حتى نهاية العام الماضي كان اللاعب الرئيسي على المسرح العالمي - الولاياتالمتحدة الأميركية - ماضياً بخطى عمياء في الاتجاه الخاطئ. كان هنالك شيء من اللاعقلانية، بل الجنون، في الرد الأميركي العنيف على العالم الخارجي، الذي فسّره الكثيرون بأنه نتيجة الصدمة التي أحدثتها هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001… فسواء كانت التهديدات العدوانية للعراق، أم "الحرب الشاملة على الإرهاب"، أو التسامح مع جرائم رئيس حكومة إسرائيل ارييل شارون، أم المبدأ الخطر الخاص ب"الحرب الوقائية"، أم الميل الشديد إلى القوة العسكرية بدلاً من القانون الدولي، كل هذه السّمات المؤسفة التي ظهرت عليها إدارة الرئيس جورج بوش بدت كأنها تقود العالم والشرق الأوسط بصورة خاصة نحو الكارثة. فجأة جاء العام الجديد مع بعض التلطيف في اللهجة. ولعل من السابق لأوانه الحديث عن تغيير في السياسة، لكن هناك بصيصاً من الأمل يوحي بأن شيئاً من العقلانية أخذ يعود إلى المسرح الدولي. فمن ناحية أولى كانت رسالة بوش إلى الشعب الأميركي بمناسبة السنة الجديدة ملفتة للنظر في اعتدالها. فبدلاً من التهديد والوعيد، تحدث بوش عن أمله في الوصول إلى حل سلمي للأزمة مع كل من العراق وكوريا الشمالية. وجاء بعد ذلك دور كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة، ليقول بأن الحرب لا مبرر لها في الظروف الراهنة ما دام العراق يتعاون تماماً مع مفتشي الأممالمتحدة. ودعي من ناحية أخرى رئيس المفتشين هانس بليكس من قبل الحكومة العراقية لزيارة بغداد للاطلاع على ما أحرزته فرق التفتيش من تقدم… وينتظر أن يقبل الدعوة خلال هذا الشهر. بعض الديبلوماسيين الغربيين يتنبأ بأن عمليات التفتيش إذا ما استمرت من دون أي عرقلة، فإن تقرير بليكس إلى مجلس الأمن في 27 الجاري قد يكون مرضياً، الأمر الذي يعتبر خطوة نحو رفع العقوبات التي يعاني منها الشعب العراقي منذ سنين. في هذه الأثناء تتولى فرنسا رئاسة مجلس الأمن اعتباراً من مطلع كانون الثاني يناير، وستبذل أقصى ما في وسعها لتحقيق السلام، كما قال الرئيس جاك شيراك في رسالته إلى الشعب بمناسبة العام الجديد. وستحاول فرنسا من خلال رئاستها لمجلس الأمن أن تفشل أي مسعى لإصدار قرار من المجلس بالسماح باللجوء إلى القوة ضد بغداد. ومن المعلوم أن الفضل يعود إلى الديبلوماسية الفرنسية، المدعومة من قبل روسيا والصين، في حمل الولاياتالمتحدة على قبول اللجوء إلى مجلس الأمن في أواخر العام الفائت، الأمر الذي أدى إلى تأجيل، إن لم يكن الحيلولة دون الحرب التي ينادي بها الصقور في واشنطن وتل أبيب. ومن الجدير بالتنويه أن دولتين من حلفاء أميركا الرئيسيين، تركيا والمملكة العربية السعودية، أعربتا عن شكوكهما العميقة وترددهما في الانضمام إلى جهود الحرب أو حتى تقديم التسهيلات العسكرية، وذلك على عكس ما زعمته التقارير المفرطة في التفاؤل التي نشرتها الصحافة الأميركية حول استعداد هاتين الدولتين للتعاون. ولعل أهم دليل على عودة العقلانية هو أن توني بلير، الحليف الأول للرئيس بوش في الحرب على العراق، ربما بدأ من جانبه يعيد النظر في موقفه. فمصادر داونينغ ستريت تشير إلى أن بلير أصبح يدرك تماماً تعالي أصوات الكورس المعادي للحرب في الرأي العام البريطاني ويدرك كذلك الأخطار التي تهدد بريطانيا، ومركزه الشخصي بالذات، إذا ما شارك في الحرب ضد العراق. صحيح أن الولاياتالمتحدة لا تحتاج إلى مساعدة بريطانيا العسكرية كي تهزم العراق، ففي إمكانها تحقيق هذه المهمة بمفردها. لكنها تحتاج إلى دعم بريطانيا السياسي. فإذا ما قرر بلير بأن محاذير الحرب أخطر من أن يواجهها، فقد يؤدي ذلك بالرئيس بوش إلى التمهل… وهذا بالضبط ما يمكن أن يكون عليه الأمر الآن. وقد اتخذ زعماء الكنائس في أنحاء العالم، بمن فيهم البابا، والرئيس الجديد المرموق لكنيسة انكلترا الدكتور روان ويليامز، وكذلك جميع زعماء الكنائس المسيحية على اختلاف مللها في الولاياتالمتحدة، اتخذ هؤلاء بمناسبة عيد الميلاد موقفاً يندد بالحرب التي تنوي أميركا وبريطانيا القيام بها دونما مبرر… هذا باستثناء رجال كنائس الجنوب المتطرفين في أميركا الذين يدعمون إسرائيل بكل قواهم. السجال الكبير في واشنطن غير أن القرارات الحاسمة باللجوء الى الحرب لا تؤخذ بالطبع في لندن أو باريس أو الفاتيكان، ولا في عواصم الشرق الأوسط وانما تتخذها واشنطن. هناك يدور السجال الحامي الوطيس منذ بضعة شهور بين الصقور والحمائم، بين "فريق الحرب" ومعارضيه الذين تتعالى انتقاداتهم. المطلعون على بواطن الأمور يعترفون بأن الحملة القائمة لتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل، وهي الحجة المزعومة لشن الحرب - ما هي إلا ذريعة. فالصقور في واشنطن - ما يدعى بالمحافظين الجدد - والمتطرفون من المسيحيين والصهاينة الذين احتلوا مواقع رئيسية في ادارة بوش - كانوا دائماً ينظرون الى الخطة المعدّة لما بعد العراق. انهم يطمحون الى اكثر من ذلك بكثير، فهم يعرفون بأن العراق المتخوف من الحرب والذي عانى طوال 12 سنة من آثار العقوبات، لم يعد يشكل خطراً على أحد كما يشهد بذلك جيرانه الأقربون. لكن الصقور يرون في ازاحة صدام حسين المفتاح الرئيس لتغيير الأوضاع وإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط. وهم يحلمون لا بالقضاء على الأصولية الاسلامية فحسب، بل على المقاومة الفلسطينية والقومية العربية ايضاً، وذلك في اطار ترتيب شامل لشؤون المنطقة كما جرى في نهاية الحرب العالمية الأولى. ان أنظارهم تتجه الى ايران وسورية والسلطة الفلسطينية والى الجماعات الراديكالية، كحزب الله وحماس، التي تجرأت على تحدي الولاياتالمتحدة واسرائيل فصار القضاء عليها أمراً لا بد منه. إنهم يريدون الحفاظ على النفط والمصالح الاستراتيجية في الخليج لجيل كامل، كما يريدون تهيئة الظروف لاسرائيل كي تفرض هيمنتها على الفلسطينيين وعلى جيرانها العرب. هم اذن باختصار يطمحون في نظام عالمي جديد تتأكد فيه ضمانة السيطرة الاميركية والاسرائيلية على العالمين العربي والاسلامي. حتى شعار الحرب "على الارهاب" استخدم ليتيح للولايات المتحدة المبرر والذريعة للحصول على قواعد وتسهيلات ومرافق في آسيا الوسطى والخليج ومناطق اخرى، والتخطيط لمد نفوذها العسكري حول الكرة الأرضية. وعلى هذا الاعتبار فإن الولاياتالمتحدة كان لا بد لها ان تخترع اسامة بن لادن حتى لو لم يكن له وجود. على ان رؤية الصقور هذه - والتي هي أقرب الى النزوة الخطيرة منها الى البرنامج السياسي - بدأت تواجه الشكوك والاعتراضات في الوقت الذي تواجه اميركا خطر تجدد الهجمات الارهابية، ومخاطر الحرب ضد عدو عنيد كالعراق والشكوك الدائرة حول مصير العراق بعد صدام، خصوصاً ان الاجتماع الأخير للمعارضة العراقية وما دار فيه من مشاحنات وما توصل اليه من انشاء لجنة من 65 عضواً، يصعب اعتباره مشروعاً مقنعاً لحكومة المستقبل. فمن اذن هو الذي يحكم عراق المستقبل؟ من الذي يدفع لإعادة اعماره؟ من سيكون المسؤول عن أمنه؟ تبدو الاحتمالات ضعيفة في نشوء عراق ديموقراطي من تحت الأنقاض. والأرجح ان الولاياتالمتحدة ستجد نفسها متورطة في وضع فوضوي خطير، يتطلب التزاماً طويل الأمد بتوفير الرجال والموارد - وهذا آخر ما يريده بوش ومستشاره في شؤون السياسة الداخلية كارل روف في الوقت الذي يستعدان لمواجهة بدء معركة انتخابات الرئاسة في أواخر عام 2003. وقد بدأت الشكوك حول أفكار الصقور تظهر في الولاياتالمتحدة سواء في اجهزة الاعلام أو في باحات الجامعات أو في الكنائس أو في التجمعات المعادية للحرب، بل حتى في وزارة الخارجية وفي ال"سي آي ايه". وهي لا بد ان تجد سبيلها الى مسامع الرئيس بوش. من جهة اخرى، فإن التقارير الصحافية عن المذابح اليومية التي ىقوم بها الجيش الاسرائيلي في فلسطين أخذت تصيب موقف الصقور بالتآكل. فقد بدأ الاميركيون يدركون بأن تأييد بلادهم المطلق لحرب اسرائيل الاستعمارية يغذي وباء العداء لأميركا عند العرب والمسلمين ويؤدي بالتالي الى تعريض حياة الاميركيين ومصالحهم للخطر. فهيهات ان تكون اسرائيل شارون شريكاً استراتيجياً ثميناً، بل ينظر اليها في بعض الدوائر على انها عبء خطير ولا سيما ان شارون سيكسب جولة الانتخابات الاسرائيلية القادمة في 28 الجاري ليستمر رئيساً للحكومة. وتستعد وزارة الخارجية بالخصوص لخوض معركة ساخنة مع شارون في شأن "خريطة الطريق" الخاصة بالدولة الفلسطينية. فلقد التزم بوش برؤياه الخاصة بإقامة دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل، وان كان المتطرفون في اسرائيل وأنصارهم في الحكومة الاميركية يتمنون إلقاء هذا الالتزام في سلة المهملات. يبدي الصقور في واشنطن تذمرهم من الانتقادات التي تجبرهم على اتخاذ موقف الدفاع عن سياساتهم. لكن ذلك لا يعني أنهم هزموا. فهم يسعون حثيثاً وبكل قواهم إلى شن الحرب من أجل تحقيق مشاريعهم وطموحاتهم الضخمة… وما دام حشد القوات الأميركية مستمراً، فإن الحرب ستظل احتمالاً قوياً. لكن رسالة الأمل التي أطلت على العالم في هذا العام الجديد تقول إن الحرب ليست حتمية. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.