بدأ زمن السادات بالانقلاب التدريجي على مبادئ الزمن الناصري وشعاراته ورموزه. وفي الوقت نفسه اكتشاف حلفاء جدد - هم جماعات الإخوان المسلمين - يكونون عوناً للسادات في القضاء على معارضيه من أنصار الزمن الذي يريد أن ينقلب عليه. ومنذ ذلك الوقت أخذ السادات في الابتعاد عن المجموعات الناصرية والقومية واليسارية، حتى تلك التي ناصرته في انقلاب 15 أيار مايو سنة 1917، الذي أطاح فيه بضربة واحدة الرموز الناصرية المناوئة له سياسياً علي صبري، شعراوي جمعة، محمد فائق، ضياء الدين داود، عبدالمحسن أبو النور، والفريق محمد فوزي وزير الحربية، ولبيب شقير رئيس مجلس الشعب، وفريد عبدالكريم المسؤول عن الاتحاد الاشتراكي، وسامي شرف مدير مكتب عبدالناصر،... إلخ، وهو الأمر الذي دفعه إلى الإفراج عن المعتقلين من الإخوان المسلمين، والسماح لهم بالعودة إلى إصدار مجلاتهم وجرائدهم، مقابل التضييق على التيارات اليسارية والقومية المناوئة، ودفعها إلى الهجرة الطوعية، في أكبر حركة هجرة للمثقفين المصريين الذين توزعوا على المنافي العربية، ابتداء من بيروت والعراق ودول الخليج، وليس انتهاء بالعواصم الأوروبية التي جمعت ما بين باريس ولندن وغيرهما من الأقطار التي احتوت الهاربين من عمليات الحجر والتجميد والفصل التي قام بها السادات واستهلها بعملية إعادة ترتيب المشهد السياسي، ابتداء من أيار 1971. وقام التحالف مع الحلفاء الجدد على أساس من المنفعة الخالصة، وتربص كل طرف بنظيره. والنتيجة هي الحركة العملية لكل من الفريقين في اتجاهه الذي يحقق مصالحه أولاً، ولكن لا يخلو من تربص كل طرف بحليفه الموصول بتاريخ قديم من العداء. فالإخوان لم ينسوا - قط - اشتراك السادات في حكم لم يتوقف عن قمعهم، والسادات لم يكن غافلاً عن مطامعهم في إقامة دولة دينية على أنقاض دولته التي حصنت نفسها بشعار"العلم والإيمان". وكان منطقياً - والأمر كذلك - أن يفتح السادات الأبواب المغلقة لحلفائه الجدد، سامحاً لهم بالممارسة التي أتاحت لهم الانفراد بالساحة السياسية الاجتماعية الثقافية. وفي الوقت نفسه التخلص المتدرج من العلاقة الضاغطة بالحليف القديم - الاتحاد السوفياتي - بعد الإيمان بأن كل الأوراق الرابحة أصبحت في يدي الولاياتالمتحدة الأميركية. وكانت النتيجة التداعيات التي أعقبت ما سُمي"ثورة التصحيح"في منتصف أيار 1971، ثم طرد الخبراء والمستشارين السوفيات من مصر في تموز يوليو 1972، تمهيداً للقيام بحرب تشرين الأول أكتوبر 1973، وبعدها توقيع اتفاقيتي الفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية في كانون الثاني يناير 1974، وأيلول سبتمبر 1975، وذلك بعد إعادة فتح قناة السويس للملاحة الدولية في حزيران يونيو 1975، وكان ذلك قبل أقل من عام من إلغاء معاهدة الصداقة المصرية - السوفياتية في آذار مارس 1976، تمهيداً لزيارة القدس في تشرين الثاني نوفمبر سنة 1977. وبقدر ما اتفقت جماعات الإخوان المسلمين، وما تراكم حولها وفي موازاتها من مجموعات إسلامية أكثر تطرفاً، على تأييد السادات في حربه على معارضيه وخصومه، والإفادة من دعم رجاله، مثل محمد عثمان إسماعيل أمين التنظيم في الاتحاد الاشتراكي، الذي تولى - أولاً - مهمة إقامة مستعمرات ذات طابع ديني لتدريب الطلاب من المجندين الجدد على مقاومة العناصر الناصرية والشيوعية، وتولى - ثانياً - دعم العناصر الدينية وإعدادها للقضاء على العناصر المعارضة لتوجهات النظام الساداتي الجديدة. وذلك قبل أن يصبح محافظاً لأسيوط التي أطلق فيها العنان للجماعات الحليفة لتديين كل ما حولها، والتصدي بالعنف لكل سلوك تراه خارجاً على إسلامها الأصولي، وما تبع ذلك من فصل بين الطلاب والطالبات، وتحريم الأنشطة الفنية والاجتماعية، ومطاردة فلول المجموعات اليسارية بأقصى درجات العنف التي تهدف إلى الاستئصال. ولذلك تحولت أسيوط إلى معمل تفريخ المجموعات الإرهابية والنزعات الأصولية التي انتقلت منها إلى غيرها من المحافظات في علاقات من التأثر والتأثير والدعم الحكومي، وذلك ما أدى إلى هيمنة الفكر الأصولي المتشدد وسيطرته، شيئاً فشيئاً، على الجامعات المصرية التي لم تنجُ من آثاره إلى اليوم. وهو فكر وجد ما أفرحه في إلغاء معاهدة الصداقة المصرية - السوفياتية في آذار 1976، لكن وجد ما أحبطه ودفعه إلى الانقلاب على السادات منذ سيره في طريق السلام مع إسرائيل، خصوصاً بعد زيارته إسرائيل في تشرين الثاني من العام نفسه. وهكذا، وقعت المجموعات القومية واليسارية من الطلاب والمثقفين الذين أبوا النزوح بين مطرقة الجماعات الإسلامية وسندان نظام السادات، فظلت تقاوم الاثنين معاً إلى أن فقدت، في النهاية، وبعد مقاومة بطولية طويلة، طاقتها على التمرد لأسباب لا مجال لتحليلها في هذا السياق. وكانت بداية التمرد ما أعلنه السادات من أن عام 1971 عام الحسم، وتراجعه عن ذلك بإعلان تحوله إلى عام للضباب، فتصاعد الاحتجاج الطلابي الذي أفرز اللجان الوطنية التي قادت حركة الطلاب المعارضين لسياسة السادات، خصوصاً بعد أن قويت هذه الحركة بنجاح عناصر يسارية في انتخابات الاتحادات الطلابية في غفلة من التنظيم السياسي للدولة. فتصاعد موقف التمرد بما أدى إلى الاعتصام داخل الجامعة، وما تبع ذلك من تدخل أمني لفض الاعتصام بالقوة واعتقال قادته، الأمر الذي دفع الطلاب المتعاطفين إلى الخروج في تظاهرات عارمة، انتهت بالاعتصام في ميدان التحرير في الأسبوع الأخير من كانون الثاني 1972. وهو الاعتصام الذي أسهم فيه عشرات من المثقفين والمبدعين، ومنهم أمل دنقل الذي كتب قصيدته الشهيرة"الكعكة الحجرية"، كما كتب بهاء طاهر عن التظاهرات المصاحبة في روايته"قالت ضحى". ولا تزال قصيدة أمل دنقل التي استمدت عنوانها من النُّصب المقام في منتصف ميدان التحرير ويشبه"كعكة حجرية" علامة إبداعية لا تُنسى على رفض توجهات السادات، ابتداء من التحالف مع جماعات الإسلام السياسي، وانتهاء بالتقرب إلى الولاياتالمتحدة. ولا أزال أذكر منها المقطع الذروة الذي يقول:"دقت الساعة الخامسة/ ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب/ ها هم الآن يقتربون رويداً.. رويداً./ يجيئون من كل صوب/ والمغَنّون - في الكعكة الحجرية - ينقبضون وينفرجون كنبضة قلب / يشعلون الحناجر/ يستدفئون من البرد والظلمة القارسة/ يرفعون الأناشيد في أوجه الحرس المتعب/ يشبكون أياديهم الغضة البائسة/ لتصير سياجاً يصد الرصاص". ولم ينقطع تمرد الحركة الطلابية بعد فضّ الاعتصام والقبض على القيادات، وتواصلت التظاهرات والاعتصامات في الجامعة بما أدى إلى تعاطف المثقفين الذين أصدروا بياناً شهيراً لتأييد مطالب الحركة الطلابية، وقّعه توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهما كثير من الشخصيات التي ثأر منها النظام بالفصل من الاتحاد الاشتراكي الذي كان يعني- بحسب قوانين ذلك الزمان - الفصل من العمل الصحافي والمنع من الكتابة. وظل الموقف الوطني محتقناً إلى أن حدثت حرب أكتوبر التي أفرغت النفوس من غضبها، خصوصاً بعد أن أصدر السادات قبل الحرب بأيام، قراراً بالإفراج عن المعتقلين من الطلاب وإلغاء قرارات الفصل من الاتحاد الاشتراكي، تلك القرارات التي أصدرها بمباركته أمين التنظيم - محمد عثمان إسماعيل - مهندس التحالف مع جماعات الإسلام السياسي وراعيها الذي وصل بها إلى ما وصلت إليه. وبالطبع، كان توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في أيلول 1978 نقطة الانفصال التي فَضّتْ التحالف بين السادات وحلفائه من الجماعات الإسلامية التي أفادت منه بأضعاف ما أفاد هو منها، فأصبح شعارها"الإسلام هو الحل"شعاراً مقبولاً من جماعات متزايدة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، خصوصاً بعد أن تزايدت قواعدها الشعبية، وانتشرت ثقافتها المجانسة - في النهاية - للثقافة التقليدية السائدة التي لم تتوقف عن الامتداد والصعود، وذلك بعد تحول أجهزة الإعلام، وتزايد نبرة الخطاب الديني في تراجعه، وهجرة الكثير من المثقفين الراديكاليين الذين تزايدوا إحباطاً، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار الدول الشيوعية. وكان لا بد للصدام من أن يحدث بين الحليفين المتناقضين، ويؤدي إلى تصاعد صور العنف الذي اقترن بالجماعات التي نزلت تحت الأرض، وأصبحت جاهزة للضرب في أي وقت، وذلك في سياق لم يتوقف عن ممارسة أفعال الإرهاب التي حاولت الانقلاب على الدولة، وتحويل"دولة العلم والإيمان"التي رفعها السادات شعاراً له إلى"دولة دينية"خالصة، معادية لأي تكوينات أو شعارات مدنية حديثة. وكانت البداية ما قامت به جماعة"الفنية العسكرية"بقيادة صالح سرية سنة 1974، وما تبع هذه المحاولة بعد ذلك بثلاث سنوات من اغتيال الشيخ الذهبي، وكان عالماً أزهرياً جليلاً، يتميز باستنارته. وقد درست - أيام الطلب - كتابه العمدة عن"مذاهب التفسير الإسلامي"بأجزائه الثلاثة التي تميزت بموضوعيتها وأفقها العقلاني السمح الذي لا يعرف التعصب أو الانحياز الى فريق دون فريق. وحدث الاغتيال البشع سنة 1977، في عام زيارة السادات إلى إسرائيل، وقبل توقيع اتفاقيات كامب ديفيد التي أدّت إلى القطيعة النهائية وإعلان العداء الحاسم، خصوصاً من المجموعات التي تحولت إلى جماعات قتالية. ووجدت هذه الجماعات ما يدعمها معنوياً - على الأقل - في قيام الثورة الإيرانية في كانون الثاني 1979 والإطاحة بحكم بهلوي وإعلان قيام الجمهورية الإسلامية التي أصبح على رأسها آية الله روح الله الخميني، فكان قيام هذه الدولة بشارة إيجابية لإمكان قيام الدولة الدينية المعادية للاستعمار الغربي - الأميركي في المحيط العربي الإسلامي، وذلك في سياق المتغيرات التي دفعت جماعات الإسلام السياسي إلى قبول تحالف جديد مع السادات وحلفائه العرب والأميركيين لمقاومة التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان كانون الأول / ديسمبر 1979. وهو التحالف الذي أتاح لهذه الجماعات من الخبرات القتالية والدعم اللوجيستي ما زاد قوتها أضعافاً مضاعفة، وضم إليها فصائل جديدة، تجمّع أفرادها في مراكز عربية، أهمها مكتب الخدمات MAK الذي أشرف عليه الشيخ عبدالله عزام - أستاذ الشيخ عمر عبدالرحمن ومعلمه القديم - بمساعدة أسامة بن لادن. ولم تقتصر مهمة المكتب على التجميع والتسفير والتجنيد، بل امتدت إلى التدريب والإعداد العسكري، في معسكرات تدريب أميركية. ولم ينتبه كثيرون في ذلك الوقت إلى ضرورة التمعن في دلالة قيام الثورة الإيرانية 1972 وما حدث في عام قيامها من أمرين بالغي الدلالة: أولهما احتلال المتطرفين من الثوار مبنى السفارة الأميركية، واعتبار العاملين فيه أسرى حرب أوجب الله قتالهم. وثانيهما قيام جماعة مسلحة بقيادة جهيمان العتيبي باحتلال المسجد الحرام في مكة، وإعلان نوع أصولي جديد من دولة الإسلام. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تنجح محاولة اغتيال السادات بعد أقل من عام على محاولة جهيمان العتيبي احتلال المسجد الحرام بمكة. وكان الاغتيال آخر حلقة في سلسلة أحداث العنف المتبادل التي وصلت إلى ذروتها بالقضاء على الحليف الذي أصبح عدواً لا بد من الخلاص منه، وإعلان دولة دينية جديدة بدل دولته المدنية. لكن لم تأت الرياح بما تشتهي السفن. وفي الوقت نفسه، لم تتوقف أعمال العنف لتحقيق الحلم القديم الذي لا يزال أصحابه متهوسين به، بعد أن ازدادوا حماسةً وعدداً وشعوراً بالقوة. خصوصاً بعد ما حققوه واكتسبوه في أفغانستان التي ساعدوا على إقامة الحكم الديني فيها لحركة طالبان التي أقامت نموذجاً موازياً لدولة دينية معادية للقيم التي ظلت محل عداء المجاهدين العرب الذين عادوا إلى أوطانهم، عاقدين العزم على انتزاع الحكم من الطواغيت، والانتقال بقوة السلاح من زمن"الجاهلية المعاصرة"إلى زمن"الحاكمية لله"الذي أخذ يعلو مع شعار"الإسلام هو الحل". وكان نجيب محفوظ يرقب كل هذه التحولات العنيفة، محاولاً استيعاب مغزاها الأعمق، وكأنه كان يتمثلها ليعاود الكتابة عنها في روايات الثمانينات، باحثاً عن موضع العلة والداء كما تعود أن يفعل.