تستطيع الولاياتالمتحدة بالتأكيد أن تتباهى بأنها انتصرت في حربها على العراق، على رغم أن النتيجة كانت ممسرحة سلفاً بسبب عدم وجود تكافؤ في ميزان القوى بين دولة عظمى تتحكم بمصائر العالم وتملك كل أنواع أسلحة الدمار الشامل... وغير الشامل ودولة من العالم الثالث لا تملك مقومات الصمود والدفاع في الحروب الحديثة المبنية على التكنولوجيا والعلم والأسلحة المتطورة. وأسرار سقوط العراق بهذا الشكل المهين لا بد من أن تكشف إن عاجلاً أم آجلاً على رغم الاعتراف بأن انتصار الولاياتالمتحدة لم يكن سراً من هذه الأسرار، بل يكمن السر في سرعة السقوط وأسلوبه وتفاصيله وسهولته والصفقات والملابسات التي رافقته عندما انهارت الدولة بكامل مؤسساتها و"تبخر" أركانها من قمة الهرم الى القاعدة، ومن القائد العام الى الجندي البسيط والحارس وحتى شرطي السير! فكما أن الوصول الى القمة سهل والبقاء على متنها صعب ومكلف، فإن الانتصار في الحرب لا يعني أبداً ضمان الانتصار في السلم وكسب معركة السيطرة على العراق بسهولة ولا يمكن أن يؤدي الى البقاء فيه والاستمرار الى ما لا نهاية... وسواء بقيت القوات الأميركية في العراق سنة أو سنتين أو فرضت الاحتفاظ بقواعد عسكرية دائمة في أراضيه، فإن النتيجة واحدة ومكلفة جداً لأميركا وسمعتها ومصالحها، ويمكن القول انها أدخلت نفسها منذ الآن في ورطة يمكن الخروج منها بسرعة الدخول إليها بالإسراع في تسهيل قيام حكومة عراقية تمثل الشعب العراقي بكل أطيافه وطوائفه وفئاته وأحزابه وأعراقه وتكتفي بمرحلة انتقالية يتاح بعدها له تقرير مصيره بنفسه ووضع دستور عصري وانتخاب حكومة دائمة وإقامة مؤسسات الدولة الحديثة بما فيها القوى الأمنية والعسكرية القادرة على حماية البلاد وضمان الأمن ومنع تكرار دوامة الانقلابات والمؤامرات والتدخلات الخارجية والصراعات الدولية. وأي تأخير في تحقيق هذه الخطوات أو خطأ في الحسابات سيؤدي الى تجريد "النصر" الأميركي المزعوم من كل مقوماته وتهديد المصالح الأميركية وإشاعة الفوضى والاضطرابات ليس في العراق فحسب، بل في المنطقة كلها، وبالتالي بروز حركات تطرف وإرهاب جديدة والدخول في دوامة دامية يصعب الخروج منها هذه المرة. فالعراق بلد معقد المقومات والتركيبة والمؤثرات الداخلية والخارجية والدخول الأميركي الى أعماقه يشبه الى حد بعيد الولوج في وكر الدبابير، إن لم نقل فتح أبواب جهنم. ولهذا لا بد من أن تعود جميع الأطراف في الداخل والخارج الى الحكمة والعقلانية لإيجاد الحلول الناجعة والبحث عن مخارج لائقة وسريعة، فعلى الولاياتالمتحدة أن تسعى بجدية وصدق الى العمل على "المصالحة" مع العرب والمسلمين من أجل الحفاظ على مصالحها في المنطقة والعالم ووضع حد للحروب "الدونكيشوتية" التي لن تخلف سوى الدمار والحقد والمزيد من الكراهية والكثير من الحركات الإرهابية والمنظمات المتطرفة. كما ان على العرب أن يبحثوا عن مصالحهم بالبعد عن الغلو والتطرف ولهجة التحدي وتغليب العقل على العاطفة واعتماد لغة الحوار مع دول العالم وبصورة خاصة الولاياتالمتحدة على رغم كل ما جرى. وبغض النظر عما جرى منذ الحادي عشر من أيلول سبتمبر وتفجيرات نيويورك وواشنطن حتى يومنا هذا وما شهدناه من تحريض ضد العرب والمسلمين، فإن نافذة أمل قد فتحت بعد الحرب على العراق برجحان كفة الداعين الى الحوار في الإدارة الأميركية من خلال جولة وزير الخارجية كولن باول ولهجة الرئيس جورج بوش الأكثر تصالحية، والإعلان عن خريطة الطريق كخطوة أولى من خطوات الألف ميل لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ثم في تراجع حدة التهديدات ضد سورية وإبداء الرغبة في بدء حوار بنَّاء يرمي الى حل المشكلات العالقة. إلا أن هذا الرجحان قد لا يتعدى حدود "المسكنات" في معالجة الأوضاع المتفجرة إذا لم يتم ردم الجسور المهدمة بين العرب والولاياتالمتحدة ووضع حد للضغوط الصهيونية والقوى المتصهينة التي تغلغلت في مفاصل الإدارة ومراكز القوى لتحرض ضد العرب والمسلمين وتنفث سمومها وصولاً الى خدمة مصالح إسرائيل على حساب المصالح الأميركية. هذه القوى لم تظهر فجأة الى العلن لتقود سياسة "غطرسة القوة" وتدعو الى غزو هذه الدولة أو تلك، بل وصلت الى ما هي عليه الآن من نفوذ وهيمنة وفق أجندة منهجية ومخطط مدروس تحت شعارات "الامبراطورية" والقوة الوحيدة التي تحكم العالم وصراع الحضارات والحروب الوقائية ولو على حسابات النيات فضح بعض جوانبها نعوم تشومسكي المفكر اليهودي المعادي للصهيونية عام 1991 في كتابه "إعاقة الديموقراطية" عندما شرح ايديولوجية "الصقور" التي تقوم على أساس ان أي عمل من جانب الولاياتالمتحدة يهدف الى تعزيز نظامها وايديولوجيتها هو عمل دفاعي، وتدعو لإبقاء الرأي العام مستنفراً الى أخطار مصطنعة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مثل الارهاب وتهديد المصالح الأميركية. والمفصل في هذه الايديولوجيا يركز على وضع المنطقة والخليج بالذات، أكبر مستودع للاحتياطات النفطية، "تحت السيطرة الأميركية كمصدر مذهل للقدرة الاستراتيجية وواحدة من أعظم الجوائز المادية في تاريخ العالم"، وبالتالي السيطرة على العالم كله من خلالها ووضع "مفتاح" النفط وحسابات تسعيره وانتاجه تحت القبضة الحديد الأميركية. وتطوع عدد من المنظرين والسياسيين الحاقدين والمتصهينين للترويج لهذه النظريات وشرح كيفية تنفيذها، وكان أولهم السيئ الصيت هنري كيسنجر صاحب نظرية "تفتيت المنطقة" وتقسيم دولها وتقاسم خيراتها وتجزئة الحلول السلمية بينها وبين إسرائيل لضمان سيطرتها الكاملة وتحقيق مخططاتها التوسعية. وإضافة الى ذلك يقول كيسنجر: "ان المصلحة القومية تكمن في مقاومة جهود أية قوة تريد الهيمنة على آسيا، وينبغي أن تكون أميركا مستعدة للقيام بذلك من دون حلفاء إذا لزم الأمر". وذهب آخرون بعيداً في الترويج للحروب الاستباقية، و"الدول المارقة" والفرصة الذهبية السانحة لإقامة الامبراطورية الأميركية وتغيير أنظمة الحكم بزعم نشر الديموقراطية، وتغيير خريطة المنطقة وإلغاء شرعية سيادة الدول بزعم أن الحكومات يجب ألاّ تمنح شيكاً على بياض لتفعل ما تشاء داخل حدودها الخاصة، ونهاية نظام المؤسسات والقوانين والأعراف الدولية، ما يعني العودة الى شريعة الغاب وحق القوة على حساب الشرعية وقوة الحق. هذه النظريات المعششة داخل دوائر الإدارة الأميركية الحالية ولا سيما في البنتاغون تدعو أيضاً الى الاعتماد على القوة العسكرية الضاربة لدعم الديبلوماسية وشل الأممالمتحدة ومحاصرة روسيا والصين وضرب وحدة أوروبا المتحدة وتجنب صعود قوة عظمى لعقود مقبلة إن لم يكن الى الأبد على حد زعم بعض هؤلاء المنظرين وبينهم اندريا شيفيتش استاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن الذي يقول: "ان ما يهم الامبراطورية هو أن تبقى القوة العسكرية الأعظم في العالم الى آخر الزمن". فيما يبشر بروكس وولفورث بأنه "لا توجد قوة أو كتلة في الكفة الأخرى من الميزان يمكنها أن تجبر الولاياتالمتحدة على أن تفعل ما تريد أن تفعله في المضمار الدولي". ولو عدنا الى دراسات ووثائق ومخططات موضوعة منذ أكثر من ربع قرن لهذه الفئة من المنظرين والمتصهينين لاحتجنا الى مجلدات، ويكفي استعراض الخطوط الرئيسة لعناوينها لمعرفة مدى الخطر الماثل أمام أعيننا لو استمر هذا العبث الاجرامي وكأن هؤلاء لم يقرأوا التاريخ أبداً ولم يتعظوا بدروسه والعبر المستقاة من ظهور الامبراطوريات الكبرى وانهيارها التي كانت تفوق الولاياتالمتحدة سطوة وهيمنة وقوة في زمانها وعصورها المتتالية. بل يمكن الجزم بأن الأخطار التي تواجه العرب والمسلمين من جراء هذه النظريات والمبادئ العدوانية الفاضحة لن تقتصر عليهم بل لا بد من أن تمتد الى الولاياتالمتحدة ومصالحها الحيوية في المنطقة وهيبتها في العالم إذا سيطر عليها هذا الهوس الانتحاري. فهي لم تدخل بعد في تجربة الاستعمار المباشر على رغم حروبها الكثيرة وغزواتها في مشارق الأرض ومغاربها، لأنها كانت تحارب بالوكالة وتحتل بالوكالة وتسيطر بالوكالة عبر قوى محلية أو أجنبية، ولكنها في مثال العراق دخلت في المحظور وأصبحت دولة محتلة بحسب الصيغ القانونية والشرعية الدولية، اعترفت بذلك أم لم تعترف، وأي إطالة لأمد الاحتلال ستدخلها في دوامة تستنزف طاقتها وسمعتها وتهدد مصالحها. في ضوء هذه المعطيات لا بد من أن نتساءل بعد كل الذي جرى، وفي مواجهة أمر واقع ناجم عن الحرب وسيطرة الولاياتالمتحدة على العراق: هل من مصلحة الولاياتالمتحدة أن تعادي العرب والمسلمين الى ما لا نهاية؟ كل ما يريده العرب هو العدالة والكف عن تبني سياسة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين والانحياز الى إسرائيل، وهم كانوا وما زالوا رعاة سلام عادل وشامل في المنطقة وأثبتوا حسن نياتهم عندما قبلوا بمبادرة الرئيس بوش الأب للسلام وشاركوا في مؤتمر مدريد الذي أجهضته إسرائيل... ثم مشوا في أية مبادرة سلام لاحقة. ويريد العرب أيضاً احترام حضارتهم وخصوصيتهم وعدم التدخل في شؤونهم وفرض مبادئ مستوردة عليهم واتباع سياسة حوار الحضارات بدلاً من نظرية "صراع الحضارات" البائدة التي قضي عليها بفعل التضامن المسيحي والإسلامي في معارضة الحرب على العراق. ففي مقابل المطالب العربية من الولاياتالمتحدة لا يمكن لهذه المصالحة "المفترضة" أن تتم من دون خطوات مماثلة من الأطراف العربية تتمثل أولاً في توحيد المواقف ونبذ الخلافات حتى يحترم الطرف الآخر الصوت العربي الواحد ويقتنع بالحوار معه وتكتمل الخطوات بانتهاج مواقف تقوم على الحكمة والاعتدال ونبذ التطرف والتخلي عن لغة التحدي والعنتريات والتكيف مع المتغيرات الدولية والتعامل مع الواقع بواقعية مع العمل على تغييره لمصلحة العرب. ولا بد أيضاً من ايجاد حلول للمشكلات المستعصية داخل كل دولة عربية، وفي ما بينها، ولا سيما مشكلات التنمية والحريات والمشاركة الواسعة وتحصين الذات اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وإزالة الحساسيات وأسباب الشكوى بالنسبة الى كل فئات الشعب واستغلال الثروات لبناء المؤسسات ووقف الهدر والفساد وإشعال نار الحروب والفتن، علماً أن نفقاتها وخسائرها كان يمكن أن تحل جميع المشكلات وتبني دولاً مرهوبة الجانب. بل ان نفقات الحرب على العراق التي قدرت بأكثر من 80 بليون دولار كان يمكن أن تحقق أهدافاً سامية وتنشر الازدهار والسلام في المنطقة وتؤمن للولايات المتحدة مصالحها على أسس الاحترام والمحبة بحيث لا يردد أي أميركي السؤال المطروح حالياً وهو: لماذا يكرهوننا؟ فطريق حفظ المصالح واضح وجلي، ولا سيما المصالح الأميركية، والسير فيه غير ممكن إلا بالحوار البنَّاء وصولاً الى المصالحة... وأي طريق آخر سيكون محفوفاً بالمخاطر ومزروعاً بالألغام! إنها مصالحة لن تبصر النور إلا بتلبية المطالب العربية... وهي مطالب العدالة والشرعية الدولية نفسها، وباحترام العرب والمسلمين كأمة وكحضارة وكبشر. * كاتب وصحافي عربي.