من قبيل إنعاش الذاكرة بالعودة الى بعض التحليلات المستندة الى نظرة رؤيوية للأحداث التي نعايشها ومحاولة استشراف آفاق المراحل الآتية، نذكر بمقالات سابقة نشرت في هذه الصفحة وكانت تعتبر من بعض الجهات تحريضاً على أعمال العنف في العراق وتضخيماً لما تشهده الساحة العراقية من أحداث مأسوية يومياً، في حين أن الأمر لا يتعدى كونه نتاج متابعة دؤوبة ومنطقية من قبل أي مراقب موضوعي متابع لمجريات الأمور. والآن وبعد اعتراف الرئيس جورج دبليو بوش ان الحرب على العراق هي فيتنام أخرى فإن مجريات الأحداث تتجه الى سلوك منحى آخر يختلف كلياً عما سبق. فبعد مكابرة على الذات ورفض الاعتراف بالأمر الواقع جاء الإقرار الأميركي بخطورة وفداحة ما يجري بعد انقضاء ثلاث سنوات ونصف سنة على غزو العراق كنقطة تحول في مسار هذه الحرب وبدأ مسلسل المواقف المتراجعة أملاً بتصويب مسار ومصير التورط الأميركي إذ بعد أن كانت الأطراف العراقية تطالب الادارة الأميركية بإعداد برنامج زمني لبدء سحب القوات من العراق إذ بالرئيس بوش هو الذي يطالب العراقيين الآن بإعداد برنامج زمني لتولي قوات الأمن الوطنية زمام الأمور، لأنه إذا ما تواصلت الأحداث على الوتيرة نفسها العالية والصاخبة من التأجيج الأمني والذي يسير في خط تصاعدي بالغ الخطورة فإن الخيارات تضيق أمام الرئيس الأميركي وأقصى ما يستطيع أن يفعله هو تحديد الخسائر والأضرار، حتى لا يقال إن جورج دبليو بوش يريد مواصلة الحرب والخروج منتصراً ولو على حساب آخر عراقي! وفي مؤتمره الصحافي الأخير وبعد الإقرار ب"فيتنام عراقية"وهذا اعتراف بالغ الخطورة قال الرئيس الأميركي في ملاحظة لافتة:"انني اعتقد ان على القائد الأعلى للقوات المسلحة أن يخطو كل الخطوات الديبلوماسية قبل إقحام قواتنا العسكرية". انها ممارسة عملية من نوع نقد الذات ولو أنها جاءت متأخرة وبعد طول انتظار. وأحد المؤشرات للدلالة على النتائج الكارثية للغرق الأميركي في المستنقع العراقي سقوط 104 جنود أميركيين خلال شهر واحد فقط والذي جعل الرقم يرتفع الى أكثر من ثلاثة آلاف ومئتي عنصر - حتى كتابة هذه السطور والرقم معرض للارتفاع تبعاً لما يحدث يومياً. وبانتظار الاطلاع على التقرير الذي يعمل على إعداده وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر وهو أحد كبار مساعدي الرئيس بوش الأب الذي جاء لإنقاذ بوش الابن من التورط الكبير، والذي سيعرض فيه للاقتراحات العملية التي يراها مناسبة لوقف النزيف الهائل في العراق، تستعد المنطقة بكاملها لمواجهة تداعيات مثل هذا الفشل الأميركي للنظرية البوشية والتي قامت في الأساس على خوض الحروب الاستباقية وتعقب الارهاب اينما وجد. وللمرة الأولى يذهب جورج دبليو بوش في تعليقه على ما يجري في العراق الى حد القول ان لصبره حدوداً، وبدا وكأنه يوجه كل اللوم الى الحكومة العراقية القائمة، وكتبرير للفشل يخشى أن ينتهي الأمر بتحميل العراقيين كامل المسؤولية عما آلت إليه الأمور ضمن شعار البحث عن كبش فداء! ولأن الظروف الداخلية العامة المحيطة بالرئيس بوش قبل أيام قليلة من إجراء الانتخابات النصفية للكونغرس في السابع من تشرين الثاني / نوفمبر المقبل تترك اثاراً ضاغطة عليه نظراً الى احتمال فشل الجمهوريين في المحافظة على سيطرتهم على مجلسي الشيوخ والنواب. لذا فهو يحتاج الى انتصار - أي انتصار لتوظيفه في الداخل الأميركي علّ مثل هذا التطور - إذا حدث - لا يجعل الخسارة مهينة وإدانة قاسية لسياساته العامة. ومن المفارقات اللافتة لجوء الماكينة الإعلامية للحزب الجمهوري وخلال تجريد حملة إعلانية واسعة النطاق خصوصاً على الصعيد التليفزيوني الى أشرطة تظهر أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وهما يهددان أميركا بالمزيد من الهجمات لينبري الرئيس بوش ويقول انه الرئيس الوحيد الذي يستطيع ان يدافع عن الأمن القومي الأميركي. وتكتمل مشهدية الوضع الانتخابي إذا ما تعرضت اميركا في الداخل أو في الخارج الى هجوم ارهابي خلال الأيام المقبلة كي يتم توظيف هذا التطور في الحملة الدعائية. هذا إذاً على جبهة اميركا - العراق، وتتزامن مع هذه التطورات غير السارة بالنسبة الى واشنطن تطورات من نوع آخر لا تقل أهمية وخطورة عن الذي يجري. فالعالم يشهد حالياً حالة من الفلتان النووي. وأكد هذا التطور المثير ان الزعيم كيم جونغ ايل طوله لا يتعدى الأقدام الخمسة وثلاث بوصات أثار موجة من الذعر في العالم كله وخاصة الولاياتالمتحدة انتقالاً الى الدول المجاورة لشبه الجزيرة الكورية كاليابانوالصين. وفيما تحدثت واشنطن بنبرة عالية فور انتشار نبأ اجراء التفجير ما لبث الأمر ان تقلص ليقتصر على استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على بيونغيانغ ومن ذلك مراقبة وتفتيش السفن الآتية الى كوريا الشمالية للتأكد من عدم وصول أي مادة يمكن أن تسهم في تطوير الانتاج النووي علماً بأن مسألة التفتيش البحري أثارت حفيظة الصين التي أعربت عن مقاطعتها للمشاركة في تنفيذ هذا الاجراء، أما اليابان فكانت أكثر الدول انزعاجاً من الخطورة التي أقدمت عليها كوريا الشمالية نظراً الى مخاطر محتملة يمكن أن تتعرض لها جراء توسيع نطاق السيطرة على انتاج الأسلحة أو المواد النووية. وهكذا فإن أفقر دولة في العالم حيث يعاني معظم سكانها من المجاعة، تمكنت من احداث كل هذه الجلبة النووية وهذا الصخب الناشئ عن تفجيرها النووي الأمر الذي يؤكد هشاشة ما سمي ذات مرة بالنظام العالمي الجديد ويكشف التركيب القائم كم ان التوازنات الدولية بين الدول سريعة العطب وأن سباق التسلح النووي بات يخرج عن السيطرة العامة أو التفلت من الرقابة بالنسبة الى بعض الدول منها من انتسب الى اللجنة الدولية للطاقة الذرية والبعض الآخر بقي خارج مراقبتها. أما فرض العقوبات على النظام الكوري الشمالي فلن يقلقه كثيراً، خصوصاً ان هذا الشعب تكيف مع مرور الزمن مع الحرمان في هذه الدولة الشيوعية. يضاف الى ذلك فشل اعتماد أميركا على مبدأ فرض العقوبات الذي لم يكن ناجعاً على الاطلاق بدءاً من حقبة الستينات على كوبا، وصولاً الى مشروع فرض العقوبات الذي يعكف مجلس الأمن على استصداره بقرار ضد ايران. ويذكر ان الرئيس جورج دبليو بوش ألقى العام 2002 خطاباً وصف فيه رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ ايل ب"القزم الكريه الذي يتصرف كالطفل المدلل على مائدة العشاء". ولا حاجة بنا للتذكير بالتصنيف الأميركي لكوريا الشمالية من حيث انها احدى دول"محور الشر"لتتضح أمامنا صورة الصراع بين"الأقزام"و"الجبابرة"!، بل بين دولة تحتاج الى من يطعم شعبها ولو بالحد الأدنى من الخبز والأرز والقطب الأوحد الولاياتالمتحدة. ومن قبيل المعلومات: خلال ولاية الرئيس السابق بيل كلينتون وضع الخبراء الأميركيون خطة لتدمير الطاقة النووية لكوريا الشمالية، لكن الخبراء قالوا ان ضحايا كثراً سيسقطون نتيجة مثل هذا الهجوم، وقدروا 52 ألفاً بين قتيل وجريح أميركي و490 ألف قتيل وجريح من كوريا الشمالية... فصرف النظر عن تنفيذ هذه الفكرة. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي في التسعينات فقدت كوريا الشمالية"المظلة العقائدية"، فلجأت الى بناء القوة الذاتية. واستناداً الى معلومات اميركية ان عبدالقدير خان أب القنبلة الباكستانية زار بيونغيانغ أكثر من ثلاث عشرة مرة خلال سبع سنوات. وكواحد من فصول التسوية ظهر الزعيم الكوري الشمالي لا ليعتذر، كما طالبت واشنطن، بل للاعلان عن أنه لن يقدم على اجراء تفجير نووي جديد. لكن الهموم النووية لا تتوقف عند هذاالحد، بل ان كل الأنظار مركزة على ايران لمعرفة كيفية التعاطي الأميركي والأوروبي مع إصرار طهران على المضي في برنامج تخصيب اليورانيوم، ويتداول أعضاء مجلس الأمن في مشروع القرار المقدم من المانيا وفرنسا وبريطانيا والمتعلق بفرض عقوبات على ايران. والصيغة المتداولة تستند الى الفقرة الحادية والاربعين من الفصل السابع لميثاق المنظمة الدولية وهي تنص على فرض عقوبات لكن دون اللجوء الى استخدام القوة. وايران كما هو معلوم هي - وفق التصنيف الأميركي - دولة ضمن"محور الشر". وهكذا ترى أن ما نشهده اليوم هو المنازلة بين دول"محور الشر"و"الشيطان الأكبر"، التسمية الحركية لأميركا وفق العملية التبادلية بين اميركا وايرانوكوريا الشمالية. ومما يزيد في تعقيدات الملف النووي الايراني هو الدور الممسك بزمام الأمور من قبل ايران في العراق. وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده السفير الأميركي في بغداد زلماي خليل زاد والى جانبه قائد القوات الاميركية جورج كيسي، جرى التأكيد تكراراً على ان ايران وسورية تقفان وراء التصعيد في أعمال الارهاب والعنف في العراق. وبالعودة الى التقرير المنتظر لجيمس بيكر ورغم نفي الرئيس بوش ذلك، فإن اقتراحاً يقضي بتقسيم العراق الى ثلاث فيديراليات طرح على اساس انه النتاج الطبيعي للحرب الطائفية والمذهبية المتأججة حالياً في العراق. كذلك فإن جيمس بيكر سيوصي بإقامة حوار مباشر مع كل من سورية وايران واعتبارهما جزءاً من الحل وليس جزءاً من المشكلة فحسب. ومثل هذا الطرح يؤكد المأزق الذي بلغته التوجهات الاميركية في المنطقة من افغانستان الى العراق، الى العجز عن إحداث اختراق في عملية السلام بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي وصولاً الى لبنان حيث تعمل ادارة الرئيس بوش على توظيف نجاح ما قد يتحقق لتغطية العجز في الأماكن الأخرى في المنطقة. وفي هذا المجال يشار الى حرص الرئيس بوش على الاعلان عن تأييده لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة وآخر تعبير عنه جاء قبل ايام قليلة. ويبقى هذا التأكيد من نوع قطع الوعود مع وقف التنفيذ، أو كالشيك من دون رصيد إلا إذا تمكنت واشنطن من اثبات عكس ذلك. ثم ان اشهار علاقات التحالف والصداقة مع الولاياتالمتحدة ينطوي على مسؤولية كبيرة وعلى محاذير مختلفة الأنواع لمثل هذا الارتباط، خصوصاً في هذه الآونة بالذات. كما ان المراهنة على المواقف الأميركية مغامرة غير مضمونة العواقب في ضوء الفشل الذي يلاحق توجهات الرئيس بوش في المنطقة. يضاف الى ذلك ان باستطاعة أميركا ان تدافع عن نفسها ولا مانع لديها من التضحية بالآخرين والشواهد على ذلك كثيرة. لكن من الذي يحمي الأوطان الصغيرة من المخاطر المصيرية التي تشهدها؟ وفي المحصلة الأخيرة يمكن الايجاز الخاطف للواقع المضطرب للمنطقة كالآتي: * ما زال لبنان في عين العاصفة، وأي كلام عكس ذلك هو من قبيل تبسيط الأمور وعدم مصارحة الذات ولا الآخرين. ولم تكن في حاجة للشهادة التالية من السفير الروسي في بيروت سيرغي بوكين للتأكد من حراجة الوضع وهو الذي قال:"ان الوضع في لبنان غير مستقر ومرتبط كثيراً بما يحصل في المنطقة لا سيما بالنسبة الى الحرب في العراق والموقف الدولي من ايران... ثم ان الجمهورية الاسلامية الايرانية أصبحت تطل على البحر المتوسط بعدما انحصرت إطلالتها البحرية لسنوات طويلة عبر الخليج". * ان المبادرة التي أطلقها الرئيس نبيه بري بدعوة أعضاء لجنة الحوار الوطني الى لقاء تشاوري هذه المرة والمقرر الاثنين المقبل تمثل بارقة أمل من التفاؤل الباقي. لذا فالمؤمل ان يرتقي الجميع الى مستوى خطورة ما يواجه لبنان من مخاطر كنتائج طبيعية للحرب الاسرائيلية وما خلفته ليس فقط من دمار على الصعيد العمراني بل لوجود رهانات عدة لا يبدو ان نجاحها يحظى بدرجة عالية من الثقة. واستخدام رئيس مجلس النواب اللبناني بعض التعابير المحددة ذات دلالات معينة عندما قال:"... أنا أكثر من متخوف من فلتان الأوضاع وعودة الصراع الى الشارع أو الى الشوارع المختلفة، خصوصاً وسط حال الانقسام الافقي والعامودي حتى لا اقول الطائفي والمذهبي". ويضيف:"نحن أمام شرق أوسط جديد لكن ليس الشرق الأوسط الذي يتحدث عنه الاميركيون". * وهنا أساس المشكلة: مصير الشرق الأوسط بين ما يخطط له - أميركياً - مقابل سعي"دول الممانعة"لإحباط مثل هذه المخططات والمخاوف الجدية من استخدام بعض الصغار كوقود في حرب الكبار. * اعلامي وكاتب لبناني