من إيجابيات مهرجان الاسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة لهذا العام انه أصدر كتاباً احتفائياً وتعريفياً بالمخرجة الفلسطينية مي المصري التي كرمها في دورته العاشرة الأخيرة، من تأليف الناقد والمترجم والمخرج السوري ذي الأصل الفلسطيني فجر يعقوب تحت عنوان"مندوبة الأحلام، سينما مي المصري". وهو كتاب قدم له الناقد إبراهيم العريس عبر مادة مستفيضة تحمل عنوان:"إعادة ترتيب الواقع"وهذه هي الطبعة الثانية للكتاب إذ صدرت الأولى ضمن سلسلة"كراسات السينما"في الإمارات خلال الدورة الرابعة من مسابقة الأفلام عام 2005. ضم الكتاب باقة من الدراسات المتماهية مع مجمل إنتاج مي المصري، وكذلك حوارات تشذ عما هو شائع ومحكوم بين ضفتي سين وجيم، إذ أتت دردشة مفتوحة ومواجهة مكشوفة بين مؤلف الكتاب والمؤلف عنها قوامها النقد والنبش في مخزون مي الحياتي والفني مذيّل بأضمومة صور مستقاة من ألبومها الشخصي رفقة زوجها المخرج اللبناني جان شمعون وابنتيهما والفيلمي على حد سواء. وهكذا حبل الفهرس بعناوين ذات نفحة شاعرية فلسطينية الى حد ما: مندوبة الأحلام - نصف الفيلم - مكان الحب حيث الشمس تعاني فيه أحياناً من الانطفاء - المخرجة التي حسمت فكرتها عن السينما عبر العصور - جان جينيه والارتياب على آخر نفس - جندي يقيم في مخيلة كاذبة - مرايا الدهشة غير المحطمة - أنا مي المصري - أنا وجان - إناسة ما هو متخيل وواقعي - حذق الفراشة في الغيثو العاطفي - هبوط الأسئلة على الأسطورة والتاريخ - لم يكن ذلك حلم جدتي - مندوبة الأحلام، الضحك عنفاً على مدار الساعة - الأقمار في آخر اتصال هاتفي - فيلمغرافيا مي المصري. تسجيلي/ روائي تحدث إبراهيم العريس في مقدمته عن ثلاثية مي المصري:"أطفال جبل النار"- "أطفال شاتيلا" ثم "أحلام المنفى"مرتئياً انها أفلام تتجاوز السينما التسجيلية، هذه التسمية التي ترفضها مي نفسها لأنها ترى انها مخرجة تحمل كاميرا لپ"تسجل"بها واقعاً ما... وهذا صحيح بالطبع يقول العريس ذلك ان أفلام مي المصري:"لا تنتمي قطعاً الى ذلك النوع السينمائي الذي يهمه ان يصور الواقع، حتى وإن كانت النتيجة التي يراها المتفرج في نهاية الأمر على الشاشة، ولمدة ساعة عرض الفيلم، صورة لواقع ما. فكاميرا مي المصري ومواضيعها واشتغالها على هذه المواضيع هي أكثر مراوغة وذكاء من أن تكتفي برصد واقع معين. إن ما نشاهده على شاشة أفلام مي المصري، إنما هو أطفال فلسطينيون يلعبون أدوار أطفال فلسطينيين: أدوارهم الحقيقية في الحياة. لكنهم هنا، وتلك هي نقاط القوة الأساسية في هذه السينما"الحقيقية"يعرفون ان المطلوب منهم ان يجابهوا الكاميرا كممثلين يشاركون في لعبة مرايا لا بداية لها ولا نهاية. لعبة مرايا تقودها وتخوضها عين مخرجة ذكية، قد لا يصح أن نقول انها تعرف مسبقاً ماذا تريد. ولكن يصح القول انها تعرف كيف توظف ما قد يفاجأ غيرها بحدوثه أمام كاميراها. ومن هنا يمكن أن نفهم مي المصري حين تقول انها لا"تسجل"مجريات الواقع هنا، ذلك ان الواقع كما تصوره ليس الحياة نفسها. بل حياة أخرى مستقاة من الحياة لكنها تتجاوزها. فمثلاً حين تقول منى طفلة مخيم شاتيلا في"أحلام المنفى"عند بداية الفيلم انها تفضل ان تكون عصفوراً يطير على ان تكون فراشة توضع داخل كتاب لتزينه، تعرف منى وتكتشف مي المصري بالتالي ان مثل هذا الكلام لا يمكن أن يقال هكذا في حياة كل يوم، يمكنه ان يقال أمام كاميرا، أو في رسالة أو في قصيدة شعر. وحين يجلس فادي طفل"جبل النار"الرائع ليتحدث عن"الشباب المقاتلين"قائلاً في النهاية وهو يبتسم بسحر وملعنة"سنقاتل"- ماداً حرف القاف الى ما لا نهاية -، يعرف فادي وتعرف مي أن هناك كاميرا تصور. ان هناك سينما تصنع للتو. سينما تحاول ان تنقل من الواقع شاعريته الاستثنائية. سينما تشبه مفهوم جويس ل"العمل قيد التحقق"وشاعرية الواقع. وسينما تصور أناساً يلعبون السينما: تلك هي العناصر الثلاثة الأساسية التي يمكن رصدها في السينما التي حققتها مي المصري، منفردة، حتى الآن. ومع هذا، ليست هذه السينما سينما عشوائية مغلقة على موضوعها الفني. إنها بعد كل شيء سينما تقول قضية وقضية سينما مي المصري المحورية هي فلسطين: فلسطين كوطن لا يزال قيد التكوّن، وهوية يجب على الصورة ان تحفظها من الاندثار"ص 7 - 10. وتؤكد مي المصري هذا المنحى"اللاتسجيلي"في حوارها مع المؤلف وتستفيض فيه شرحاً وإقناعاً حين تقول:"أنا أعتبر أفلامي وثائقية بحتة، ففيها منحى روائي والفيلم الروائي الفلسطيني فيه الكثير من التسجيلي. الروائي يبحث الآن عن لغة خاصة به. ومن هنا نجد التنوع الكبير في الشكل، والأسلوب. هناك محاولات تفتيش عن لغة جديدة بين الروائي والوثائقي يمكن أن نسميها ب الديكو دراما وأعتبر الواقع مملوءاً بالشعر والروايات، وبالتجارب الإنسانية العميقة، ومن هنا تستوحي السينما الروائية الفلسطينية الكثير من هذا الواقع الفني". ص 29/30. النقد الشاعري ينهي فجر يعقوب كتابه الشيق عن مندوبة الأحلام بمقالة حميمية هي الى النقد الشعري او الشعر النقدي أقرب حين يكتب تحت عنوان"مندوبة الأحلام الضحك عنفاً على مدار الساعة":"لا تقبل مي المصري بالتلصص على مصائر أبطالها، في الأفلام كما في الحياة، فهي تنشغل بالضحك عند الفلسطيني، وتجيء اليه من موقع المنتمي والمشارك في النفاذ الى سرائر الناس الملغزة. وهي ترى ان هذا الحس الملهم عادة في حياة أي شعب إنما يقبع عندنا في قيعان الذاكرة، لا يستنفذه منا الألم الشديد أو كثرة الشهداء الذين يغادرون خيمهم ومرحهم في غفلة عن الأسطورة الى ما هو أسطوري واليم... "يبدو الهبوب طويلاً، فالأحلام هي المعين الذي لا ينضب في تأليف شاشة مي، فهي كثيراً ما أجلت العمل على الفيلم الروائي الذي تعد له لأنها رأت أناساً يروقون لها وهم يؤدون أدوارهم أمام الكاميرا وينسحبون ببساطة، وكأن الواقع نفسه لا يعاد اقتباسه أو تدوينه بصرياً كما في النص الذي ضحك لمرة واحدة وانسحبت صورته خلف غمامة في مخيم أو وراء حاجز متكلف يقيمه الأعداء للنيل من بشاشة وجوهنا وضحكنا القليل... زوادة أيامنا المقبلة..."ص 65. وبما أن مي المصري عاشت لمدة طويلة في بيروت ولا تزال، فقد ارتبطت بهذه القطعة المتشظية من التراب اللبناني ذلك الارتباط العضوي الوثيق، الخفي والمعلن بين الذات المبدعة والذات المبدع فيه"المكان"أو الفضاء حيث صورت معظم أعمالها السينمائية كما صاغت اسمها بحروف فوسفورية في عدد من عناوين هذه الأعمال.