ما دخل الاستعمار بلداً إلا وخلّف فيه التخلف والدمار والفقر والجهل والعنف والإرهاب وغياب المؤسسات وضياع الأمل بمستقبل واعد وحكم عادل ووحدة قائمة. وما خرج الاحتلال من بلد إلا وزرع فيه قنابل موقوتة وصواعق تفجير وبذور فتن وعوامل شقاق ونفاق وركائز فساد ونهب للثروات الوطنية. ولنا في العراق الجريح المثل والنموذج لما فعله الاحتلال الأميركي البغيض من تدمير للبنى التحتية والنفس البشرية والكرامة الوطنية ومشاعر الوحدة والمودة والرحمة بين أبناء الوطن الواحد. بل إن هذا المثل أشد ضرراً وعمقاً في نتائجه المدمرة وانعكاساته الخطيرة على الحاضر والمستقبل من أية تجربة استعمارية سابقة. فعلى رغم كل المآخذ الراسخة على الاستعمار بوجهه القديم فإنه يمكن القول إنه ترك بعض المعالم الجيدة واللمسات الإيجابية في حدودها الدنيا وفوائدها المحصورة. أما ما فعله الاحتلال الأميركي في العراق والمنطقة وما تسبب به من خراب فقد فاق كل التجارب السابقة، بل فاق التصور والتحليل المنطقي وتجاوز قدرات أي عقل سليم على الفهم والاستيعاب والتصديق. هجوم ضرَب ضرْب عشواء، واحتلال بلا مبرر ولا سبب ولا شرعية ولا غطاء ولا خطة ولا قدرة على البقاء والاستمرار ولا أمل بتحقيق أي هدف، وقرارات خاطئة وأخطاء قاتلة وخطايا رهيبة حسابها كان يمكن أن يكون عسيراً لولا ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين في مفاهيم الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي وآليات التنفيذ والملاحقة وحتى في نظرة الرأي العام العالمي وضميره النائم الذي لا يستيقظ إلا ليحاسب العرب والمسلمين والشعوب المغلوبة على أمرها. الدخول الى العراق كان في الأساس الخطأ الأكبر الذي يمثل قمة الغباء السياسي والفكري، لو نظرنا للأمر بنية حسنة واستبعدنا عوامل الحقد والكراهية والمخططات الخبيثة والمطامع في الثروات والرغبة بالهيمنة على المنطقة وكل عوامل ومقومات نظرية المؤامرة. وقرار البقاء والتمادي في الاحتلال شكل الخطيئة الكبرى لنظام جورج بوش وفريق «المحافظين الجدد» أصحاب النظريات الاستعمارية والإمبريالية الفاشلة ورواد الحروب العبثية على العالم كله، والعالم العربي والإسلامي في شكل خاص لتتحول الى حروب شبيهة بحروب طواحين الهواء الدونكيشوتية السخيفة. وتوالت الأخطاء والخطايا من قرار حل الجيش وقوى الأمن الى محاربة المسلمين السنّة ومحاصرتهم وعزلهم وحرمانهم من المشاركة في الحكم والقرار الوطني تارة تحت ستار ما يسمى باجتثاث البعث، وتارة أخرى بذريعة محاربة «القاعدة» والمشاركة في التخطيط والتنفيذ لقيام نظام طائفي ميليشياوي عرقي يحمل في طياته بذور فتنة وتقسيم وتفتيت للعراق ونهب ثرواته وتدمير بنيانه. مخطط خبيث وجهنمي كان يستهدف الانطلاق من العراق ليشمل المنطقة كلها والتقاطع مع المطامع الصهيونية والتوسع الإسرائيلي في كل خطوة من الخطوات الأولية ثم في النتائج النهائية تحت مسميات سخيفة مثل «الشرق الأوسط الجديد» وتعميم الديموقراطية الهجينة تارة ومحاربة ما يسمى بالإرهاب تارة أخرى. وفشل المشروع وسقط المخطط وتهاوى عرش المحافظين الجدد من بوش الى نائبه ديك تشيني الى دونالد رامسفيلد وجميع أركان دعاة الحرب ومنظري العداء للإسلام والعرب والمتصهينين القدامى والجدد لكن الحذر واجب لأن دلائل كثيرة تشير الى أنهم يعيدون تجميع صفوفهم وحشد قواهم للانطلاق مجدداً وفتح نار المساءلة والمضايقة للرئيس باراك أوباما لمنعه من التحرك وإفشال مشاريعه وإعاقة إنجاز تقدم في مسارات السلام في الشرق الأوسط على رغم يقين معظم الأميركيين وكل شعوب العالم بأن العنف يولّد العنف وأن أي دولة قد تنتصر في معركة ولكنها لا تربح حرباً. وأنها قد تربح حرباً ولكنها لن تستطيع تحقيق النصر النهائي وترسيخ أقدام الاحتلال لأي بلد آخر صغيراً كان أم كبيراً. وكانت النتيجة أن دفعت الولاياتالمتحدة الثمن الفادح من سمعتها وكرامتها وهيبتها واقتصادها ومصالحها الحيوية في المنطقة ومصالح شعبها المهدد في فرص عمله ومسكنه ودخله ولقمة عيشه وصحة أطفاله ومستقبل تعليمهم وحياتهم العامة. أوباما يحاول أن يطرح برامج للمعالجة وإصلاح الوضع وإنقاذ الاقتصاد الأميركي المترنح مع الاقتصاد العالمي في شكل عام بسبب الأزمة المالية الخانقة. ولا تهمنا النتائج ولا مستقبل الولاياتالمتحدة لكن الذي يهم في هذا المجال هو مستقبل العراق ووحدته وسلامة أراضيه وحق الشعب العراقي الأبي الكريم في العيش بحرية وكرامة واستقلال واستقرار وأمن وأمان وأمل في الحاضر والمستقبل. لكن المشهد العراقي اليوم لا يبشر بالخير بكل المقاييس والتوقعات والتحليلات والوقائع خصوصاً أن الانسحاب الأميركي صار وشيكاً وقد ينجز في أي وقت عام 2010، أي قبل الموعد الذي حدده الرئيس أوباما في نهاية عام 2011. فالعراق اليوم يقف على مفترق طرق ليتحدد قريباً مصيره فإما الانزلاق نحو المجهول – المعلوم، أي الحروب والفتن والتقسيم والضياع وإما تحكيم العقل وتغليب المصلحة العامة والمشاعر الوطنية الصادقة والمخلصة ولملمة الجراح ورأب الصدع وتصحيح الأخطاء وضرب وحش الفساد. وإذا كان الاحتلال الغاشم يتحمل أوزار كل ما جرى في العراق من مذابح وأعمال عنف وتدمير وإزهاق أرواح فإن أطرافاً أخرى تتحمل المسؤولية معه بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة. فالنظام السابق زرع الأشواك وتسبب بإيصال البلاد الى ما وصلت إليه مثله مثل الأنظمة الديكتاتورية والفردية / الاستبدادية التي أذلت شعوبها وحطمت معنويات جنودها الذين استسلموا من دون أن يدافعوا عن وطنهم كما يجب. فهم مظلومون لأنهم تربوا على الإذلال وتحطيم الكبرياء وأدمنوا مشاهد الرعب والخوف والتهديد بالسحل والقتل ومواجهة فرق الإعدام. كما رأوا بأم العين ما حل بوطنهم وإخوانهم وما انتشر من فساد ومحسوبية ونهب لثروات بلادهم. وبكل أسف فإن أكثر الأزمات والاضطرابات والحروب الداخلية والخارجية شنت لأسباب شخصية وبقرارات فردية متسرعة كان وقودها مئات الآلاف من الأرواح البريئة التي أزهقت ظلماً وبهتاناً ودفعت الشعوب الأثمان الفادحة لقرارات عبثية لم يستشاروا في شأنها ولم يشاركوا في اتخاذها. الطرف الثالث الذي يتحمل الأوزار والمسؤولية، الى جانب الاحتلال والنظام البائد لصدام حسين، هو جميع أركان النظام الحالي بكل أطيافه وتشكيلاته وأحزابه، لأنه نظام قائم على الفساد والطائفية والمذهبية والعرقية ومبني على التمييز بين المواطنين وتقاسم الحصص والمغانم والفساد ونهب الثروات الوطنية لهذا البلد الغني بموارده المائية والنفطية والمعدنية وقيمه التاريخية ومكانته السياحية وبشعبه الذي كان مضرب المثل في العزة والكرامة والإباء وقوة الشكيمة. أما الطرف الرابع فهو القوى الإقليمية التي إما أنها شاركت في العنف نكاية بالأميركيين ودعماً للمقاومة أو أنها تعاملت بلامبالاة مع الحدث العراقي المزلزل أو أنها توانت ولم تسارع لنجدة العراق وتضميد جراحه ومساعدته على الخروج من محنته وآلامه بخروج الاحتلال أولاً وبزوال أسباب الفرقة والتشرذم وألغام الفتن والمطامع الداخلية والخارجية. وبعيداً من المحاسبة وتقويم الأدوار لا يخفى على أحد أن المرحلة الراهنة هي مرحلة مصيرية وحاسمة في تاريخ العراق، أولاً بسبب انعكاسات ونتائج وآثار ومخلفات الانسحاب المرتقب للقوات الأميركية (على رغم الأحاديث عن التخطيط لإقامة 4 قواعد عسكرية دائمة وثابتة) ثم في مصير النظام القائم في ظل الصراعات القائمة حالياً والمذابح الإجرامية التي ترتكب بحق الشعب وأعمال العنف والإرهاب المدمرة التي لا تخرج عن كونها عملية تصفية حسابات وعرض عضلات وتوجيه رسائل حزبية وطائفية ومذهبية عراقية وإقليمية لفرز المواقف والقوى ورسم خريطة طريق التحالفات بين الأحزاب والقوى قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات العامة المقررة في مطلع العام المقبل. فالخلافات الحالية لم تعد محصورة بين الطوائف والمذاهب والأحزاب فحسب بل هي تشمل الصراعات داخل كل حزب وطائفة فيما تتركز المقاومة وأعمال العنف والإرهاب بالتدرج بين بقايا «القاعدة» والمقاومة العراقية المكونة من بعثيين وغير بعثيين والقوة السنّية من عشائر وغيرها التي تدافع عن كيانها وترفض تهميشها وسلب حقوقها وعدم إعطائها فرصة أو حصة تشارك فيها في الحكم وتوزيع الثروات ومسؤوليات اتخاذ القرارات. فالقوى الشيعية تتصارع وتتنافس بين أنصار الصدر (جيش المهدي) وحزب الدعوة والمجلس الأعلى ومنظمة بدر وبعض القوى الحزبية والشخصيات المستقلة، والقوى السنية تنقسم بين مشارك بالعملية الانتخابية والمسؤوليات وبين معارض لها ورافض. وحتى القوى الكردية في الشمال التي كانت توحي بأنها موحدة أظهرت خلافاتها وتبايناتها بين الحزبين الرئيسيين الديموقراطي والاتحاد الوطني والزعيمين جلال طالباني ومسعود برزاني، مما أدى الى ظهور فريق ثالث تمكن من إثبات وجوده وقوته في الانتخابات المحلية الأخيرة. والشأن الكردي له تداعيات وإشكالات تشعبه بين فريق ينادي بالانفصال، وفريق يكتفي بحكم ذاتي شبه مستقل وفريق ثالث، مثل حزب العمال الاشتراكي والحزب الإسلامي، يحمل السلاح ويحارب في الداخل والخارج. وإذا كان الشيعة على اختلاف توجهاتهم يرتبطون بدرجات مختلفة مع الجار الإيراني الذي يعمل على الهيمنة وبسط نفوذه في العراق، فإن الأكراد لهم شأن آخر مع الجيران (إيران وسورية وتركيا) فهم في شبه عداء متفاوت معهم، كما أن تركيا تقف بالمرصاد لأي قرار بالانفصال أو بالسيطرة على كركوك، فيما يرفض العرب والتركمان الاقتراح الملغوم لقائد القوات الأميركية الجنرال راي أوديرنو بنشر قوات عراقية – أميركية – كردية في المناطق المتنازع عليها في محافظات الموصل وديالى وصلاح الدين وكركوك. كل هذه العوامل ترسم ملامح صورة مرعبة عن المشهد العراقي خلال الأشهر القليلة المقبلة خصوصاً ونحن نشهد كل يوم مناظر تقشعر لها الأبدان مما يدعو الى دق نواقيس الخطر من حمامات دم يومية والمطالبة بعقد مؤتمر إقليمي عاجل للاتفاق على وسائل الحل ومساعدة العراقيين على تخطي المرحلة الراهنة بسلام وأمان والترفع عن المصالح الضيقة لأسباب إنسانية وأخلاقية وانطلاقاً من روابط الدين والجوار والأخوة والمصالح المشتركة مع الأخذ في الاعتبار أن الانفجار العراقي الكامل لن يقتصر على العراق بل ستمتد تفجيراته الى الجميع، وأن نيران اللهب ستصل إليهم من دون أن نغفل دعوة القادة العراقيين الى المصارحة والمصالحة ونبذ الخلافات والكف عن المناكفة وزرع الأحقاد والسعي نحو المكاسب الشخصية والفردية والفئوية والا فإن مصيرهم لن يكون أرحم من مصير صدام، فما بظالم إلا ويبلى بأظلم. فالوضع مأسوي والمشاهد مؤلمة وحزينة، وكل عربي يضع يده على قلبه خوفاً على العراق الأبيّ وشعبه الكريم وهو يتمنى لو كان قادراً على وصف العلاج أو تقديم الدواء الشافي وكأن لسان حاله يردد مع الشاعر: يقولون ليلى في العراق مريضة أيا ليتني كنت الطبيب المداويا!؟ * كاتب عربي