ما ان اطلقت مكبرات الصوت في مساجد رام الله هتافات العيد حتى امتلأ البيت فرحاً، فالاطفال يستعدون منذ شهور لرحلة العيد الى البلدة طوباس، تلك البلدة القريبة التي لا تبعد عن رام الله اكثر من سفر ساعة حوالي 60 كيلومترا، لكنها تحولت في عهد الحواجز العسكرية الى بلدة بعيدة، نائية، تتطلب الرحلة اليها من الزمن ما تتطلبه رحلة الى عاصمة أوروبية مثل لندن أكثر من خمس ساعات. تنطلق السيارة المشتعلة بفرح الاطفال شرقاً الى المدخل الرئيس للمدينة. الحاجز العسكري الاول لا يسمح بالمرور سوى لحملة التصاريح او ممثلي البعثات الاجنبية والعاملين في المؤسسات الدولية. تدور شمالا باتجاه بيرزيت، البلدة الشهيرة بجامعتها، الجامعة الأبرز في فلسطين، حيث حاجز ثان يسمى"عطارة"على اسم القرية التي أقيم على مقربة منها. يصدمك المشهد: صف طويل من السيارات التي أراد اصحابها من العاملين في"العاصمة"السفر الى مدنهم وقراهم ومخيماتهم في شمال الضفة لمشاركة عائلاتهم فرحة العيد. ورغم اجراءات الفحص البطيئة إلا ان الوقت ينقضي سريعاً، ففرح الاطفال يختصر الزمان والمكان. الطريق خلف الحاجز قديمة محطمة، فمنذ عقود لم يجر اصلاحها بعد ان شُقت الى المدينة طريق سريعة باتت اليوم حكراً على المستوطنين ودوريات الجيش. لكنك سرعان ما تجد نفسك في الطريق المخصصة للمستوطنين فتتساءل: أي اجراءات أمنية هشذه التي تجعلهم يبعدونك عن بداية الطريق ليعيدوك اليها من جديد، وتتذكر التقارير الدولية التي طالما تحدثت عن الحواجز العسكرية بوصفها وسيلة لمعاقبة الفلسطينيين وليس الحفاظ على الامن. الصباح طري، والضباب ينقشع رويداً رويداً عن رؤوس الجبال الممتدة شمالا بين رام الله ونابلس كاشفا عن سلسلة طويلة من المستوطنات التي تعتليها. مجموعات قليلة من المستوطنين تقف على مدخل كل مستوطنة، على الطريق العام، بانتظار مرور الحافلات والسيارات. يلاحظ الاطفال المشترك بين المستوطنين: غالبيتهم يرتدون اشارات دينية، النساء يغطين رؤوسهن، ويلبسن التنانير الطويلة، اما الرجال فيرخون جدائلهم، ويغطون رؤوسهم ب"الكبا"وهي طاقية صغيرة تغطي قمة الرأس فقط."النساء المتدينات هنا مثل النساء المتدينات عندنا، يغطين رؤوسهن"يلاحظ أحدهم. أما الثاني فتكون ملاحظته أكثر عمقاً:"اذا كانوا متدينين ويعرفون الله الى هذا الحد فلماذا يأخذون أرضنا ويعتدون علينا كل يوم؟"."ربما يفعلون ذلك تقربا من الله؟"تجيب بحيرة وربما بيأس. تصل الى مدخل مدينة نابلس حيث الحاجز العسكري الاكثر شهرة في الوطن، حاجز حوارة الذي يتردد اسمه دائماً في الاخبار لكثرة ما تنتجه هذه المدينة"نابلس"من أخبار. يسأل الجندي بلكنة عبرية،"هل تحمل تصريخ؟"تصريح مرور، فتجيبه بالنفي، فيقول:"اذن عد من حيث أتيت". يرشدك الناس الى طريق استيطاني يسمى طريق"يتسهار"، نسبة الى المستوطنة التي تحتل مساحات واسعة من ثماني قرى جنوب نابلس، فتتساءل مرة أخرى عن جدوى الامن الاسرائيلي الذي يمنعك من دخول مدينة عربية، لكنه يسمح لك بالمرور في طريق مليء بالمستوطنين. أليس هذا افضل لمن ينوي ارتكاب هجوم؟ ثمة حاجز على مدخل الطريق، وحاجز في نهايته، وكلا الحاجزين يوقفانك لفحص بطاقات الهوية. تطوي السيارة الاسفلت خلفها، وينشغل الاطفال في البحث عن أغنية تلائم أجواء العيد ومشهد الجبال المغروسة بالزيتون والمستوطنات. تجد نفسك على المدخل الشمالي لمدينة نابلس وتُمنع من الدخول بسيارتك، فتتجه الى شمال الشمال، الى طولكرم: هذا درس في الجغرافيا الفلسطينية، تقول للاطفال، فالوصول الى طوباس شمالا يتطلب السفر الى طولكرم شمالا ثم الى جنين شرقا ثم الى طوباس جنوبا. تصل الى بلدة عنبتا قرب طولكرم، هنا ايضا حاجز عسكري آخر لكن لا وجود للجنود، تتوقف طويلا الى ان يبلغك المارة ان الجنود هنا يختفون في"الحصن"وهو مبنى مضاد للرصاص، عندما لا يريدون اجراء الفحوص، لذا فغيابهم هو اشارة الى ان المرور مسموح. تمر ببطء وفي رأسك حوادث كثيرة أطلق فيها الجنود النار على السيارات المارة وقتلوا من فيها بدعوى"اجتياز الحاجز من دون إذن". أحد هذه الحوادث كان اطلاق النار على سيارة تقل امرأة في حالة مخاض هي السيدة الشابة ميسون الشورطي من قرية كفر حارس جنوب نابلس. قتل الجنود زوجها وأصابوها بجروح. تزورها في المستشفى فتجدها انجبت بنتا. يأتون اليها بالمولودة لكنها تصر على السؤال عن زوجها الذي لم تكن تعلم انه قُتل. تخفي الممرضات الحقيقة عنها، وما ان يغادرنها حتى يغرقن في البكاء خلف الباب. تتوغل السيارة في قرى جنوب جنين، شوارع قديمة محفرة خارج القرى، وأخرى ضيقة جداً داخلها. تغص الطرق الضيقة بعشرات السيارات التي تدهمها بحثاً عن طريق الى مقصدها. تُشغل نفسك في فترات الانتظار الطويلة تلك بقراءة الشعارات على الجدران:"عمر الظلم ما بدوم"يقول أحدها. فتقول في سرك يبدو ان كاتب هذا الشعار قد عانى المرور عبر الحواجز، فأي ظلم أكبر وأشد؟ وتقرأ آخر:"الجنة تحت ظلال السيوف". انه المد الاسلامي، لقد جرّب الناس هنا كل الطرق والافكار والعقائد من قومية واشتراكية وعلمانية، والآن مرحلة الاسلام السياسي. وتتساءل: كم ستطول فترة الاسلام السياسي في فلسطين والمنطقة؟ وكيف ستكون نتائجها هنا؟ هل يستغلها الاسرائيليون في تخويف العالم الغربي وإبعاده عنا بالادعاء ان هذه المنطقة لا تختلف عن افغانستان والعراق، وانها - اي اسرائيل - تحارب باسم العالم الديموقراطي المتمدن النسخ الفلسطينية من ابن لادن والزرقاوي! يصل الاطفال، وقد هدهم وهدك السفر الطويل في الطرق الوعرة الطويلة، وانهكهم الانتظار على الحواجز العسكرية التي تمزق أرض الفلسطينيين وتمزق حياتهم. تقول للابن البكر صباح اليوم التالي: انظر كم هي جميلة بلدتنا، لقد افقنا على أصوات العصافير، انظر الى اشجار الزيتون والاسكدنيا حول البيت، أليست الحياة هنا أجمل مليون مرة من الحياة في شقة في عمارة سكنية في رام الله؟ يجيبك أحدهم بحسه الطفولي:"نعم جميلة لكننا لا نريد ان نعود الى هنا، لا نستطيع ان نعود عبر هذا العدد الكبير من الحواجز، عندما يغادرون نعود". يذكرك جوابه بتقرير الاممالمتحدة الأخير الذي قال ان اسرائيل تنشر 528 حاجزاً عسكرياً في الضفة الغربية، وتقسمها الى ثلاث مناطق جغرافية تفصل بينها بحواجز شبيهة بالمعابر بين الدول. ينسيك تعب الحواجز والقلق من طريق العودة فرحة العيد. ويذكرك بأن للأعياد في فلسطين وظيفة أخرى غير تلك التي يعرفها الناس، فهي تعيد تذكيرهم بحجم التمزق الذي تتعرض له بلادهم، وتالياً مختلف أوجه حياتهم جراء حواجز تفصل البيت عن ظله والانسان عن روحه.