تحمل "الفيلموغرافيا" الخاصة بالمخرجة الفلسطينية مي المصري، منذ أواخر سنوات الثمانين من القرن الماضي وحتى اليوم، أربعة أفلام حققتها وحدها كمخرجة، بعدما حققت مجموعة أفلام أخرى شراكة مع زوجها المخرج اللبناني جان شمعون. ومن بين الأفلام الأربعة واحد يتحدث عن - ومع - السيدة حنان عشراوي، يمكن الآن وضعه جانباً، طالما ان الأفلام الثلاثة المتبقية تبدو، الى حد كبير، مترابطة في ما بينها لتشكل ما يشبه الثلاثية. ويزيد من حدة هذا الترابط ان المحور الذي تدور من حوله هذه الأفلام - ولو في قراءتها الأولى - هو الأطفال: أطفال فلسطين من الذين يعيش بعضهم في نابلس والبعض الآخر في مخيمي الدهيشة في فلسطين وشاتيلا في لبنان. والأخير بين أفلام هذه "الثلاثية" هو "أحلام المنفى" الذي فاز حتى الآن، ومنذ بدأ يتجول حول العالم لعام ونصف العام خليا، بجوائز عدة، آخرها جائزة "الفيلم التسجيلي" الكبرى في مهرجان السينما العربية في باريس قبل أسابيع. الأفلام التي نتحدث عنها هنا، وهي "أطفال جبل النار" و"أطفال شاتيلا" وأخيراً "أحلام المنفى"، تنتمي من الناحية الشكلية الى "السينما التسجيلية"، حتى وان كانت مي المصري نفسها ترفض هذه التسمية لأنها لا ترى أنها مخرجة تحمل كاميرا ل"تسجل" بها واقعاً ما. وهذا صحيح، بالطبع، ذلك ان أفلام مي المصري لا تنتمي قطعاً الى ذلك النوع السينمائي الذي يهمه ان يصور الواقع، حتى وان كانت النتيجة التي يراها المتفرج في نهاية الأمر على الشاشة. ولمدة ساعة عرض الفيلم، صورة لواقع ما. فكاميرا مي المصري ومواضيعها واشتغالها على هذه المواضيع هي أكثر مراوغة وذكاء من أن تكتفي برصد واقع معين. وليست المسألة، حتى، مسألة توليف كما يحدث في أفلام تصور عشرات الساعات، لتنجز في نهاية الأمر في غرفة أمام طاولة التوليف عبر اختيار اللقطات الأكثر ملاءمة ل"قول خطاب ما". ذلك ان سينما مي المصري، في جوهرها، لا تسعى الى قول خطاب معين. انها، وبشيء من الاختصار، سينما تعيد ترتيب الواقع - والى حد ما كما تفعل السينما الروائية، ولكن هنا مع "ممثلين" تطلب منهم المخرجة أن يلعبوا أدوارهم الحقيقية في الحياة. أما غاية مي المصري من تصوير هذا "الواقع وقد أعيد ترتيبه"، فلا تبدو واضحة تماماً لأول وهلة. بل لعل المخرجة نفسها، حين تدخل بكاميراها عالماً أو موضوعاً ما، لا تكون على علم مسبق بما تريده من ذلك العالم. انها تكتشف. تسبر أغوار الأشخاص، من دون ان تتوقف طويلاً لتحليل الأحداث. "الأحداث تحدث من تلقائها" تقول مي المصري، مضيفة: "وقد يمكن ان أقول انني محظوظة، إذ في مرات عدة وفيما كنت أصور وأبحث وأدهش أمام عالم أتسلل اليه، تسلل المنتمي لا تسلل المتلصص، كانت الأحداث سرعان ما تتصاعد من أحداث صغيرة الى أحداث كبيرة. كان حظي أن تكون كاميراي هناك لتصور ما لم أكن أتوقعه، ما كان ولا يزال يضفي على فيلمي أبعاداً تخرج به عن اطاره المعد له أصلاً". من يصوّر من؟ وكنموذج لهذا نتوقف عند فيلمين من أفلام الثلاثية: "أطفال جبل النار" و"أحلام المنفى". الأول كان يجب أن يتخذ "يوميات" تكتبها مي المصري بالكاميرا، في وصف زيارة تقوم بها لمدينتها الأصلية نابلس. كانت زيارتها الأولى للمدينة وأهلها بعد غياب 17 سنة، وكان في ودها - وفريق العمل المرافق لها - أن يصورا الحياة في المدينة. ولكن فجأة تدافعت الأحداث: الانتفاضة الأولى، سقوط الشهداء، امتلاء الأزقة بأطفال يقاومون. وجنازة جار استشهد. وهكذا، من غرفتها في المنزل العائلي، من نافذة سيارة، في مطبخ بيت عادي، وسط أطفال يلعبون لعبة الموت والنضال، تحول فيلم مي المصري من فيلم عن لقاء امرأة بمدينتها بعد غياب، الى فيلم عن فيلم يحقق عن المدينة. صارت السينما هي الموضوع: صنع السينما وسط استحالة صنع السينما. ومن هنا صارت الكاميرا الشخصية المحورية في الفيلم: صارت المصوَّر بقدر ما هي المصوِّر؟ الفيلم الآخر هو "أحلام المنفى": مي المصري، خلال عملها على "أطفال شاتيلا" الفيلم السابق على هذا الأخير، كانت تعرفت الى مجموعة من الصغار والمراهقين، ورصدت نوعاً من التواصل بين فتيات من المخيم، ومواطنات لهن في مخيم الدهيشة الفلسطيني، عبر الانترنيت. في البداية توجهت مي المصري بالكاميرا، لتصور ذلك التواصل، لكن الذي حدث هو ان الاسرائيليين كانوا انسحبوا أثناء ذلك من جنوبلبنان، ما فتح المجال أمام لقاء، عبر "حدود الخوف" بين الصغار الذين لا يعرفون بعضهم بعضاً إلا عبر الانترنيت وعبر الأحلام والآمال والمآسي المشتركة. وإذ رتبت مي المصري لقاء بين أطفال المخيمين عند الحدود اللبنانية - الفلسطينية، تبدل فيلمها تماماً، اتخذ حياته الخاصة، بالقدر الذي حدث فيه تبدل جذري في علاقة الصغار والمراهقين، من الجانبين ببعضهم بعضاً. ومن جديد صارت "السينما" هي الموضوع هنا: السينما في قدرتها على اعادة تشكيل الواقع انطلاقاً من عناصره الطبيعية، وليس من طريق عناصر تخييلية مقحمة عليه. ولكن هل يمكن القول هنا، حقاً، انه يمكن الحديث عن حدود تفصل بين الواقعي والتخييلي؟ هذا ما يمكن العثور على جواب عنه في الفيلم الثالث الثاني زمنياً "أطفال شاتيلا"، إذ هنا تصبح اللعبة أكثر وضوحاً: لعبة الكاميرا والتصوير هي العنصر الأبرز والمحرك. والكاميرا جزء من المشهد العام. أفلا يقترح علينا هذا كله أن ما نراه في "ثلاثية" مي المصري هذه، هو سينما عن السينما؟ سينما تستهدي - ولو بشكل عفوي - بما كان قاله الألماني/ الفرنسي جان - ماري شتروب يوماً من أنه، بدلاً من أن يحقق فيلماً عن هاملت، يفضل أن يحقق فيلماً عن الممثل الفلاني وهو يلعب دور هاملت. أدوار فلسطينية ان ما نشاهده على شاشة أفلام مي المصري، انما هو أطفال فلسطينيون يلعبون أدوار أطفال فلسطينيين: ادوارهم الحقيقية في الحياة. لكنهم هنا، وتلك هي نقاط القوة الأساسية في هذه السينما "الحقيقية"، يعرفون ان المطلوب منهم ان يجابهوا الكاميرا، كممثلين يشاركون في لعبة مرايا لا بداية لها ولا نهاية. لعبة مرايا تقودها وتخوضها عين مخرجة ذكية، قد لا يصح أن نقول انها تعرف مسبقاً ماذا تريد، ولكن يصح القول انها تعرف كيف توظف ما قد يفاجأ غيرها بحدوثه أمام كاميراها. ومن هنا يمكن ان نفهم مي المصري حين تقول انها لا "تسجل" مجريات الواقع هنا، ذلك ان الواقع كما تصوره ليس الحياة نفسها، بل حياة أخرى مستقاة من الحياة لكنها تتجاوزها. فمثلاً حين تقول منى، طفلة مخيم شاتيلا، في "أحلام المنفى" عند بداية الفيلم انها تفضل أن تكون عصفوراً يطير على أن تكون فراشة توضع داخل كتاب لتزينه، تعرف منى - وتكتشف مي المصري بالتالي - أن مثل هذا الكلام لا يمكن ان يقال هكذا في حياة كل يوم: يمكنه ان يقال أمام كاميرا، أو في رسالة، أو في قصدة شعر. وحين يجلس فادي طفل "جبل النار" الرائع ليتحدث عن "الشباب المقاتلين" قائلاً في النهاية وهو يبتسم بسحر وملعنة "سنقاتل" - ماداً حرف القاف الى ما لا نهاية -، يعرف فادي وتعرف مي ان هناك كاميرا تصور. ان هناك سينما تصنع للتو. سينما تحاول ان تنقل من الواقع شاعريته الاستثنائية. سينما تشبه مفهوم جويس ل"العمل قيد التحقق"، وشاعرية الواقع، وسينما تصور أناساً يلعبون السينما: تلك هي العناصر الثلاثة الأساسية التي يمكن رصدها في السينما التي حققتها مي المصري، منفردة، حتى الآن. ومع هذا، ليست هذه السينما سينما عشوائية مغلقة على موضوعها الفني. انها، بعد كل شيء، سينما تقول قضية. وقضية سينما مي المصري المحورية هي فلسطين: فلسطين كوطن لا يزال قيد التكون، وهوية يجب على الصورة ان تحفظها من الاندثار. وهذان العنصران يؤمنهما، هنا، تتالي أحداث كل فيلم من الأفلام. ودائماً خلال زمن التصوير والكاميرا المندهشة - بمراوغة لذيدة - أمام ما يحدث. فمثلاً، تطلب منى - ابنة شاتيلا في "أحلام المنفى" - من منار - ابنة مخيم الدهيشة، ورفيقتها بالانترنيت من بعد - ان تصف لها، بعد زيارة قرية آبائها الأصلية شمال الضفة الغربية. فتزور منار القرية لتجدها خراباً، لكنها ترسل الى منى حفنة من ترابها. وهذا التراب، يصبح لدى منى كناية عن فلسطين. وربما البديل المنطقي الوحيد للوحل القاتل الذي كانت كاميرا مي المصري رصدته في أزقة مخيم شاتيلا، وسط مستنقعات تصورها حين تبدي منى - ورفاقها - بهدوء رغبتها في أن تعيش البحر وفضاءه. وهذا كله يحدث أمامنا هنا. وتبدو الكاميرا وكأنها تكتشفه لحظة اكتشاف شخصيات الفيلم له. ومرة أخرى حين يأخذ الجد حفيدته ليزور القرية التي كانت مسقط رأسه ويكتشفا بيته الحقيقي الأصلي وما تبقى منه. هنا، الكاميرا موجودة أيضاً تسجل لحظة الاكتشاف. لعبة المرايا ان مثل هذه المشاهد واللحظات هي ما تخلق ذلك التداخل بين الأفلام والمواقف، وتعطي أجزاء الثلاثية وحدتها الجانبية. أما الوحدة الأساسية فيؤمنها حضور مي المصري كمخرجة للأفلام. ولكن هل هي هنا مخرجة وحسب؟ من الصعب تصور هذا. ذلك ان المخرجة هنا - وهذا سبب اضافي يبتعد بنا عن عالم التسجيلي - شخصية أساسية في الأفلام. ليس فقط لأنها تحضر وراء الكاميرا دائماً وأحياناً أمامها "كمايسترو" يقود تسجيل ما يحدث، حتى وان كان غير قادر على قيادة الأحداث نفسها، بل أيضاً لأن الأساس هنا، وفي كل لحظة، هو لعبة المرايا التي تقودها. فالحدود بين المصوَّر والمصوِّر تنعدم هنا، تماماً كانعدام الحدود بين المتخيل والواقعي، وبين فلسطينولبنان. والمدهش في هذا كله ان هذا التوحد بين العناصر والشخصيات يهيمن تماماً إذ ان كل شيء يبدو وكأنه آت من البداهة ليلتحم في بوتقة واحدة: العنصر الوحيد الدخيل في الموضوع هو الجندي الاسرائيلي في "جبل النار" فهو يبدو بعيداً، دخيلاً، غريباً... وأحياناً مثيراً للشفقة. لا يعرف ماذا يفعل هنا. وبالكاد يعرف لماذا عليه ان يَقتل أو يُقتل. المهم هنا، ان كاميرا مي المصري تصوره عرضاً، من دون أن تبدو انها تفعل ذلك: انه الواقع الوحيد غير المشتغل عليه. ووجهه الوحيد الذي لا يبدو انه يريد ان يقول شيئاً. في المقابل واضح أن أطفال المخيمات، إذ عرفوا انهم أمام كاميرا تصورهم، أرادوا ان يقولوا أشياء كثيرة: وليس فقط الحرب والمعاناة كما يحدث دائماً في الأفلام الفلسطينية الروائية!. انهم يتحدثون عن الحب والزواج، عن الجمال وعن السينما. يضحكون ويسخرون وكأنهم في برامج حوارات تلفزيونية... لكنهم، ولأن التجربة علمتهم كيف يمثلون جيداً، ولأن عفويتهم كشفت لهم انهم هنا في خضم لعبة مرايا، يفرضها عليهم حضور المخرجة وفريقها بكاميراته وآلاته، يعرفون كيف يزينون كلامهم. فالعري هنا غير ممكن، لفظاً وتعبيراً عن العواطف. ولنتذكر كيف أن منى، حين بكت مرتين في "أطفال المنفى" - مرة إذ تذكرت موت أبيها، ومرة إذ راحت تقرأ رسالة وصلتها بغتة من رفيقتها سمر التي سافرت من دون إخطار الى لندن كاسرة الحياة والصداقة - أبعدت وجهها عن الكاميرا تماماً. ذلك ان لها صورة لا ينبغي ان تكشف اي ميلودراما في عواطفها. ولأن كاميرا مي المصري، غير تلصصية، حتى حين تدخل الحميميات، احترمت هذه الكاميرا رغبة منى في البكاء خفية، مركزة مرة أخرى على جانب حاذق وحقيقي من لعبة المرايا ومي المصري ستقول لاحقاً انه في الوقت الذي كانت فيه مستسلمة لدموعها خفية عن الكاميرا "كنا جميعاً نبكي وراء الكاميرا" -. أفلا توصل مي المصري لعبة المرايا هنا الى أقصى حدودها؟ شاهد متورط تجاه الكاميرا وتجاه الشخصيات وتجاه القضية نفسها، لا تشعر مي المصري، عادة، بأي حيادية انها "شاهد متورط" ان عجزت عن ان تكون كلياً جزءاً مما تصوره. ولعلها تجد تعويضاً عن هذا العجز في تلك العلاقة التي تقيمها مع شخصياتها، بعد انجاز الفيلم وعرضه. فهناء وفادي في "جبل النار" وطفلا "أطفال شاتيلا" الرئيسيان، ومنى ومنار وسمر وعيسى والآخرون في "آحلام المنفى" صاروا جزءاً من حياتها، تهتم بهم وتؤمن لهم" ان أمكن، مواصلة دراستهم وحياتهم. وهي اليوم قلقة، مثلاً، على مستقبل فادي الذي كان في الرابعة حين صورته في "جبل النار" وصار الآن في السابعة عشرة "انه في كندا يحاول متابعة دراسته، تقول مي، ولكنه يبدو متعثراً. الذنب ليس ذنبه. ان مصيره يشبه مصير المئات من أطفال الانتفاضة الأولى". وهناء التي كانت طفلة، تعرف كيف تثرثر كالكبار وتعرض أفكارها في الفيلم نفسه، هي الآن في الثانية والعشرين "وربما تمثل معي دوراً أساسياً في أي فيلم روائي مقبل قد أحققه" تقول مي المصري، ثم تتذكر الجد الذي صورته يكتشف بيته المهجور في "أحلام المنفى" لتخبرنا كيف انه قضى برصاص الجنود الاسرائيليين بعد انجاز الفيلم... وتنتقل من الحديث عنه الى الحديث عن منار ومنى اللتين أصبحتا صديقتيها. منار بتكوينها الفكري المفهومي ولهجتها الفخمة حين تتكلم، ومنى بعفويتها وعاطفتها المشبوبة. "انهم يصنعوني بقدر ما أصورهم وأحولهم نجوماً من نوع خاص" تقول مي المصري الآن، بلهجة من لم يعد يعرف أين هي الحدود بين حياته وحياة شخصيات أفلامه. بلهجة من يتساءل بصورة دائمة: من منا يصنعه الآخر؟ ولكن هل حقاً يتسع وقت مي المصري، بعد، لصنع أي شيء؟ حين التقينا بها في طريق العودة من باريس، كانت الرحلة الباريسية الأخيرة في سلسلة سفرات قطعت خلالها أكثر من خمسين ألف كيلومتر، ذهاباً اياباً بين القارة الأميركية ولندن واليابان... ودائماً مرافقة لعرض أفلامها - لا سيما "أحلام المنفى" - محملة بالجوائز والذكريات ومدهوشة أمام تعاطف العالم كله مع أطفال فلسطين كما تصورهم ومتهاتفة مع الأطفال تتابع آخر أخبارهم حائرة أمام مهرجان يطلب منها ان تترأس لجنة تحكيميه، متسائلة عن مشروعها المقبل وموافقة على ان الوقت قد حان لكي تقدم أخيراً فيلمها الروائي الأول، وهي تحدق في البعيد وكأنها تسأل نفسها: هل سيمكن فيلمي الروائي الأول إذا حققته، ان يكون حقاً روائياً أكثر مما حققت حتى الآن؟