بعد عودته من المنفى الفرنسي مطلع آيار مايو الماضي، ونجاحه في تثبيت تياره الوطني عبر الانتخابات، قرر العماد ميشال عون ترميم سيرته السياسية، والاحتفال بذكرى إبعاده يوم 13 تشرين الأول اكتوبر 1990. وكان الهدف من إقامة المهرجان الذي أُلغي بسبب الأحوال الجوية الرديئة، إظهار شعبيته الطاغية، على اعتبار ان القوة السياسية في لبنان اصبحت تقاس بحجم الحشود والقدرة على استقطاب الشارع. كما اراد من جهة أخرى، محو الانطباع السيئ الذي تركته مذكرات الرئيس الياس الهراوي في نفوس القراء، يوم أظهره في صورة المتمرد على دولة الطائف، والمعارض لكل حل يخرجه من قصر الرئاسة. إضافة الى هذين السببين، توقع أنصار عون تكريم ذكرى شهداء الجيش الذين سقطوا نتيجة الإرباك الذي حصل عقب اذاعة البيان الذي بثه العماد بصوته عبر اذاعة"اف ام"طالباً من قادة الألوية الالتحاق بقيادة اميل لحود. والمعروف ان قسماً من قوات عون لم يتبلغ الأوامر الجديدة، فإذا به يستمر في القتال. في حين ان قسماً من جيش لحود سمع البيان والتزم قرار وقف النار، فإذا به يتعرض للقصف ويخسر عدداً كبيراً من الجنود. كذلك تعرضت ثلاث فرق من القوات المشتركة اللبنانية - السورية في بلدتي بسوس وبيت مري وتلة ضهر الوحش، لهجمات مفاجئة بالقنابل والرشاشات، لهذه الاسباب وسواها، وصف عون في مؤتمره الصحافي، هذه الذكرى بأنها أليمة على نفسه، ولكنه أحياها بهدف تعميق الايمان برؤيته الاستراتيجية، وتجسيد المبادئ التي تضمنها ميثاق"التيار الوطني الحر"وخطابه التأسيسي. ويتردد في بيروت انه استعجل عقد المهرجان لأن شعبيته المسيحية بدأت تتضاءل، خصوصاً بين الذين توقعوا من"حزب الله"منحه شحنة قوية من شعبية اسلامية تقربه أكثر فأكثر من القصر الجمهوري. ويبدو ان"حزب الله"تجاوب مع هذا المعطى، بدليل انه حشد الآلاف من محازبيه، وأرسلهم الى منطقة"الدورة"على رغم العواصف والأمطار الغزيرة. والراجح ان"القوات اللبنانية"تخوفت من تنامي التيار العوني داخل المناطق النائية، الأمر الذي شجعها على اطلاق نكتة مؤذية وزعتها عبر الانترنت خلاصتها:"ان العماد أمر بإعداد عشرة آلاف سندويشة من أجل المشاركين في المهرجان، ولما احتج مساعده على ضمور العدد المتوقع والمقدر بمئة ألف، طمأنه الجنرال بالقول ان هناك أكثر من تسعين ألف صائم". ويستدل من المعنى المتواري وراء هذه الدعابة السمجة ان"القوات اللبنانية"تعزو شعبية عون الى تحالفه مع"حزب الله"، والى الخدمات المعنوية والعملية التي وفرها انتصاره على اسرائيل لجماعة"التيار الوطني الحر". وهي ترى ان تخليه عن عمقه المسيحي قد حجم دورها وأضعف دور بكركي وأربك دور الكتائب وعزل السنة عن حليفهم التقليدي الماروني منذ سنة 1943. أنصار عون لا يقيمون وزناً لهذه الحجج، لأن مبدأ الشرعية التوافقية في رأيهم، لا يميز طائفة عن أخرى، وانما يشجع التعاون بين دعاة الرؤية الاستراتيجية المشتركة. وهم يعتبرون جمهورهم - لا فرق أكان داخل لبنان أم خارجه - من أكثر الجماهير اللبنانية انضباطاً واخلاصاً للوطن أولاً ولقائده ثانياً. لهذا السبب وصفت عودة أكثر من عشرين ألف مهاجر جاؤوا من مختلف القارات للاشتراك في الانتخابات الأخيرة بمثابة مؤشر وفاء وولاء للعماد. ومن المؤكد ان الحكومات الفرنسية المتعاقبة منحت ضيفها اللبناني هامشاً وسيعاً من حرية التعبير، عرف كيف يستغله عن طريق الظهور المتواصل على شاشات الفضائيات العربية واللبنانية والاجنبية. وكان في بعض المقابلات يفقد أعصابه ويتصادم بالكلام مع محاوريه. ولكن الاختلاف في وجهات النظر لم يثنه عن مواصلة الحضور التلفزيوني، لاقتناعه بأن هذه الوسيلة هي أفضل أدوات التعاطي مع شعب أبعدته عنه السياسة مدة خمس عشرة سنة. وكثيراً ما كانت الحكومات الفرنسية تتلقى شكاوى الدولة اللبنانية حول الحملات التي يشنها العماد ضدها، ولكن ردود الفعل لم تكن صارمة وحاسمة حتى لو كان الشاكي رفيق الحريري، صديق جاك شيراك. ويتذكر السفراء العرب في باريس كيف نالوا نصيبهم من البندورة المهترئة والبيض النيئ وكل الأشياء الوسخة التي رماها أنصار عون على السيارات المتوجهة نحو قصر الضيافة حيث حل الرئيس الياس الهراوي. وكان واضحاً من تغاضي رجال الشرطة عن أعمال الشغب، ان تعليمات الداخلية تميزت بالتساهل مع المتظاهرين. وتستغرب الصحافة الفرنسية كيف تنكر الجنرال عون لحضانة خمس عشرة سنة، كان خلالها معززاً مكرماً بخلاف اللاجئين السياسيين الآخرين الذين يعدون بالمئات. ويتذكر اللبنانيون أزمة العلاقات مع باريس، يوم أعلن الرئيس فرانسوا ميتران امتناع بلاده عن تسليم الجنرال عون بعدما طلب حق اللجوء السياسي، وان فرنسا تتعهد بالحفاظ على سلامته وأمنه. صحيح ان ميتران اتخذ هذا الموقف كدليل على امتعاضه من انتقال الوصاية على لبنان الى سورية والولايات المتحدة... ولكن الصحيح ايضاً أنه ربط علاقات فرنسا مع لبنان بقضية ميشال عون. وهذا ما فعله من قبل سفيره رينيه آلا، الذي توسط مع الهراوي من أجل تفادي عملية سفك الدماء قبل إزاحة عون من قصر بعبدا يوم السبت 13 تشرين الأول - 1990. وعرض السفير في حينه حلين رفضهما الهراوي: الأول، اجراء انتخابات رئاسية جديدة. والثاني، تأليف حكومة يتسلم فيها عون حقيبة وزارة الدفاع على ان يبقى محتفظاً بقيادة الجيش. قبيل الساعة السابعة من ذلك اليوم، أغارت طائرة سورية على منطقة بعبدا وألقت قنبلة بعيداً عن القصر في أرض مهملة لم تحدث أضراراً. وكانت تلك المرة الأولى خلال الحرب يحلق الطيران السوري فوق لبنان بموافقة اسرائيل التي صادرت قبل اسبوعين شحنة صواريخ نقلتها باخرة ترفع علم باناما، وتبين أثناء التحقيق مع القبطان ان الصواريخ مرسلة من العراق الى قوات عون. واعتبرت تلك العملية بمثابة الحافز لاتفاق واشنطن مع دمشق على انهاء تمرد ميشال عون ضد نظام الطائف. ويصف كريم بقرادوني في كتابه"لعنة وطن"تلك الساعات الحرجة فيقول: هكذا سقط العماد وبقيت"ظاهرة عون"، وانتهت حقبة الجنرال التي بدأت في 23 ايلول سبتمبر 1988. بعد مرور 18 سنة تقريباً يبعث ميشال عون"العونية"من رماد الماضي ليشكل بها تياراً جارفاً يأمل ان يقوده الى القصر الذي طرد منه بالقوة. ويقول أنصاره في هذا الشأن، انه يريد ان يعود رئيساً لا ان يصبح رئيساً. ذلك انه يؤمن بأن الياس الهراوي سرق منه الرئاسة، مثلما فعل من بعده العماد اميل لحود. وربما تراءى له ان معركة الرئاسة قد دنت، وانه من المفيد انعاش تياره بالمهرجان الحاشد الذي ألغته الأمطار والعواصف. والملفت أنه لم يحتج على إرادة الطبيعة، وإنما اكتفى بعقد مؤتمر صحافي قال فيه كل شيء تقريباً. وحذر جماعة 14 آذار وحلفاءهم من اضاعة آخر فرصة لبناء الوطن، وان هذه الفرصة لن تتحقق إلا بعد تشكيل حكومة اتحاد وطني، واحياء المجلس الدستوري، واجراء انتخابات نيابية حسب قانون عصري متوازن ينتهي بانتخاب رئيس جمهورية جديد. ومع أنه لم يعلن ترشيحه للمنصب، إلا أن المواصفات المطلوبة لا تنطبق إلا عليه. وأجمعت التعليقات على الخطاب بأنه يصلح جداً لبرنامج الرئاسة، وأنه استغل مناسبة المهرجان لعرض طروحاته، بدءاً بالعلاقات اللبنانية - السورية... مروراً بحل أزمة الديون المتفاقمة... وانتهاء ببناء دولة حديثة عادلة لا تزدهر إلا في عهده! من كل هذه الوقائع يخرج السؤال الكبير: هل يعود العماد ميشال عون إلى قصر الرئاسة، أم أنه سينزل في تاريخ لبنان مثل العميد ريمون اده: مقاتل يربح كل المعارك ويخسر الحرب. يقال إن مشكلة عون في السياسة تشبه مشكلته مع الأهداف العسكرية التي يصوب مدفعه نحوها، فهو متفوق في استخدام المدفعية بسبب تفوقه في الرياضيات، وفي علم الزوايا المثلثة الأبعاد. ويعرف ذلك عنه سكان المنطقة الغربية من بيروت، وأهل بلدة"سوق الغرب"التي تحولت بفضل صموده الى"ستاليننغراد الحرب اللبنانية". لكن تفوقه الاستراتيجي يدفعه إلى اهمال الجانب التكتيكي. وأذكر تصريحه الملفت سنة 1989 بأن الحافز لشن حملته ضد السياسيين كان فشلهم في خلق"حالة لبنانية"يمكن الركون إليها. ذلك أن لبنان في تصوره، كان يعاني من ثلاث حالات تهيمن على وضعه: الحالة السورية والحالة الفلسطينية والحالة الإسرائيلية. وعليه قرر انشاء حالة لبنانية يكون لها الحق في تقرير مصير اللبنانيين. والمؤسف أنه أهمل كل التفاصيل التكتيكية - دولية كانت أم اقليمية - أثناء بناء الحالة اللبنانية التي لا تستكمل إلا بانتخابه رئيساً. ونتج عن اهمال العوامل الدولية والاقليمية أن التقت مصالح"الحالات"الثلاث التي أراد الغاءها - السورية والأميركية والإسرائيلية - وأبعدته عن لبنان. حدث أثناء غياب ميشال عون في فرنسا أن نشأت في لبنان"حالة إيرانية"طغت على كل الحالات الأخرى. وعندما حاول رئيس المجلس النيابي نبيه بري التوسط مع العواصم العربية من أجل تحييد الساحة الداخلية عن صراعات المنطقة، انبرى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية ليحذر من مخاطر خلط السياسة بالانتصارات العسكرية، وكان بهذا التحذير يشير الى حصة إيران من التدخل في الشأنين اللبناني والفلسطيني، مؤكداً أن المنطقة لن تستريح إلا إذا تم نسف المشروع الأميركي عبر لبنان وفلسطين والعراق! أثناء وجوده في لبنان هذا الاسبوع، سأل أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى عن كيفية الخروج من الأزمة الراهنة في لبنان، وما إذا كانت فكرة اجراء انتخابات رئاسية مبكرة تحفز اللبنانيين على استئناف الحوار الوطني وفي رأيه أن الوفاق هو اسلم الطرق لتجنيب لبنان مأزق الأزمات التي عصفت باستقراره سنة 1958 وسنة 1975. وكان الأمين العام باقتراحه هذا يسعى الى تعطيل الألغام المزروعة في طريق الوفاق الوطني، لعل الانشغال في موضوع رئيس الجمهورية يمنع الاختلاف على محاولة اسقاط حكومة السنيورة، أو انسحاب نواب"حزب الله"و"التيار الوطني الحر"من البرلمان، أو استخدام الشارع لمنع تشكيل المحكمة الدولية. كل هذه القضايا الشائكة يصعب ايجاد حل لها عن طريق الاتفاق على رئيس الجمهورية. والسبب أن الاتفاق على الرئيس لا يتقدم مسألة الوفاق الوطني، وإنما يأتي حصيلة لها. وفي ضوء هذه الاعتبارات يمكن القول إن العماد اميل لحود قد يمضي في القصر أكثر مما أعطته فترة التمديد... * كاتب وصحافي لبناني