ترتقي المخرجة الفلسطينية المبدعة مي المصري بأفلامها الى ان تكون بمفردها لجنة تحكيم استثنائية في مجال سينما الناس. وبهذا الارتقاء السحري تلاقي المخرجة اطفال المخيمات، فتردنا الى اصل الحكاية، وهي تزيد من رفعة الفيلم الفلسطيني الجديد، فترفعه بدوره الى مستوى الرقى السحرية. "اطفال شاتيلا" و"أحلام المنفى" و"أطفال جبل النار" افلام تؤكد سينما الحياة ذاتها، وهي تتداخل مع كل تلك الأحاديث البريئة عن الحب والرسائل الغرامية ممزوجة بانتفاضة الأقصى. فقد اكتشف الأطفال لذة الإنترنت الذي قاد في واحدة من حسناته الى الجمع بينهم. وهم يكشفون في تعارفهم عن انسانية ملهمة في هذه المتاهة الكبرى التي يصفقون لها بشيء من الهمهمة الغامضة وهم يغادرونها الآن على مهل دونما تردد، فالسحر والحلم والحب هي ما يجمع بينهم. عن السينما والحياة وتفسير الأحلام، وهذه الرقى السحرية التي تخلق لغتها وديكوراتها وأبطالها وإشاراتها كان لنا حوار مع المخرجة مي المصري عبر لقاءات متقطعة بين بيروت ودمشق. هل نستطيع القول ان "احلام المنفى" ولد سينمائياً من "أطفال شاتيلا"؟ - "احلام المنفى" ولد سينمائياً من تجربتي في فيلمي "اطفال شاتيلا" و"أطفال جبل النار". في هذه الثلاثية حاولت ان أستوحي لغتي السينمائية من عالم الخيال والحس الإبداعي لدى الأطفال، بدأت احلام المنفى من حيث انهيت اطفال شاتيلا. يقول عيسى في نهاية "أطفال شاتيلا": "بدي أرجع عافلسطين بلكي لقيت العصافير هونيك غير العصافير اللي هون". وفي بداية "احلام المنفى" تقول منى: "انا عندي امنية خيالية اني اصير عصفورة من شان ارجع عابلدي...". في "أحلام المنفى" حاولت ان أطور التجربة التي بدأتها مع "أطفال شاتيلا" لا سيما في التركيز على الذاكرة الشفوية التي تتوارث عبر الأجيال الفلسطينية في المنفى، وعملية إعادة بناء الرواية - الصورة - الحلم لدى كل جيل جديد. لقد أردت ان اغوص في العلاقة الإبداعية بين مكونات الذاكرة والخيال والهوية لدى الجيل الذي ورث 50 عاماً من التهجير والحصارات والمجازر. في اطفال شاتيلا ركّزت على تجربة الطفل عيسى الذي فقد الذاكرة إثر حادث سيارة. وعلى رغم إعاقته وثقل لسانه فقد سحرني بخياله وأحلامه وسخريته السوداء، وهو يحاول ان يعيد بناء حياته المهمشة وهويته الضائعة من خلال لملمة شذرات ذاكرته المضروبة. في "احلام المنفى" انطلقت من تجربة منى التي ادهشتني بإحساسها المرهف وتعبيرها الشاعري، وتطورت علاقتي مع اطفال شاتيلا، وبخاصة مع منى وسمر وأصدقائهما في مؤسسة بيت اطفال الصمود التي ترعى اطفال الشهداء. لقد اردت ان أسجل بالكاميرا مراحل طفولتهم، وأن أتابع التغيرات التي تطرأ على حياتهم وأحلامهم وهم على بوابة البلوغ، وكيف تصطدم احلامهم الصغيرة بواقع الحياة الصعبة. وهكذا من خلال منى وأصدقائها في شاتيلا اكتشفت منار وأصدقاءها في مخيم الدهيشة. هل كانت مخيلة منى في شاتيلا حاذقة وهي تتحدث عن الفراشة والبحر؟ - كانت منى في التاسعة من عمرها عندما تعرفت إليها للمرة الأولى. لقد صورتها وهي "تدبك" مع اصدقائها في المخيم. كانت البداية الحقيقية بالنسبة إليّ عندما اعطيتها الكاميرا لكي ارى من خلال عينيها وأكتشف عالمها. على وجهها رأيت الدهشة وعفوية الاكتشاف. كانت الكاميرا لعبة سحرية بالنسبة إليها، وهي ربطت بين الكاميرا والفانوس السحري المفتوح على الأحلام والأمنيات. كان كلامها يوحي لي بصور: بحب اكون عصفورة... ما بحب اكون فراشة لأنو الفراشة بسكّروا عليها بالدفتر... المخيم قفص للعصفور...!! كلام منى حرّك خيالي، وأحسست بمدى الهوة الهائلة بين عالمها الداخلي وبين واقعها المرير. عندما تكلمت عن البحر تبدّت امامي مجارير المخيم. وعندما تكلمت عن قريتها المدمرة رأيت السياج والحدود، وتحول في ذهني وحل المخيم الى تراب فلسطين. بنيت الفيلم على التناقضات بين الحلم والواقع وبين المتخيل والمرئي. حاولت التعرف الى منى في مخيم شاتيلا، فلم استطع ثم سمعت جميع اهل المخيم يتحدثون عن تبنيك لها... لكن احداً لم يدلني إلى مكانها... ما تفسير ذلك؟ - منى تقيم مع والدتها وإخوتها العشرة في حي صغير متاخم لمخيم شاتيلا، في الجهة المقابلة للمدينة الرياضية. اجمل ما في التجربة هي العلاقات الإنسانية الحميمة التي بنيتها مع شخصيات الفيلم. بعد الانتهاء من التصوير قررت ان اخصص لمنى ولكل من اطفال الفيلم في شاتيلا والدهيشة منحاً لإكمال دراساتهم الجامعية وأحلامهم...!! الأحلام نفسها هل تختلف احلام المنفى في شاتيلا عن "احلام المنفى" في الدهيشة؟ - لا تختف الأحلام كثيراً بين المخيمين. اطفال مخيم شاتيلا لم يروا فلسطين بل عاشوها من خلال الحلم، وقد عبرت منى عن هذه الحالة عندما طلبت من منار ان ترسل لها صورة وحفنة تراب من قريتها صفورية التي دمرها الإسرائيليون عام 1948. اما منار فهي تحلم ايضاً بقريتها رأس ابو عمار وتقوم بزيارتها للمرة الأولى مع جدها، وقد استشهد جد منار على يد جنود الاحتلال وذلك بعد اشهر قليلة من الانتهاء من تصوير الفيلم، تتمنى منار ان تصبح محامية يوماً ما، وأعتقد بأنها ستنجح في أي عمل تختاره، فشخصيتها قوية ولديها حضور لافت وثقة عالية بالنفس. خلال التصوير كنت اشعر ببعض الاختلافات في المستوى الاجتماعي بين المخيمين. في شاتيلا كان مشهد الدمار والبؤس الناتج من الحروب والمجازر التي دارت على ارضه طاغياً. اما في الدهيشة، فقد لاحظت ان هناك شعوراً اكبر بالاستقلال، وذلك بحكم موقع المخيم وقربه من القرى الأصلية لأهلها، على رغم قساوة الاحتلال لم يشهد مخيم الدهيشة قسوة المعارك والمعاناة التي شهدها مخيم شاتيلا. اما الآن وبعد مرور سنتين ونصف من الحصار العسكري المتواصل فقد بدأ مخيم الدهيشة يشبه مخيم شاتيلا اكثر فأكثر. اما الشباب والصبايا في المخيمين، فيحلمون بالحب الأول وبالضحك والمتعة، على رغم الدمار والموت المحيط بهم. تراهم ينجحون بأحلامهم الصغيرة وهم يتواصلون مع بعضهم بعضاً ومع وجدان الناس في جميع انحاء العالم. هذه الاتصالات المبدعة بين المنفيين هل تمثل ذروة الفيلم؟ بمعنى هل هي عصرنة احتفالية بشكل من الأشكال؟ - لقد بنيت الفيلم على فكرة التواصل بين اطفال مخيمات الداخل والخارج، وقد استوحيت هذه الفكرة من تجربة صديقة لي كانت تعمل مدرّسة متطوعة مع اطفال شاتيلا، وقد شجعتهم على المراسلة عبر الإنترنت مع اطفال مؤسسة ابداع في مخيم الدهيشة. ذهبت الى فلسطين وتعرفت عن قرب الى اطفال ابداع، ومكثت اسابيع عدة في مخيم الدهيشة، لقد اكتشفت في ابداع تجربة رائدة في تشجيع الإمكانات الإبداعية للأطفال على المستوى الفني وتطويرها فرقة الرقص والفنون وفي استعمال الوسائل العصرية للتواصل والتعبير عن الذات. وقد شكل امكان الاتصال عبر الإنترنت بالنسبة الى الفلسطينيين المحاصرين في مدنهم ومخيماتهم نوعاً من التحرر المعنوي وكسراً لقيود الاحتلال والعزلة، وقد تحقق حلم التواصل الذي بدأ بالمراسلات الإلكترونية عندما التقى الأطفال على جانبي الأسلاك الشائكة على الحدود اللبنانية - الفلسطينية. من الواقع الى الإنسان رأى البعض ان جلوس ابطال "احلام المنفى" في الماء يشكل تلويناً بصرياً يليق بالمخرج البوسني امير كوستوريتسا... اين انت من هذا الخفر النقدي؟! - في كل افلامي أعتمد على معايشة دقيقة للواقع بغية الوصول الى رؤية انسانية اعمق. أبني علاقة وثيقة جداً مع شخصيات الفيلم تؤدي الى كسر الحواجز وتجاوز هاجس الكاميرا. اعيش مع شخصيات الفيلم، وأتعرف الى عالمها الداخلي وأستوحي لغتي السينمائية من الشعر الموجود في تفاصيل حياتها اليومية. هذه الكتابة المستمدة من تناقضات الواقع وسحر المكان اساسية في صوغ اسلوب الفيلم وشكله الفني. هل هي سينما الحقيقة وأنت تنتقلين بين الروائي والتسجيلي؟ هل تفكرين بفيلم روائي؟ - انا مع سينما الناس، سينما الحقيقة الإنسانية، إن كانت تسجيلية او روائية. ليس هناك "حقيقة" بالمعنى المجرد. السينما رؤية ذاتية مبنية على تفاعل السينمائي بالتجارب الإنسانية المحيطة به. ليس في استطاعتي ان أنجز فيلماً إذا لم يكن لي قناعة وشغف بالموضوع. عندما أصوّر مشهداً واقعياً أتعامل مع المشهد بشكل روائي، ولا أقوم بتسجيل الواقع بشكل آلي، فأنا لا احب التصنيف بين الروائي والتسجيلي. المهم ان اكون صادقة مع نفسي، ومبدعة في عملي. الفيلم الروائي الذي يمكن ان احققه مستمد من الأحداث والشخصيات التي عايشتها.