شاركت الاحزاب الموريتانية على اختلاف انتماءاتها السياسية والايديولوجية في الانتخابات التشريعية والمحلية التي أُجريت الاحد 19 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، اذ دعي نحو 1.07 مليون مواطن للتوجه الى 2336 مركز اقتراع لانتخاب 219 مجلساً محلياً، و95 نائباً للجمعية الوطنية. ويعتبر هذا الاستحقاق الانتخابي غير مسبوق في التجربة الديموقراطية الموريتانية الوليدة، والتي لا يزال عودها طرياً، للأسباب التالية: اولاً: انها اول انتخابات ديموقراطية في البلاد، في ظل حكم المجلس العسكري للعدالة والديموقراطية، منذ انقلابه على الرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد طايع، في الثالث من آب اغسطس 2005. والحال فهي تمثل اختباراً حقيقياً وفعلياً للوعد الذي قطعه العسكريون الانقلابيون بقيادة الرئيس اعلي ولد محمد فال للشعب الموريتاني، بتأكيدهم اكثر من مرة على التزامهم الحياد، وسن قوانين تمنع اعضاءهم من الترشح، وهو ما يعني ان حكام موريتانيا الجدد ستحددهم هذه المرة صناديق الاقتراع، لا الدبابات والمدافع كما العادة. واذا كتب لموريتانيا ان تتجاوز هذا الامتحان بنجاح فإنها ستحقق سابقة ثانية بعد تجربة السودان في عهد عبدالرحمن سوار الذهب لجهة تسليم العسكر السلطة الى المدنيين، والانتقال الهادئ للديموقراطية. فهل الوعد الذي قطعه الرئيس سيحترم فعلاً ويتخلى عن السلطة نهائياً؟ هذا هو الرهان الاول. ثانياً: ان الانتخابات التشريعية والبلدية أُجريت للمرة الأولى في ظل غياب الحزب - الدولة المهيمن الذي كان يحكم ايام الرئيس السابق معاوية ولد طايع، والذي فقد سيطرته على الادارة، ولم تعد له أموال كافية لشراء الناخبين. وأصبح الحزب الجمهوري يعامل مثل سائر الاحزاب. ولا جدال في ان الانتخابات التي أُجريت، تؤسس لمرحلة انتقالية تمر بها موريتانيا، وتشكل منعطفاً سيحدد مستقبلها السياسي خلال السنوات اللاحقة. فللمرة الأولى في تاريخ هذا البلد تتاح فرصة التناوب السلمي على السلطة ويعط الناخب حق اختيار من سيحكمه. ثالثاً: انه الاستحقاق الانتخابي الاول الذي أُجري في ظل مشاركة 35 حزباً سياسياً، وبلوغ عدد القوائم الانتخابية كماً هائلاً، اذ ناهز عددها 1700 قائمة أكثر من 1200 لائحة للمجالس البلدية وقرابة 450 لائحة لمجلس النواب. وما يميز هذه الانتخابات هو استمرار سيطرة الانتماءات القبلية والعشائرية والجهوية والعرقية، فضلاً عن التأثير القوي للوبيات المال والعمال وشيوخ القبائل، الذين يدعمون قوائم المستقلين التي اصبحت منضوية في تنظيم جديد يدعى"تجمع المستقلين". وترى القوى السياسية الموريتانية ان المستقلين ليسوا اكثر من مرشحي السلطة الحاكمة، او ممثلين لرؤوس المجلس العسكري على الاقل. والحال هذه، فإن اعضاء المجلس العسكري قرروا تشكيل تيار جديد يمكنهم من الاحتفاظ بالحكم بريموت كونترول"المستقلين"، والعودة في مرحلة قريبة الى الحكم عبر انتخابات رئاسية مبكرة. رابعاً: اللافت في هذه الانتخابات التشريعية والبلدية مشاركة المرأة الموريتانية المعروفة اصلاً بقوة شخصيتها وقيمتها الاجتماعية الفريدة وقدرتها على التجارة والسفر حتى اليابان، إذ تم تخصيص 20 في المئة من المقاعد البرلمانية والبلدية للسيدات، وهذا في حد ذاته انجاز اجتماعي. أُجريت الانتخابات الموريتانية باشراف لجنة مستقلة، وبحضور مراقبين دوليين تابعين للجامعة العربية والاتحاد الاوروبي والاتحاد الافريقي والامم المتحدة والمنظمة الفرنكوفونية العالمية، ومراقبين من الولاياتالمتحدة وبلدان اخرى، كما شارك 300 مراقب محلي تابعين للمرصد الموريتاني لمراقبة الانتخابات وممثلو الاحزاب واللوائح المترشحة في الانتخابات في مراقبة سير عمليات الاقتراع. وأبدت كل هذه الهيئات الرقابية رضاها عن سير العمليات الانتخابية، وأعلنت في تصريحات صحافية انها لم تلاحظ أي خروقات تذكر، باستثناء ملاحظات بسيطة ابلغت بها السلطات وتم تلافيها في الوقت المناسب. والحال فإن الجميع أشاد بنزاهة الانتخابات، وشفافيتها، ومطابقتها للمعايير الديموقراطية الدولية. وفي تحليل نتائج الانتخابات التشريعية والمحلية التي أُجريت، يمكن ان نحدد المشهد السياسي الموريتاني على النحو التالي: أظهرت نتائج الفرز الأولية ان نسبة التصويت وصلت الى ما بين 70 و80 في المئة او 75 في المئة في المتوسط في غالبية الوائر، وسط اقبال كبير على صناديق الاقتراع بسبب كثرة اللوائح، واحترام التنافس بين التشكيلات السياسية المشاركة. وأظهرت نتائج ثلثي مكاتب التصويت تقدماً ملحوظاً لكتل المستقلين، فيما جاء تكتل القوى الديموقراطية في المرتبة الثانية، والحزب الجمهوري للديموقراطية والتجديد في المرتبة الثالثة. وبحسب النتائج التي اعلنها سيدي يسلم ولد أعمر شين في مؤتمر صحافي، فإن كتلة المستقلين حصلت على نسبة 34 في المئة من الاصوات وفازت بنحو 1126 مقعداً في مقاعد المجالس البلدية، متبوعة بحزب تكتل القوى الديموقراطية الذي حصل على نسبة 16 في المئة، وفاز بنحو 443 مقعداً بلدياً. وفاز الحزب الجمهوري للديموقراطية والتجديد بنحو 12.58 في المئة محرزاً 383 مقعداً بلدياً، وتبع ذلك ائتلاف المعارضة الاخرى الذي حصل على نسب تراوح بين 6 في المئة و2 في المئة. وهكذا، أظهرت النتائج الأولية تقدم المستقلين بحصولهم على المرتبة الاولى، وأحزاب ائتلاف التغيير، المشكل من 11 حزباً من احزاب المعارضة السابقة، لا سيما حزب تكتل القوى الديموقراطية الذي يقوده أحمد ولد داده على المرتبة الثانية. وتبعهم حزب التجديد الديموقراطي، الذي يقوده الوزير السابق المصطفى ولد اعبيد الرحمن في المرتبة الثالثة، والتحالف الشعبي التقدمي الناصريون في المرتبة الرابعة، والتيار الاسلامي الاصلاحيون والوسطيون في المرتبة الخامسة، وتراجع الحزب الجمهوري الحاكم سابقاً الذي لم يفز الا بمقعد واحد في نواكشوط. بعد هذا العرض لنتائج الانتخابات التشريعية والبلدية يمكن ان نسجل الملاحظات التالية: أولاً: ان احزاب المعارضة السابقة التي شاركت في هذه الانتخابات، ودخلت حلبة المنافسة مع الحزب الجمهوري الذي كان حاكماً في السابق، على رغم عدم التكافؤ بينهما، استطاعت ان تتمثل في البرلمان بنسبة كبيرة، اذ اصبح"تكتل القوى الديموقراطية"الذي يراسه احمد ولد داداه القوة السياسية الثانية بعد المستقلين في البلاد نظراً للاصوات التي حصل عليها، فيما تراجع اداء الحزب الجمهوري كثيراً في هذه الانتخابات، بعد سقوط عدد كبير من رموزه بينهم الوزير السابق بيجل ولد حميد، والوزير السابق محمد دين صو. وليس مستبعداً ان يتربع أحمد ولد داده زعيم حزب"تكتل القوى الديموقراطية"والمعارض السابق الأبرز لحكم ولد طايع، على غالبية برلمانية تسمح له بالتحكم بالانتخابات الرئاسية التي ستجرى في شهر آذار مارس 2007. ثانياً: احزاب المعارضة ما زالت ضعيفة التكوين والخبرة السياسية، وتعاني من نقص الموارد المالية، ومن عدم التنسيق في ما بينها، اضافة الى عدم بلورتها مشروعاً سياسياً ومجتمعياً يقدم اجوبة على التحديات التي تعاني منها موريتانيا. فهناك اكثر من تحد، منها العلاقة مع الكيان الصهيوني، وحل مشكلة الاقلية الزنجية، وبناء مؤسسات دولة القانون. ثالثاً: خاض الاسلاميون المعتدلون الانتخابات للمرة الاولى كمستقلين بسبب الحظر الرسمي المفروض عليهم، لأن موقف الرئيس الموريتاني العقيد ولد محمد فال كان شديد الوضوح في رفضه رفضاً مطلقاً مسألة"تسييس الاسلام". فقد جاء في إحدى خطبه:"لن يُقبل تحزب اسلامي في الجمهورية الاسلامية الموريتانية ابداً". وأشاد القيادي في التيار الاسلامي محمد جميل ولد منصور بشفافية سير هذه الانتخابات واجوائها الايجابية. وها هي الديموقراطية تعبد الطريق مرة اخرى لدخول الاسلاميين الموريتانيين الى البرلمان كقوة حقيقية، اسوة باخوانهم من الاسلاميين المعتدلين في كل من الغرب والجزائر. اخيراً، ستجرى الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية في الثالث من كانون الاول ديسمبر المقبل. ومع ان العملية السياسية الاصلاحية لا تزال في بدايتها، فإن هذه الانتخابات التشريعية والبلدية تستجيب تطلعات الشعب الموريتاني نحو الانتقال الهادئ الى الديموقراطية، وتجسيد القطيعة مع العهد السابق. انه الاصلاح الحقيقي الذي يفسح في المجال لظهور طبقة سياسية جديدة في موريتانيا قادرة على دفع عجلة التغيير وشن حرب لا هوادة فيها على الفساد والمفسدين الذين طبعوا الحياة السياسية الموريتانية لعقود من الزمن. * كاتب تونسي.