منذ ثلاثة عقود والشاشات الغربية والعربية تعرض القضية الفلسطينية وانعكاساتها المتنوعة على الحياة والفن، خصوصاً السينمائي، من خلال افلام تقدم على شاشاتها. ربما نالت هذه الشرائط حظاً واهتماماً اوفر من جانب المحطات الغربية التي أسهمت بتمويل غالبيتها. في المقابل لم تكن الأفلام المتميزة من إخراج فلسطيني بل كان المخرجون إما عرباً وإما غربيين مؤمنين بالقضية، أخذوا الواقع الفلسطيني وعرضوه في افلامهم، من الخارج وبطريقة شبيهة بالشريط الإخباري التلفزيوني. ومنذ عشر سنوات، وبالتوازي مع امساك الفلسطينيين قضيتهم بأيديهم صار هناك، وللمرة الأولى في شكل جدي، مخرجون فلسطينيون يحققون سينما فلسطينية، وأسماء مثل ميشيل خليفي وإيليا سليمان ورشيد مشهراوي وغيرهم حاضرة هنا لتأكيد ذلك بنجاحاتهم المدوية في المهرجانات والعروض الخاصة ان لم يكن لدى الجماهير العريضة. شاعرية اليومي الى هذه الأسماء يضاف بكل بساطة اسم مي المصري، حتى وإن كانت سينماها تختلف عن روائية سينماهم بتسجيليتها المبدعة التي عبرت عنها اولاً بإسهامها في افلام زوجها السينمائي اللبناني جان شمعون ثم وحدها بأفلام عدة لافتة للأنظار. منذ عشر سنوات تتناول افلام مي مصري - الفلسطينية الأب الأميركية الأم - واقع الإنسان الفلسطيني في حياته اليومية وانعكاس الحرب عليها من خلال تفاصيل واضحة الشاعرية والصدق والعفوية. ربما كان هذا توجهاً اتخذته من خلال ثلاثية قدمتها - "اطفال جبل النار" 1990، "اطفال شاتيلا" 1998، "أحلام المنفى" 2001 - فلفتت الأنظار إليها وبدأت تعرض في الكثير من المحطات الأميركية عدا المحطات الغربية التي اعتادت ذلك سابقاً، وبالتالي بدأ تأثيرها يتحقق بالتراكم الى ان عرض الفيلم الأخير "احلام المنفى" الذي صورت من خلاله اطفال مخيمي "شاتيلا" في لبنان، و"الدهيشة" في فلسطين عارضة واقعاً مريراً يعيشه اطفال يخلقون سعادتهم بتفاصيله، وينظرون الى المستقبل بعيون حالمة متخيلة ومحبة للعب... حقق الفيلم نجاحاً كبيراً وجوائز تجاوزت العشر، نالها في المهرجانات، وكان الأعمق أثراً في نفوس مشاهديه ربما لمصداقيته العالية، لذا حظي بانتشار واسع ليعرض اخيراً على 36 محطة وفي التلفزيون الأميركي. لكن ما فعلته مي مصري من تحريض على التفكير اثار جدلاً وسجالاً كبيرين على موقع "الإنترنت" الخاص بها وبأفلامها والذي اعتادت على استقبال آراء متلقيها والرد عليهم من خلاله. في العام الأول من عرض الفيلم تلقت مي نحو مئة رسالة ايجابية متعاطفة تناقش محتوى الفيلم. كان زوار الموقع عندذاك من مختلف الأعمار والشرائح الثقافية والاجتماعية، يرغب بعضهم بالتواصل مع اطفال مي المصري طالباً منها المساعدة لتحقيق ذلك، وبعضهم الآخر يعرض رغبته بإيجاد طرق يساعد بها الأطفال. لم يبق المتلقي خارج الفيلم، بل تورط معه، لم ينسه بمجرد انتهائه فقد استطاع الفيلم بعفويته خلق احساس لدى المشاهد تحول الى فعل تجسد بطلب للقيام بأي مساعدة. ونحن خلال تجوالنا في رسائل مي مصري وفيلمها الإلكترونية حاولنا البحث وقراءة نماذج كتبها اميركيون ضمن عدد هائل من الرسائل، لنرى الموقف الحقيقي الذي يمكن للمتلقي الغربي الوصول إليه. وربما تفسر الرسالة التالية الحس الحقيقي المتولد من افلام مي مصري: "التقطت آخر 20 دقيقة من هذا البرنامج، الواقع انني لست واثقاً من طبيعة البرنامج الذي اذاعته القناة، لكنني كنت محظوظاً بالتقاط هذا العنوان الإلكتروني ومشاهدته. لقد فوجئت بهذا الفيلم، انا الذي لم أكن اعلم ان حياة الشعب الفلسطيني على هذا النحو. أحمد الله ان الفيلم اذيع على الملأ فهو فيلم لا يمكن للمرء ان يبعد عينيه من الشاشة ثانية خلال عرضه، لقد تأثرت عميقاً بأولئك الأطفال وما لديهم من براءة وإنسانية. لذا اود ان اشكركم لأنكم فتحتم عقلي على واقع الحياة اليومية لهذه الثقافة اليومية، وأرى من واجبي ان اقول لكم، ان هذا الفيلم الصغير قد بدل رؤيتي الى الشرق الأوسط الى الأبد... شكراً لكم". حملة مضادة لكن تبدل الرؤية هذا والنظر الى حقيقة الواقع لفتا الانتباه المعاكس اخيراً. فمنذ شهر تقريباً شنت حملة عدوانية ضد محطة تلفزيونية في سان فرانسيسكو عرضت الفيلم، وتلقت جراء ذلك نحو اربعين رسالة غاضبة ومهددة خلال ايام قليلة من اناس بدا واضحاً ان غالبيتهم لم تشاهد الفيلم إذ لم يرد في واحدة من هذه الرسائل اي نقاش في محتواه، بل اكتفت بالرفض والتهديد. وتقول المخرجة في ذلك "يبدو لي انها حملة من التنظيمات الموالية لإسرائيل في اميركا". لم يخل الأمر من رسائل مهددة ومعادية للمخرجة نفسها والطعن بمصداقيتها وأطفالها والتشويه بممارساتهم التي ستغدو ارهابية مع الزمن". ولعل الرسالة التالية تشكل "افضل" نموذج لهذه الحملة التي من الواضح انها مدروسة بعناية ومخطط لها: "ان هذا الفيلم المتلاعب به عاطفياً إنما هو جزء من حملة شديدة التنظيم تتضمن اكاذيب وأنصاف حقائق حازت بالتأكيد تعاطفاً عالمياً. ان الفلسطينيين يعيشون في مخيمات اللجوء المهترئة هذه لأن لديهم قائداً فاسداً جمع في جيبه الملايين بفضل العون الدولي. وهم اناس غسلت ادمغتهم من جانب المناضلين الذين يعيشون في احضانهم ولأنهم غير قادرين على هضم تصور يقتضي منهم ان يعيشوا على قدم المساواة مع اليهود المنعوتين لديهم بالكفار. إن حيازة غير المسلمين على دولة في اسرائيل تعتبر بالنسبة إليهم سبة. ولهذا نراهم يحصلون على الدعم المالي والعسكري والعاطفي من لدن كل الأقطار الإسلامية. الإسرائيليون ليسوا قتلة اطفال. الفلسطينيون هم من يقتل الأطفال. يقتلون اطفالهم ثم يبجلونهم كشهداء. ويقتلون اطفال الإسرائيليين معتبرينهم جنود المستقبل، ان في إمكانهم ان يطلقوا على الأمر اي اسم يشاؤون ولكن ليتيقنوا ان ما من قضية يمكنها ان تؤدي الى اي شيء غير الحروب. ان الشعوب تقتلع من ديارها لكنها تعرف دائماً كيف توجد لنفسها دياراً جديدة. ولنتذكر ان عدداً مساوياً من اليهود قد اقتلعوا من البلدان العربية خلال الحرب التي اسست لدولة اسرائيل. اسرائيل اليوم واقع على الأرض ويمكن للفلسطينيين ان يختاروا بين ان يعيشوا بازدهار وسلام مع الإسرائيليين او ان يموتوا مجاناً ومن دون جدوى فيما هم يحاولون اقتلاع الإسرائيليين". السينما مادة سجال لا يمكن المرء ان يستغرب وجود اناس موالين للقضية الفلسطينية وآخرين ضدها، لكل رأيه ووجهة نظره ومبرراته. ما يلفت حقاً من كل ما عرضناه هو السجال الحقيقي الذي حققته مي مصري بفضل افلامها وكم المشاحنات الجارية كل يوم على موقع الإنترنت بين المرسلين المختلفين بوجهات نظرهم وربما للمرة الأولى يستمر فيلم باستمرار نقاشه هذه المدة الزمنية وبهذه الحيوية التي تتيحها تقنية الإنترنت. المتراسلون يردون على بعضهم بعضاً يومياً عبر الموقع وغالبيتهم من الأميركيين المدافعين عما شاهدوه، محولين نقاشهم من دفاع عن فيلم الى دفاع عن قضية. ما حصل حفّز مي مصري على الإدلاء بشهادتها وعرضها على الموقع لتكون في متناول الجميع رداً على تساؤلات واتهامات، وشرحاً لما تحاول قوله في افلامها: "لقد آمنت دائماً بالصور اكثر من الكلمات. فعندما كنت طفلة كنت اعبر عن نفسي من طريق مشاعر ورؤى مستلهمة اعطتني بين اقراني سمعة الكائن الذي يحلم احلام اليقظة. كتبي ودفاتري المدرسية كانت دائماً تحمل رسوم مشاريع رؤاي البصرية. في الثامنة عشرة اكتشفت السينما وقررت ان اصبح حالمة يقظة متفرغة انا ابنة اب فلسطيني من نابلس وأم اميركية من تكساس. وقد حملت دائماً هذا الإحساس المزدوج بالهوية وشعرت بغربة جراء ذلك طوال حياتي كفلسطينية. كنت معرضة للاقتلاع منذ زمن مبكر. فقد كنا نعيش قرب مخيم شاتيلا في بيروت ومن طفولتي اتذكر منزلنا وهو يرتجف في كل مرة قصفت فيها اسرائيل المخيم. وهكذا نموت ولدي حساسية عميقة ازاء الظلم. وهذه الحساسية اجبرتني على ان أطرح اسئلة مثل: من انا؟ لماذا تراني لا اعيش في وطني؟ والحقيقة ان الإحساس بالانتماء والغربة هما من التناقض إذ صارا جزءاً من هويتي. لقد حققت افلاماً في بلد دمره الاحتلال فلسطين وفي آخر دمرته الحرب الأهلية لبنان. اما خلفية افلامي كلها فكانت الحرب، وذلك ببساطة لأن الحرب هي ما اختبرته طوال حياتي. وأعتقد دائماً ان الحرب تخرج من داخل الناس بأفضل ما لديهم وأسوأه لذا أشعر دائماً بأن الحرب تبهرني وتهمني. لقد شهدت موت اناس احبهم كما شهدت التفكك التدريجي لأوصال وطني وفي خضم ذلك كله يذهلني دائماً كيف يتمكن الناس من تدبير امورهم إذ يضحكون، يحبون، يبقون على قيد الوجود على رغم كل الموت والدمار المحيط بهم. ان كل واحد من الأفلام التي حققتها بمفردي او شراكة مع جان شمعون يستند الى فكرة تطوير علاقة حميمة جداً مع الشخصيات التي اصورها كنوع من الثقة او التواطؤ يمكنهم من الانفتاح علي او من تجاوز ضروب ترددهم في مواجهة الكاميرا. انا لا اعمد ابداً لإجراء مقابلات تقليدية. كل ما في الأمر انني اهيئ المناخ العام وأترك المجال للحكاية لكي تتطور تطوراً طبيعياً عبر محادثات ومشاهد سردية. من هنا فإن اسلوبي في افلامي يبدو اقرب الى السينما السردية منه الى التسجيلية الكلاسيكية. بالنسبة إلي لا تقوم السينما التسجيلية بتسجيل الواقع، بل تقوم باكتشاف عالم يتألف من الكثير من المستويات السحرية. انه فن المشاهدة عبر اعين الآخرين واستخراج الشاعري من واقع الحياة اليومية، إذاً فأفلامي تتحدث عن اناس عاديين يعيشون اوقاتاً استثنائية وعن الكيفية التي بها يتمكنون من العيش والتمسك بإنسانيتهم على رغم انف الأوضاع المدمرة التي يجدون انفسهم في خضمها. الشخصيات في افلامي تشبهني، انها تتحدث بلساني وأنا اعيش احلامي ومخاوفي عبرها. ليسوا ضحايا سلبيين محايدين اولئك الأطفال. أنبهر امام قدرتهم على تجاوز الصعوبات الكأداء التي تملأ حياتهم اليومية لاجئين الى الخيال والحلم واللعب. احب طرافتهم وقدرتهم المجنونة على الخلق فهي تخاطب عالم اللواعي عندي وتفتح آفاقاً جديدة في رحلتي السينمائية. ثلاثيتي المؤلفة من "أطفال جبل النار" "اطفال شاتيلا" "احلام المنفى" تتحدث عن حياة اطفال فلسطين وأحلامهم وفي كل واحد من هذه الأفلام حاولت ان ارى عبر عيون الأطفال وأن اعطيهم فرصة رواية حكاياتهم الخاصة. وركزت على كلماتهم الخيالية. لقد حاولت ان أفهم ما الذي يعتبره هؤلاء الأطفال- الذين اقتلع جدودهم من فلسطين عام 1948 - بيتاً وكيف يعيدون بناء حرمانهم من البيت. وغصت عميقاً لكي اكتشف ما الذي تعنيه العلاقة بين الذاكرة والمخيلة والهوية بالنسبة الى جيل اطفال اللاجئين الذين عاشوا على رغم الحرمان والحصار والمجازر. ان افلامي هي النقيض التام لتلك الشرائط المنمطة التي تنزع انسانية الفلسطينيين وتشيطنهم وتعزلهم بصفتهم شعباً من دون حقوق مشروعة. هؤلاء الأطفال هم اخيراً من علمني معنى الصداقة التي تتجاوز الحدود سواء اكانت حدوداً حقيقية ام مستعارة". الجميع متورط هذا الجو المشحون الذي "ورّط" الجميع بفتح حوار وسجال، من المفروض به الآن ان يدفع مي المصري وربما غيرها ايضاً من المخرجين الفلسطينيين والعرب الى الرد والرد في شكل اكثر كثافة ليس بشهادة على موقع الإنترنت وإنما بالاستمرار في التوجه نحو صنع المزيد من الشرائط ذات التوجه الإنساني اولاً والملتزم بالقضية ثانياً طالما ان معركة الإنترنت الطريفة الأخيرة هذه اثبتت ان "انتصاراتنا" الكبرى المقبلة ستكون في تركيزنا على ما هو انساني كما يفعل فيلم "احلام المنفى" الذي لم يهاجمه الإسرائيليون إلا لأنه يتحدث لا عن العنف ولا عن الانتحار ولا عن قتل اطفال اليهود بل فقط عن انسانية الأطفال الفلسطينيين الذين بجمالهم وابتساماتهم وأحلامهم يشكلون الخطر الأكبر على اسرائيل. ولو لم يكن هذا الخطر موجوداً لما كانت ردود الإنترنت حامية الى هذه الدرجة.