كان رئيس وزراء لبنان الراحل صائب سلام، رحمه الله، بارعاً في السياسة كبراعته في الحفاظ على التوازنات واطلاق الشعارات الحكيمة التي ذهبت مثلاً ولاقت استحساناً من كل من سمعها ولكنها للأسف لم تجد آذاناً صاغية من السياسيين والمسؤولين والأحزاب وزعماء الطوائف ومن بعدهم أمراء الميليشيات والفرقاء الخارجيين، فوقعت الواقعة وكان ما كان من حرب أهلية ودمار ومذابح وتشرذم وتجاذبات وغزو اسرائيلي واتجاهات متطرفة كادت تؤدي الى التقسيم... وبالتالي زوال لبنان بقيمه ودوره الحضاري والثقافي وأمثولته في التعايش بين الطوائف والأديان والأعراق. من بين هذه الشعارات المحببة التي تغني عن ألف خطاب ومقال وبرنامج:"لا غالب ولا مغلوب"... و"التفهم والتفاهم"... و"لبنان واحد لا لبنانان"، وكان الرئيس سلام المشهود له بحكمته وحنكته وشجاعته يدرك ان الحكم مشاركة وان الدول لا تساس بالقهر وغلبة فئة على فئة أو سيطرة طائفة على طائفة، وان البنى التحتية لأي مجتمع أو شعب لا تقام إلا على اسس المحبة والتسامح والتفاهم والحوار البناء. ومن يتعمق في جوهر هذه الشعارات الحكيمة ومعانيها يصل الى قناعات لا مجال لدحضها ويجد حلولاً لكل المشاكل، وحلحلة لكل العقد اذا توافرت النيات الصادقة والإرادة الحقيقية في التسامي عن الصغائر والتضحية بالقليل لضمان الكثير للوطن وللمواطن، وتقديم تنازلات صغيرة من أجل القضايا الكبيرة التي تسهم في بناء الأوطان ورخاء شعوبها وتأمين أمنها وأمانها واستقرارها والتأسيس لمستقبل مستقر زاهر. وكم نحن في حاجة ماسة هذه الأيام لعقلاء يعيدون رفع لواء هذه الشعارات. في لبنان الذي يعيش الآن إرهاصات أزمة ندعو الله ان لا تكون مستعصية، ويقدم على استحقاقات تتطلب من جميع أطرافه وأطيافه وطوائفه توحيد صفوفهم والتحلي بالحكمة وتغليب مصلحة الوطن على كل المصالح واستيعاب معاني التفهم والتفاهم واهمية الخروج من كل ما يجري بمبدأ لا غالب ولا مغلوب. ونحتاج الى هذه الشعارات في الواقع على صعيد المنطقة كلها وفي كل دولة عربية. فالمنطقة تعيش على حافة الهاوية، أو على مفترق طرق، وتحتاج الى هذه الشعارات ومعانيها وتطبيقاتها في العراق اكثر من أي دولة اخرى، وهذا هو بيت القصيد من هذه المقدمة التي أردت ان أشمل فيها الجميع من دون اي استثناء لأن الأيام القليلة المقبلة ستكون حبلى بالأحداث الجسام والمفاجآت والتحولات. فبعد 48 ساعة موعد حلول 30 حزيران يونيو... أي التاريخ الافتراضي لانتقال السلطة والسيادة من قوات الاحتلال التحالف الى العراقيين ممثلين بالحكومة الموقتة... والكل يتساءل: ماذا بعد 30 حزيران؟ على رغم ان كل الدلائل لا تبشر بالخير ولا باستقرار العراق فإن الأمل معقود على الشعب العراقي العريق بطوائفه وأطيافه واتجاهاته وعشائره وأعراقه كافة، بأن يكون على مستوى الاستحقاقات الكبرى التي يواجهها وان يتحلى بأعلى قدر من الوطنية والمسؤولية والحذر فالقادم خطير خطير والمخفي أعظم اذا لم يخرج من هذا"القطوع"بسلام. فليس أمام العراقيين سوى خيارين لا ثالث لهما، فإما تعزيز اللحمة وتوحيد الصفوف وتأجيل القضايا الحساسة كافة الى مرحلة ما بعد استعادة الاستقلال والسيادة والحرية والالتفاف حول حكومتهم والمشاركة بكثافة في الانتخابات العامة المقررة خلال عام من أجل بناء عراق موحد ومستقل وآمن، وإما الدخول في متاهة الفوضى والدمار والارهاب والتشرذم والانقسام وتفتيت البلاد والوقوع في براثن الميليشيات والعصابات ومثيري الفتن ودعاة الحروب الاهلية، وبكلمة مختصرة: وضع نهاية مأسوية للعراق والعراقيين الى أي فئة انتموا اليها. وليس أمام العرب، ودول الجوار بالذات سوى التعامل مع الواقع القائم بحكمة وتعقل ومد يد العون للعراقيين من أجل استعادة استقلالهم وتجاوز المحنة وإزالة آثار سنين العذاب والآلام والحصار والاحتلال والانفلات الأمني الخطير. وبتفصيل أكبر فإن الوقت في هذا الاستحقاق الكبير ليس وقت تصفية الحسابات وإثارة الحساسيات والثأر والانتقام ولا وقت الندب والبكاء على الأطلال وتبادل الاتهامات... صحيح أن العراق ينوء تحت أثقال تركتين ثقيلتين: تركة نظام ديكتاتوري جلب القهر والخراب والفقر والدمار، وتركة الاحتلال الأجنبي الذي جاء تحت شعار"حرية العراق"، مدعياً أنه جيش تحرير. لكن هذا لا يعني أن يغفر العراقيون لجلاديهم أو أن ينسوا جرائمهم ويتغاضوا عن محاسبتهم على ما ارتكبوه بحقهم، بل لا بد من وقفة مع النفس ومراجعة صريحة لكل الأحداث ومحاكمة كل مسؤول عنها من المجازر والمقابر الجماعية إلى الحرب العبثية مع إيران إلى غزو الكويت وما سببته من دمار وخسائر في الأرواح والممتلكات وحصار دام أكثر من عشر سنوات، إلى نهب ثروات البلاد وتشريد الملايين من أبناء الشعب العراقي. فأوان المحاسبة والمحاكمة لا بد أن يأتي ومعه محاسبة من جر إلى احتلال العراق بدلاً من اسقاط النظام بألف طريقة وطريقة من دون ارسال الجيوش والأساطيل لو توافرت النيات الصادقة وانتفت الأسباب الأخرى والغايات التي في نفس يعقوب وصهيون وأركان التطرف في واشنطن ومعهم من خان وتواطأ وشارك في سقوط بغداد المهين داخل النظام البائد من الذين لم يخجلوا من الاعتراف يوم جاءوا إلى السلطة قبل ثلاثين عاماً بقولهم:"لقد جئنا على متن دبابة أميركية". المحاسبة ضرورية، وهذه لها وقتها عند بدء المحاكمات، ان عقدت حقاً، لكن الأولوية الآن للبناء وتوحيد الصفوف وتسهيل عملية انتقال السلطة والسيادة إلى العراقيين وتنفيذ قرار مجلس الأمن الأخير اعتباراً من 30 حزيران موعد انتهاء الاحتلال رسمياً حيث تبدأ مرحلة جديدة من برنامج عمل طويل معقد يفترض أنه يؤسس لبناء عراق موحد وديموقراطي ونظام يقوم على أساس الانتخابات الحرة والمشاركة الفاعلة لجميع أبناء الشعب العراقي. ومهما قيل عن هذه العملية وما يشوبها من نواقص وما يرافقها من تحفظات واحتجاجات من هذا الطرف أو ذاك، فإن من نافلة القول التأكيد أنه لم يكن بالإمكان أفضل مما كان في ظل الظروف المعقدة التي يعيشها العراق. فليس من المعقول ولا من مصلحة أحد أن يقف حجر عثرة في طريق التنفيذ أو أن يعمل على عرقلته ويضع العصي في الدواليب أو يزرع أمامه حقول ألغام على شكل مقاومة أو عمليات عسكرية أو تفجيرات لم تحصد سوى أرواح آلاف العراقيين وتدمر البنى التحتية لوطنهم المنكوب، أي أن خسائر العراقيين فاقت أضعافاً مضاعفة ما لحق بالأميركيين وغيرهم من جنود الاحتلال. فليس مهماً الآن ما كان بل ما سيكون، ولا ما فات بل ما يمكن أن يحدث، فالعرض باستعادة الاستقلال قائم ومن مصلحة الجميع أن يحكموا ضمائرهم ويستغلوا هذه الفرصة التاريخية لاستعادة العراق المخطوف والتعامل بحكمة مع الحدث بعيداً عن الحساسيات والاختلافات على المناصب والكراسي والحصص والمغانم. والقضية الآن هي ان يكون العراق أو لا يكون، ومن يشكك في النيات والوقائع، عليه أن يصبر قليلاً ويتابع عملية التنفيذ ولو على طريقة"الحق الكذاب لوراء الباب". والأمر الملح الآن أيضاً يكمن في كلمتين سريتين لا يريد العراقي أكثر منهما كبداية بعد الحفاظ على وحدة بلاده واستقلاله: لقمة العيش والأمن... ولسان حاله يصرخ كل صباح ومساء: كفى قتلاً ودماراً وحروباً، وكفى مرارة وقهراً وجوعاً، وكفى فرقة وحزازات وتشريداً، وكفى وعوداً وتدهوراً وانتقالاً من ظلم إلى ظلم ومن معتقلات ظلام إلى معتقلات تعذيب ومن"تحت الدلف لتحت المزراب"! لهذا لا بد من الاستجابة لنداء هذا الإنسان المعذب، والعمل على رفع المعاناة عن كاهله. هذه الاستجابة مطلوبة من الجميع من دون استثناء: من الأممالمتحدة التي يفترض أن ملف العراق قد انتقل إليها اعتباراً من 30 حزيران. وهي مطالبة الآن بتنفيذ قراراتها وارسال قوات متعددة الجنسية للحفاظ على الأمن وتأمين انتقال السلطة واستعادة السيادة واجراء انتخابات حرة وبناء مؤسسات الدولة وضمان انسحاب قوات الاحتلال. ومن دول الجوار، والدول العربية بشكل عام، بمساعدة العراقيين وتسهيل تنفيذ قرار مجلس الأمن ومنع أي تهديد للعملية السياسية والمساهمة في حل الخلافات وتبريد الأجواء بين الفئات العراقية. ومن العراقيين أنفسهم بعد تركهم لحالهم وعدم التدخل بشؤونهم فهم أدرى بشعاب وطنهم. وهم مطالبون بالتضحية بالغالي والرخيص لاستعادة الاستقلال وبناء عراق موحد وحضاري وقطع الطريق على العصابات والميليشيات وقوى الشر التي استغلت الأحداث لتنهب وتسرق وتدمر وتقتل الأبرياء. فالحساسيات القائمة لا تبشر بالخير وتهدد بصراعات مدمرة سيدفع الجميع ثمنها، خصوصاً أننا نتابع بأسف أحاديث عن مناصب واحتكارات ومحاصصة وتوزيعات طائفية وعرقية لن تسفر سوى عن التأسيس لحروب أهلية وصراعات سنّية وشيعية وكردية، خصوصاً أن أطرافاً مغرضة تغذي هذه النزعات وتسعى لاشعال نار فتن ليس بين الطوائف والمذاهب والأعراق فحسب، بل داخل كل طائفة ومذهب وعرق أيضاً. وما دام الحديث الآن عن انتخابات وديموقراطية فليحتكم الجميع للشرعية ورغبات المواطنين ونتائج تصويتهم وليترفع القادة عن الصغائر وليعملوا على بناء المؤسسات الديموقراطية والنقابية وجمعيات المجتمع المدني والهيئات الأهلية وليعطوا الأمثولة في العقلانية والحكمة والايمان بحقوق الإنسان والاصلاح. المتفائلون يبشرون بنجاح أكيد في تجاوز المرحلة ويتحدثون عن بناء نموذج للديموقراطية والتعايش بين الأديان والطوائف والأعراق وإقامة دولة يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية لا تسلط فيها ولا سيطرة فئة على أخرى، مستندين على الثقة بالشعب العراقي وقدراته وتجاربه المريرة التي يريد أن يضع حداً لها. لكننا نخشى ان"تجري الرياح بما لا تشتهي سفن"المتفائلين، فالمؤشرات والنذر لا تبشر بتحقيق هذه الأحلام الوردية. أما المتشائمون، وهم كثر، فيعبرون عن خشيتهم من عدم التمكن من إكمال هذه العملية السياسية بيسر وسلام ويعطون ألف سبب وسبب لتعزيز شكوكهم من حقول الألغام الى الحساسيات والحزازات، الى الوضع الاقتصادي الصعب وغياب الأمن، الى المخاوف من فوضى عارمة وارتفاع حدة عمليات التفجير والاغتيالات والتدمير، الى النيات المبيتة الى تضارب المصالح وتقاطعها بين الأكراد والشيعة وغيرهم. ومخاوف السنة من محاولات تهميشهم وسلبهم حقوقهم لإرضاء الآخرين. وبين تشاؤم المتشائمين وتفاؤل المتفائلين ليس بأيدينا سوى ان ننتظر حلول الموعد السحري... وبعدها يكرم العراق أو يهان... ويعود موحداً عزيزاً قوياً أو ينتهي كدولة ووحدة وشعب... وكيان! * كاتب وصحافي عربي.