هناك أشياء تبدو مبهمة وغير مفهومة في سياق الأسباب المعروضة من أطراف التنازع الداخلي الفلسطينية لتأخر إقلاع حكومة الوحدة الوطنية، فالرئيس محمود عباس وبعض مسؤولي حركة"فتح"الكبار يحتجون على"حماس"، الحركة والحكومة، بسبب التراجع عن اتفاق جرى معها بشأن أسس حكومة الوحدة وبرنامجها. وما يستخلص من هذا الإدعاء أن"حماس"تراجعت عما يتضمنه هذا البرنامج العتيد بخصوص الاعتراف بإسرائيل وبالاتفاقات المبرمة معها وبمرجعية المبادرة العربية لعملية التسوية على المسار الفلسطيني. وبدورها، تنفي"حماس"هذا الزعم وتؤكد بشكل خاص أن اتفاق حكومة الوحدة لا يتضمن اعترافها بإسرائيل ولا يقوم بالتحديد على المبادرة العربية، وأنها ملتزمة بنصوص وثيقة الوفاق الوطني، الموقعة بالأحرف الأولى في 27 حزيران يونيو الماضي. ترى أي هذين الزعمين أقرب إلى الحقيقة والمنطق؟ الاجابة عن هذا السؤال تفرض مراجعة وثيقة الوفاق باعتبارها الاصل او المرجعية المعتمدة لحكومة الوحدة وفقاً لبندها السادس، وهنا نلاحظ خلو الوثيقة مما يُعد اعترافاً صريحاً من"حماس"بإسرائيل، وكذا مما يمكن اعتباره اقراراً من هذه الحركة بالاتفاقات الاسرائيلية - الفلسطينية السابقة أو بنبذ العنف أو بالموافقة على مبادرة قمة بيروت العربية بالتحديد والتخصيص. وعليه، فإن الدفع بكون"حماس"قد أخلَّت باتفاق حول حكومة الوحدة، يقضي باعترافها باسرائيل ويتخذ من المبادرة العربية اساساً للتفاوض، يتعارض مع محتويات الوثيقة، بل يعني أن"حماس"ارتضت كبرنامج لهذه الحكومة بما لم ترض به او تقبله بمنطوق القول من متن الوثيقة التي صدرت بعد تباحث ممتد وبشق الأنفس، الامر الذي لا يستقيم والمنطق السديد، ثم انه يصعب الاعتقاد بقبول حركة"حماس"للشروط والإملاءات المطلوبة منها على أكثر من صعيد اسرائيل والرباعية الدولية مثلاً في برنامج حكومة الوحدة الوطنية، لأن دعوته الى هذه الحكومة كانت في الاصل لتلافي هذا القبول والالتفاف عليه. بكلمات أخرى، لم تكن"حماس"بحاجة الى حكومة وحدة مع"فتح"وبقية فصائل المجلس التشريعي لو أنها انصاعت للشروط المعروضة عليها منذ شكّلت الحكومة بمفردها في آذار مارس الماضي، هذا علماً أن هذه الشروط لم تتضمن مطلب حكومة الوحدة، وكان الانصياع لها كفيلاً جدلاً بفك العزلة عن"حماس"وحكومتها وشعبها والترحيب بشراكتها الكاملة والتعامل معها اقليمياً ودوليا، وقبل ذلك إسرائيلياً. هذا التحليل وما يثيره من اسئلة يشكك في صدقية الرواية القائلة إن"حماس"قبلت ببضعة مطالب مطروحة عليها من اجل تشكيل حكومة الوحدة، ثم تراجعت عن هذه الخطوة الفارقة، غير انه يمكن من جانب آخر التشكيك في الاستقامة المنطقية لدفوع"حماس"المضادة لهذه الرواية. فوثيقة الوفاق التي تستند اليها"حماس"وتعتبرها اساساً لحكومة الوحدة، لا تقوم على ثوابت هذه الحركة وحكومتها برئاسة اسماعيل هنية بلا تعديلات جوهرية. محتويات الوثيقة ومضامينها هي اجمالاً شيء آخر غير ما تعنيه هذه الثوابت على نحو صارم، ولو كان الامر مغايراً لهذا الفهم، لما قبلت بها"فتح"اساسا للانخراط في شراكة حكومية مع"حماس". من دلائل هذا التغاير دون حصر، ان الوثيقة حددت الدولة الفلسطينية بالاراضي المحتلة عام 1967، وارتضت منظمة التحرير بعد تطويرها ممثلا شرعياً ومفاوضاً وحيداً للشعب الفلسطيني، وحصرت المقاومة بالضفة وغزة والقدس، واذا فهم البعض ان الوثيقة انما استهدفت، بين غايات اخرى، التغطية على تحولات في مواقف"حماس"عبر صيغ التفافية وعبارات مطاطة تقبل التأويلات، فإنهم محقون الى حد بعيد، لكن الواضح ان هذه الصيغ لم تؤد الغرض عند تشكيل حكومة الوحدة فلسطينياً، ولا هي مقبولة لدى المعنيين الآخرين الذين سيتعاملون مع هذه الحكومة. وهكذا فإن"حماس"لن تستطيع الاعتماد طويلاً على"لعبة الصياغات"، فهي مثلاً لن تستطيع الارتضاء بالشرعيتين الدولية والعربية كأساس للتسوية الفلسطينية، كما ورد في وثيقة الوفاق، ثم تذهب الى أن ذلك لا يعني قبولها بوجود إسرائيل أو الاعتراف بها او الموافقة على مبادرة قمة بيروت العربية لعام 2002، مثل هذا الطرح يجعل مواقف"حماس"متأرجحة وغير محددة، وربما كانت هذه المراوحة وهذا اللاحسم مسؤولين عن الاعتقاد بأن هذه الحركة وحكومتها تجنح للمراوغة والتراجع عما تتخذه من قرارات، مما يؤدي الى اطالة الأزمة في وجه اقلاع حكومة الوحدة. ان تجاوز هذه الوضعية البائسة من الالتباسات يقتضي التوقف عن تبادل اللوم والقصف الدعائي والسياسي المتبادل، ولا سيما بين القطبين"فتح"و"حماس"، والتوجه الفوري الى"تفسير وثيقة الوفاق". لن يضر هؤلاء الشركاء في شيء إذا ما أهلكوا بعض الوقت والجهد في ازالة الغموض غير البناء الذي صنعوه بأنفسهم في صلب الوثيقة، ومن ذلك كأمثلة: المقصود بالشرعية الدولية وبالشرعية العربية وما اذا كانت تتضمن التعامل الصريح مع مبادرة بيروت، وعلاقة القبول بالدولة الفلسطينية في حدود 1967 بقضية الاعتراف بإسرائيل، وهل يعني تفويض منظمة التحرير بالتفاوض الانصياع للاتفاقات التي سبق للمنظمة ان ابرمتها مع اسرائيل؟ ان التلاقي على هدف حكومة الوحدة الوطنية هو أكثر البدائل والخيارات ضمانة لسلامة العلاقات الداخلية بين الفصائل وتحسين صورة الحركة الوطنية الفلسطينية وتعزيز صدقيتها. أما الحلول الاخرى التي تراود البعض، بدءاً من حكومة الطوارئ مروراً بحل المجلس التشريعي والاتجاه الى الانتخابات وانتهاءً باستقالة حكومة"حماس"وعودتها الى العمل خارج رحاب السلطة او حتى حل هذه السلطة بالكامل، فإنها تنطوي جميعاً على أخطار بالغة بالنسبة لمصير السلم الاهلي الفلسطيني، وربما ادت بالقضية الفلسطينية وكيانها السياسي الى المجهول. * كاتب فلسطيني