556 بأن المجلس ينوي تطبيق جزاءات المادة 41 على السودان، ما لم يتعاون مع الأممالمتحدة في تحقيق أهداف القرار ومتطلباته. وركزت الولاياتالمتحدة على الجانب الإنساني في أزمة دارفور، وقدّم الأمين العام للأمم المتحدة تقريرًا لم يؤكد فيه ما أعلنته الولاياتالمتحدة من أن الجرائم المرتكبة في دارفور من جانب القوات السودانية والقبائل المتعاونة معها تصل إلى حد جرائم الإبادة الجماعية، وإنما هي جرائم حرب. وفي كل الأحوال، وضع تقرير الأمين العام لبنة قوية بُني عليها تقرير لجنة التحقيق الدولية الذي تلقفه قرار مجلس الأمن الأخير، ومؤداه أنه إذا كانت هذه الجرائم ارتكبت في دارفور، فإنه يجب تقديم المسؤولين عنها للمحاكمة. وعند هذا الحد بدأ جدل جديد حول الجهة المختصة بتوجيه الاتهام، والجهة المختصة بالمحاكمة. فأكد السودان أن هذه القضية تتعلق بالعدالة الدولية. وحدث شقاق بين فرنساوالولاياتالمتحدة رفضت فيه الأخيرة رفضاً قاطعاً مجرد الإشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية، لأن الولاياتالمتحدة تخشى تقديم مواطنيها المتهمين بارتكاب جرائم من النوع الذي تختص به هذه المحكمة، ولذلك سحبت توقيعها على نظامها الأساسي، وقاومت نفاذ هذا النظام كما عارضت قيامها. كذلك حاولت الولاياتالمتحدة الالتفاف على اختصاص المحكمة، فأبرمت مع عدد كبير من الدول اتفاقات تستثني بموجبها مواطني الولاياتالمتحدة من تقديمهم من جانب هذه الدول إلى المحاكمة. في الوقت نفسه عملت الولاياتالمتحدة على استصدار قرار من مجلس الأمن لعامين متتالين بإعفاء مواطنيها من اختصاص المحكمة. في إطار هذه الصورة صدر قرار مجلس الأمن الرقم 1593 كخطوة جديدة في اتجاه يظهر للمرة الاولى في تاريخ المنظمة الدولية بهذا الوضوح، وإن كان ظهر بدرجة أقل في حادثة لوكربي، حين طلب المجلس من ليبيا تسليم مواطنيها المشتبه في ضلوعهما في الحادث للمثول أمام المحاكم الأميركية أو البريطانية. وفي هذا الصدد شدد مندوب الأرجنتين على أن الاستثناء الأميركي لا يجوز أن يصبح قاعدة، وأن هذه السابقة الأولى يجب أن تؤدي إلى احترام روح ونص ميثاق روما، وأن تضع في اعتبارها مخاوف الدول، وأن الاستثناء الأميركي ينطبق فقط على الدول غير الأطراف في نظام المحكمة. ومن الملاحظ أن قرار دارفور أشار إلى استثناء المواطنين الأميركيين الذين يرتكبون جرائم في السودان من تقديمهم إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو إلى أية محاكم وطنية أخرى، وهو تمييز انتقدته منظمات حقوق الإنسان الدولية. كان القرار الأول الذي أصدره مجلس الأمن بشأن دارفور يفرض حظر السلاح وتجميد الأرصدة، وحظر السفر لكل من يتحدى جهود السلام، لكن القرار الثاني تضمن إرسال عشرة آلاف جندي لحفظ السلام بين الطرفين لإنهاء واحد وعشرين عاماً من الحرب الأهلية. وبينما فضلت الخرطوم التي عارضت القرار معارضة شديدة، وشنت حملة شعبية ضده، اختصاص القضاء السوداني وحده، فإن الولاياتالمتحدة رغبت في أن يحال المتهمين إلى محكمة إفريقية، وهو ما لقي تأييداً محدوداً في مجلس الأمن، ولذلك فإن حصول الولاياتالمتحدة على ضمانات لصالح مواطنيها هو الذي شجعها على التخلي عن استخدام الفيتو ضد مشروع القرار. ومن الواضح أن مجرد الإشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية سوف يثير حفيظة المحافظين في الإدارة الأميركية بمن فيهم جون بولتون المرشح لرئاسة الوفد الأميركي في نيويورك. وقد أخذ القرار علماً بتقرير اللجنة الدولية للتحقيق في انتهاكات القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان في دارفور مشيراً إلى المادة 16 من نظام المحكمة التي تمنع التعقب أو الاستدلال من جانب المحكمة قبل مضي 12 شهراً على طلب مجلس الأمن ذلك. وتضمن القرار في الديباجة أن الوضع في السودان وليس في دارفور لا يزال يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وأن المجلس يتصرف بموجب الفصل السابع من الميثاق، كما يتضمن القرار إحالة الموقف في دارفور منذ الأول من تموز يوليو 2002 إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، والزم القرار حكومة السودان والأطراف الأخرى في الأزمة بالتعاون التام، وتقديم المساعدة الضرورية للمحكمة وللمدعي، كما يحث كل الدول الأخرى غير الأعضاء في نظام المحكمة على التعاون، وكذلك الاتحاد الإفريقي. وإذا كانت الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية تضمنها تقرير المندوب السامي لحقوق الإنسان في الأممالمتحدة، وهي البديل الثالث كما ذكرنا إلى جانب القضاء السوداني والمحكمة الإفريقية، فإن الدول الإفريقية في المجلس وهي تنزانيا وبنين أيدت تماماً قرار المجلس، وانضمت إليها البرازيلوالأرجنتين، التي امتنعت عن التصويت اعتراضاً على استثناء الرعايا الأميركيين. أما السودان فانتقد القرارات غير الحكيمة للمجلس ضد بلاده، وكذلك تحالف الدول الرئيسة ضد الدول النامية، مؤكداً أن القرار يزيد تعقيد المسألة، وأظهر أن المحكمة الجنائية الدولية لن تكون إلا أداة لممارسة التفوق الثقافي ضد الدول الضعيفة النامية، كما انتقد إغفال المجلس لاقتراح نيجيريا رئيس الاتحاد الإفريقي. فإذا كان من الواضح أن قرار مجلس الأمن خطا خطوة أخرى في تصعيد المشكلة هذه المرة ضد المسؤولين السودانيين، فإن المجلس صور الموقف في دارفور على أن مسلسل الجرائم التي ارتكبها المسؤولون السودانيون لن يمر بلا عقاب، ويبدو أن المجلس احتفظ لنفسه بالسر حول أسماء الأشخاص المتهمين، الذين تردد أنهم حوالى 51 اسمًا، بينهم كبار المسؤولين السودانيين. ويفترض قرار المجلس، كما سبق أن افترض في المسألة السورية - اللبنانية أن الدولة السودانية نفسها متورطة في هذه المذابح، ومن ثم فإن إحالة المسؤولين فيها إلى القضاء الدولى ينطوي على عدم الثقة في أن تتحقق العدالة للضحايا قبل هؤلاء المسؤولين أمام المحاكم السودانية. وإذا كان قرار مجلس الأمن صحيحاً من الناحية الشكلية اذ يتحدث عن عدالة دولية ضد جرائم الإبادة الجماعية ما لا يقوى أحد على معارضته، إلا أن هذا القرار استخدم لتحقيق أغراض سياسية لا علاقة لها بالعدالة المزعومة، فالمجلس ينزع هنا الشرعية عن الحكومة السودانية ويضعها في قفص الاتهام، منتهكاً بذلك مبادئ السيادة والاستقلال للدول، ودور مجلس الأمن في مثل هذه الظروف. ولكن الأخطر هو أن المجلس استخدم لتنفيذ مخطط ضد السودان وتمزيقه، وربما انتزاع دارفور من أحضانه، ولذلك فإن مساندة العالم العربى للحكومة السودانية أصبحت أكثر إلحاحاً. صحيح أن هذا الصراع في دارفور راح ضحيته كثيرون من أبناء الشعب السودانى، وأن هذه القضية تظل دولية في آثارها، لكنها سودانية في محتواها وإطارها. هذه إذاً سابقة بالغة الخطر يجب التنبه لها في إطار سياسة تفكيك العالم العربي، ثم تفتيت دوله، وحتى لا يصحو العالم العربي الذي طال رقاده على سودان جديد ممزق الأوصال، وقد زالت عنه صفته العربية والإسلامية، وأصبح ساحة للصراع العربي الإفريقي بدلاً من أن يكون واحة وارفة للتعايش بين العرب والأفارقة، وجسراً متيناً للتضامن بين الطرفين، خصوصاً أن موقف الاتحاد الإفريقي ليس مقتنعاً بالطرح الأميركي، الذي يركز على أن الصراع في دارفور هو صراع بين العناصر العربية والإفريقية. وإذا كانت القمة العربية فى الجزائر تناولت قضية التعاون العربي - الإفريقي على استحياء، فإنه من المناسب أن تبدأ الجامعة العربية على الفور حواراً مع الاتحاد الإفريقي لتنسيق المواقف العربية والإفريقية، خصوصاً أن قرار مجلس الأمن الأخير يعطي مساحة واسعة لدور الاتحاد الإفريقي، ذلك أن حصر القضية في إطار إقليمي يمكن أن يساعد على البحث عن حل عربي لصلب المشكلة، بدلاً من الدوران حول مضاعفاتها أو المتاجرة سياسية بمثل هذه المآسي الإنسانية، والعمل في إطار مخطط أوسع ضد العالم العربي والإسلامي. ولا شك أن السودان الموحد الديموقراطي إضافة مهمة للمصالح المصرية والعربية، ولذلك فإن الطريق التي يتجه إليها السودان تمثل تحدياً حقيقياً للمصالح المصرية والعربية، وتتطلب من مصر رؤية ودوراً يتناسبان مع إدراكها لخطورة هذه التطورات، وأخشى أن تكون مصر غير قادرة على استيعاب ما يحدث في السودان ومضاعفاته عليها، أو أن تكون غير قادرة على التحرك بذرائع لا يمليها سوى القعود عن نوال المصلحة ، والعجز عن إدراك المقاصد، وفي كل الأحوال فإن مصر هي الخاسر الأكبر في معادلة السودان، وستدفع أجيالها القادمة ثمن القعود والعجز الذي لازم الموقف المصري من قضايا السودان طيلة الخمسين عاماً الماضية. كاتب مصري.