ظل الرئيس الأميركي جورج بوش يتشدق بنشر الديموقراطية في المنطقة الى أن ارتدت سهامها الحارقة الى صدره ليدفع ثمناً باهظاً في الداخل والخارج وينطبق عليه قول:"طابخ السم آكله"! وحمل الرئيس بوش ومن معه من المحافظين الجدد اليهو- مسيحيين لواء الدعوة المزعومة لهذه المهمة"السامية"بتكليف "إلهي" على حد زعمهم وبقي حتى آخر لحظة يردد هذه المعزوفة الممجوجة التي يبدو ظاهرها بريئاً يحمل المن والسلوى لأهالي المنطقة المنكوبة على مر الزمن، وباطنها لم يحمل سوى العذاب ومقومات الفوضى والتفكيك وكل ما هو مضاد ومعاكس لمفاهيم الديموقراطية ومفاعيلها وايجابياتها وعوامل البناء فيها. فكل ما حملته هذه الدعوة المشؤومة للعرب وللمنطقة وللعالم هو الخراب والدمار والمزيد من الإرهاب والنقمة والأحقاد. وكل ما نجم عن هذا الحب المفاجئ للعرب والرغبة في"حقنهم"بإبر الديموقراطية وتخديرهم بوعود خيراتها المزعومة لم يجلب لهم سوى الأمراض والوهن والشلل والمذابح الوحشية التي ترتكبها اسرائيل. وكل من كان يتابع خطب وتصريحات بوش وأركان حربه وحزبه ويتمتع بكل صفات الطيبة والسذاجة وسرعة تصديق الأكاذيب كان يمني النفس باليمن والبركات والخيرات والسلام والاستقرار ويتوهم بأن هذا "الرئيس المنزل والمنزّه" بحسب مزاعمهم عشق العرب لسواد عيونهم وأحبهم الى درجة أنه لم يعد ينام الليل وهو يفكر بهم وبمصالحهم ومستقبل أجيالهم. وإذا نام فهو يحلم بشرق أوسط جديد زاخر بديموقراطية مثالية وحرية وحب واتحاد بين جمهوريات أفلاطونية. ولكن كل من في رأسه عقل يفكر ويحلل كان يدرك من الوهلة الأولى أن هذه الغيرة المفاجئة علينا ما هي إلا سراب ووهم و"ضحك على الذقون".. وكل من في وجهه نظر يرى بأم عينيه مشاهد من بعض ما آلت اليه"الغزوة"الديموقراطية المزعومة وما حملته الينا من ويلات ودمار وخراب، وقتل وإفقار ونهب وفساد وتفكيك غير نظيف، بل قذر، وفوضى غير بناءة، بل قاتلة ومدمرة والأمثلة كثيرة تحدثنا عنها مراراً وتكراراً من أفغانستان الى العراق ومن فلسطين الى لبنان ومن ثم الى المنطقة بأسرها التي لم تمر يوماً بمثل هذه الحالة المأسوية المتهالكة وهذا الاتجاه نحو حافة الانهيار. وهنا تكمن مخالب هذه الدعوة المشؤومة وتتكشف حقائق خباياها ونتائجها التي تندرج في إطار ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين في كل مسرى ومنحى. فإدارة حامي حمى الديموقراطية وداعيتها الأول تتشرف بالديموقراطية وتدعي أنها لن يهدأ لها بال إلا عند تعميمها على دول المنطقة ثم ترفض نتائج انتخابات حرة ولا تعترف بالفائزين بها وتشن عليهم، مع اسرائيل، حرباً لا هوادة فيها كما جرى مع حركة"حماس"في مناطق السلطة الفلسطينية حيث فرضت عليها حصاراً ظالماً بمشاركة معظم دول العالم. في المقابل تغض إدارة بوش الطرف عن جرائم اسرائيل ومذابحها الوحشية ضد الشعب الفلسطيني المناضل وتعتبرها دفاعاً عن النفس وسط مدائح وإشادات ب"الديموقراطية الوحيدة"في الشرق الأوسط ترددها الدعاية الصهيونية منذ أكثر من 60 عاماً ويصدقها العالم لتغطية نظام عنصري بغيض قائم على الارهاب والقتل والاحتلال وانتهاك حقوق الإنسان وقرارات ومبادئ"الشرعية الدولية". أما المثال الصارخ الآخر على"نعم"الديموقراطية المزعومة فهو لا يحتاج الى دليل ولا الى إثبات فهو واضح وضوح الشمس وفاضح بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وهو ماثل أمام أعين العالم كله في العراق الجريح المنكوب الذي احتفل بسقوط الديكتاتورية والقضاء على نظام ظالم برئاسة صدام حسين يدفع ثمن ممارساته لعله يكون درساً يأخذ منه العبر والدروس كل ظالم وديكتاتور وحاكم فردي على رغم التحفظات الكثيرة على اسلوب محاكمته وهويات من يحاكمه وأحقاد من ينتقم عبره من العراق وشعبه وكيانه ووحدته. لكن احتفال الشعب العراقي لم يدم طويلاً إذ"ذاب الثلج وبان المرج"وساد القتل والدمار والحروب الطائفية وتصفية الحسابات الداخلية والخارجية، بدلاً من التسامي والتسامح بعد أن سقط مُشعل الحرب مع ايران مع أركان حزبه وحربه. وإذا بالديموقراطية المزعومة التي بشّر بها بوش ورموز المحافظين الجدد المتساقطين الواحد تلو الآخر تتحول الى كذبة كبرى لم تحمل للعراقيين سوى الخيبة والمرارة والفرقة والدمار والتمييز العنصري والأحقاد الطائفية والمذابح بحق المسلمين السنّة الذين حرموا من أبسط حقوق الإنسان ودفعوا دفعاً للممانعة والرفض والمقاومة بعد أن وجدوا إخوانهم في الدين والوطن يقومون بمهمة التصفية ويعينون المحتل ويتعاونون معه على نشر"ديموقراطيته"العرجاء الظالمة التي لا تحمل شيئاً من مبادئ الديموقراطية سوى المظاهر الخادعة على رغم معرفة جميع العراقيين بكل مذاهبهم وطوائفهم وأعراقهم وأطيافهم بحقائق الأطماع وشرور ما يضمر لهم بعد أن ابتلوا بظالم أظلم من الظالم الذي أسقطوه. وبالأمس عندما حانت ساعة الحساب لم يدفع الشعب العراقي وحده ومعه شعوب المنطقة ثمن هذه الخطايا بل وصلت الموسى الى رقبة إدارة بوش وحزبه في الانتخابات النصفية للكونغرس وحكام الولايات التي أعطت مؤشرات واضحة عن اتجاهات الرأي العام الأميركي ورفضه لسياسة بوش وإدارته ومعارضته لحروبه في العراقوأفغانستان وغيرهما وهو ما سبقه اليه الرأي العام في أوروبا وبريطانيا بالذات وفي العالم أجمع. هذه المتغيرات والتطورات يجب أن لا تعمينا عن رؤية حقيقة أوضاعنا الصعبة ولا تثنينا عن العمل من أجل إقامة انظمة ديموقراطية عادلة في دولنا حسب خصوصياتها وأوضاعها وظروف كل واحدة منها وحساسيات شعوبها. فأكثر ما يغيظني هو تهليل البعض لهزيمة بوش أو بلير في انتخابات أو الابتهاج بنتائج استطلاع عام تؤكد هبوط شعبيتهما واعتبار ذلك بمثابة انتصار لقضايانا وهزيمة لأعدائنا وانتقام لمواقفهم وانهيار لسياساتهم وانتهاء لمخططاتهم. والمؤسف أكثر أن هذه الافراح تنطلق من مواقع ما زالت"تعتاش"على الديكتاتورية والاضطهاد والفردية والشمولية والانتهاك لكل ما في الديموقراطية الحقيقية من معنى ومبنى وأسس ومتطلبات. وكان من الأجدى والأكثر فائدة لنا أن نأخذ من نتائج هذه الانتخابات الدروس ونستخلص منها العبر وهي كثيرة ومتعددة منها: - أن هناك"جبهة"متيقظة وفاعلة ومؤثرة اسمها"رأي عام"تتابع سياسات حكامها وتنتقدها وتعارضها وتحاسبهم عليها. - ان في الدول الديموقراطية"شيئاً ما"لا نعرفه في ديارنا العامرة اسمه"الحساب"على كل خطوة وكلمة وموقف، بل على كل نقطة وفاصلة في السياسة العامة والقرارات المصيرية. - ان الحساب"يجمع"ويتراكم مع الأيام ثم يتحول الى محاسبة يوم الامتحان حيث يكرم المسؤول أو يهان وفق الأصول الديموقراطية والقوانين والأنظمة بعيداً عن الغوغاء والتهديد والوعيد. - ان هناك"شيئاً ما"لا نألفه في ديارنا العامرة واسمه"تداول السلطة"أي أن يرضخ الجميع، أقلية وأكثرية، لصندوق الاقتراع فيحكم من يفوز ويعارض من يهزم ويرصد الأخطاء ويتابع ويحاسب الى أن تحين فرصته التالية في انتخابات حرة ونزيهة فيتحول المعارض الى كرسي الحكم وينتقل الحاكم الى مقاعد المعارضة ليمارس دوره كاملاً وفق مبادئ اللعبة الديموقراطية ولكن من دون تغيير السياسات العامة للدولة فالخلاف بين الجمهوريين والديموقراطيين هو حول الاسلوب وليس الاستراتيجية. فلا أحد مخلد في الحكم في الأنظمة الديموقراطية ولا أحد محروم من الوصول اليه في الديموقراطيات الأصيلة وكأنها تقوم على حكمة عربية تقول"لو دامت لغيرك ما وصلت اليك"فيما نحن نبتلي بداء عشق السلطة وويلات غرام الكرسي الذي ما أن يصل اليه أحدنا حتى يطوبه على اسمه ويتربع على عرشه ويرفض التخلي عنه ولو على حساب خراب البلد وموت العباد مما حول مبدأ تداول السلطة الى"ديمومة السلطة"حيث لا يخرج الغارق في مغانمها إلا الى القبر أو الى السجن! حتى اسرائيل، رغم مخازيها وجرائمها، لا بد من أن نشهد لها بمحاسن المحاسبة والعقاب من قبل الرأي العام. وكم قرأنا من معلقات في وسائل إعلامنا عن الانتقادات الواسعة ضد ايهود أولمرت وحكومته والحملات العنيفة الداعية الى محاسبته واستقالته بعد الحرب على لبنان وتحميله مسؤولية الإخفاقات مع وزير دفاعه وكبار ضباط الجيش. وبدلاً من أن نتعظ ونأخذ الدروس اخترنا الجزء الخاص بالمحاسبة لنهلل للانتصارات وأهملنا المعاني الخاصة بضرورات المحاسبة في كل شأن من شؤوننا العامة. فكم من هزائم تعرضت لها أمتنا ولم نعرف حتى الآن المسؤول عنها وكم من حروب لم نفهم أسبابها ودوافعها وكم من إخفاقات وأزمات اسدل عليها ستار الصمت المريب والرهيب ومرت عواصفها ومفاعيلها كأن شيئاً لم يكن. وكم من فضائح فساد ونهب تحولت الى بطولات ما زال أصحابها في أماكنهم يصولون ويجولون ويتحكمون برقاب العباد والبلاد. إنها ازدواجية المعايير عندنا عندما نتحدث عن محاسبة في الخارج ونتعامى عن مظالم في الداخل بدلاً من أن يحاسب أصحابها كوفئوا وزادت سطوتهم وعشقهم للسلطة، مثلها مثل ازدواجية المعايير السائدة في الولاياتالمتحدة والغرب حول أوضاع العرب ومزاعم نشر الديموقراطية. ولكن هذه السلبيات في الحالتين يجب أن لا تدفعنا لليأس، أو تدعونا للتخلي عن السعي لإحقاق الحق وابتكار شكل من أشكال الديموقراطية التي تتناسب مع ظروفنا وخصوصيات دولنا ومجتمعاتنا وتقوم على أسس سليمة، فالديموقراطية لا تستورد ولا تفرض مثلها مثل التجارب السابقة التي استوردنا فيها مبادئ من الشرق والغرب لنطبقها في بلادنا مثل الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية وغيرها. وطريق الألف ميل نحو الديموقراطية تبدأ بخطوات أساسية لا نقوم من دونها بدلاً من القفز في المجهول وتنظيم انتخابات عشوائية تزيد"الطين بلة"وتتسبب بإرباكات داخلية بسبب اعتماد القشور وإهمال المبادئ الأساسية أو التزوير في الانتخابات واعتماد أساليب ملتوية أو بارتكاب أخطاء تؤدي الى وصول جماعات وفئات لا تمثل الواقع بل تستنهض الغرائز وتثير الفتن والحساسيات. فالبناء الديموقراطي يشبه الى حد بعيد هندسة إقامة البنى التحتية على أسس سليمة أولاً ثم الشروع بالخطوات الأخرى، فالأولوية يجب أن تعطى لسيادة القانون وضمان الحريات العامة وحماية حقوق الانسان واحترام الرأي والرأي الآخر وتحريم احتكار الرأي والموقف والقرار من قبل أية فئة أو أي شخص وتحريم تجريم الرأي المعارض والموقف المخالف فالكل سواسية أمام القانون والعدالة مكفولة لكل إنسان. فإذا تحقق ذلك ولو بالتدريج تكر السبحة ونستطيع الحديث عن ديموقراطية حقيقية صالحة لا نحتاج فيها لغريب يفرضها علينا ولا لقريب يعطينا الدروس ويطبق ديموقراطية زائفة فصلها على قياسه وفق ازدواجية معايير ظالمة. * كاتب عربي