عندما فشل الرئيس اللبناني أمين الجميل في اقناع الرئيس السوري حافظ الأسد بأهمية تمديد ولايته فترة سنتين... ولما استقال الوزراء المحمديون الثلاثة من الحكومة العسكرية التي تشكلت برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون وعضوية العميدين عصام أبو جمرة وادغار معلوف، حدث انشطار في الحكم بسبب استمرار عمل الحكومة السابقة برئاسة الدكتور سليم الحص. وبما ان مهمة العماد عون كانت مقتصرة على توحيد الموقفين استعداداً لانتخاب رئيس الجمهورية، فقد برز الخلاف حول أولويات البحث في المشاكل العالقة. ذلك ان المعارضة كانت تطالب بضرورة الاتفاق على التعديلات الدستورية تمهيداً للبحث في آلية انتخاب رئيس الجمهورية. في حين أصر العماد عون على حسم موضوع الرئاسة قبل الانتقال الى حلحلة العقد الأخرى. وبسبب هذا الخلاف الذي تعاظم طوال سنة تقريباً، ولدت فكرة مؤتمر الطائف. خلال مرحلة التباحث مع النواب، بدأت تظهر ملامح مشروع العماد عون الذي اختصره ببرمجة انسحاب القوات السورية التي أمضت في لبنان ثلاث عشرة سنة، على ان يؤدي ذلك الى اعادة بناء الوحدة الوطنية المهدمة. وكان من المنطقي ان يواجه هذا المشروع حملة قوية من غالبية النواب الذين اعتبرهم عون غير شرعيين لكونهم يمثلون إرادة سورية لا إرادة لبنانية. ومن أجل توضيح موقفه السياسي المعارض لكل التسويات، رسم العماد خلال تلك الفترة صورة رمزية للحالة الجديدة التي توخى نشرها، فقال:"عندما كنت قائداً للفرقة العسكرية في مرجعيون، علقت في ذاكرتي حادثة طريفة تعبر عن أهمية الدفاع عن سيادة الوطن. كنت أراقب خلال فصل الربيع عصفورة دأبت على جمع القش لبناء عش في أعلى شجرة صنوبر موجودة أمام الثكنة. وفوجئت في صباح أحد الايام بسماع زقزقة حادة كأنها نداء استغاثة، ولما تطلعت الى أعلى رأيت حية ضخمة سوداء اللون تقتحم العش، في حين كانت العصفورة تنقرها بشراسة دفاعاً عن صغارها. عندئذ طلبت من أحد الجنود ان يطلق نار بندقيته على الحية التي سقطت من الشجرة ميتة، الأمر الذي هيأ للعصفورة عودة آمنة الى صغارها. وعندما ينتهي العماد عون من سرد تفاصيل هذه الحادثة، كان يقفز الى رسم مقارنة معبرة عن مقاومته المستميتة ضد أي غريب يحاول اجتياح"العش"اللبناني الذي وصفه بأنه:"اكبر من ان يبلع واصغر من ان يقسم". ولما سئل في حينه عن أهدافه السياسية المرتبطة بمشروع تحرير لبنان، قال ان الساحة الداخلية مليئة بحالات غير لبنانية، كالحالة الايرانية والحالة السورية والحالة الاسرائيلية. لذلك دعا الى ضرورة خلق"حالة لبنانية"تتمثل بمبادئ"التيار الوطني الحر". وفي تقدير أنصاره ان حياة المنفى في فرنسا فتحت عينيه على حقائق السياسة الدولية التي تجاهلها أثناء اعلانه حرب التحرير ضد سورية والهراوي، وحرب الإلغاء ضد الدكتور سمير جعجع و"القوات اللبنانية". وفي تفسيره لدوافع استمرار تصلب العماد عون، يقول الرئيس الياس الهراوي في مذكراته ان"المساعدات العسكرية والمالية التي كان يزوده إياها العراق ساهمت في تصلب مواقفه، لا سيما حين أصبح يستولي عليها كلها من دون شريك اثر اعتراف"القوات اللبنانية"بالطائف". ويقول الهراوي ايضا:"في تلك الفترة عمد عون الى اقفال نفق نهر الكلب، كي يتمكن من تلقي الاسلحة في مرفأ ضبية بعيدا عن أعين عناصر"القوات"التي أراد القضاء عليها لأن انخراطها في الطائف أضعف موقفه". وما لم يقله الهراوي نشرته في حينه الصحف الاميركية مع صور لصواريخ صادرتها البحرية الاسرائيلية في عرض البحر قبالة حيفا. وذكرت تلك الصحف ان صدام حسين ارسل حمولة باخرة من اسلحة مختلفة الى قوات ميشال عون لعله يتمكن من تهديد دمشق اذا هي استمرت في محاصرته. ويصف كريم بقرادوني وضع العماد خلال تلك الأزمة فيقول انه التقاه يوم الثامن من كانون الثاني يناير 1990، فاذا به يشرح له ضغوط التطويق من اربع جهات:"الحصار الاول مسيحي، ويعتمد على النواب وبكركي والقوات اللبنانية. الحصار الثاني لبناني ويرتكز على الهراوي وحكومة الحص والميليشيات المؤيدة لسورية، خصوصاً على الاجراءات الادارية والمالية الهادفة الى تجميد رواتب العسكريين والموظفين الملتحقين به. والحصار الثالث عربي، يقوم على أهل الطائف وعلى سورية التي تستخدم الاتفاق للهيمنة على الوضع اللبناني. والحصار الرابع دولي، تقوده الولاياتالمتحدة التي تمنع موسكووباريس والفاتيكان من التدخل". ويشرح عون لبقرادوني وضعه السياسي مقابل هذه الضغوط فيقول:"الحصار الدولي لا يخيف. الحصار العربي يتعثر. والحصار اللبناني تم اختراقه بواسطة فكرة التحرير والسيادة. اما الحصار الداخلي وهو الأصعب، فإن الشعب سيسقطه". ويخلص بقرادوني بنتيجة من اللقاء مفادها: ان الجنرال خسر حرب التحرير ضد سورية لأنها كانت أقوى منه... وخسر حرب الالغاء ضد سمير جعجع بسبب اعتقاده الخاطئ بأن القوات أضعف منه". وهكذا انتهت تلك الأزمة الطويلة باتفاق الرئيس الهراوي والرئيس حافظ الاسد وواشنطن على مهاجمة ميشال عون لأنه وصل في تمرده الى نقطة خطرة يمكن ان تشعل حرباً اقليمية بين بغدادودمشق. ويعترف عون انه فهم حقيقة التآمر ضده عندما أبصر طائرة سورية تلقي قنبلة بالقرب من القصر الجمهوري، من دون ان يثير هذا العمل احتجاج الاسرة الدولية ما عدا فرنسا. في المنفى الفرنسي قيض للعماد عون مراجعة التقديرات الخاطئة التي قادته الى الابتعاد مدة 14 سنة عن الساحة اللبنانية. وتبين له اهمية الدور الاميركي وحجم الضغوط التي عطلت خطوط اعتماده على الدعم الفرنسي والعراقي. ولكي يتحاشى افخاخ المغامرات السابقة، ركز اهتمامه على رصد الموقف الاميركي بعد بناء علاقات مع رجال الكونغرس اعانته على تلميع صورته في البيت الابيض. ويتردد في واشنطن ان هذه الصورة تبلورت اكثر فأكثر بعدما أيد القرار 1559 وقانون فرض عقوبات على سورية. في هذا السياق لا بد من التساؤل عن الدوافع السياسية التي شجعت على السماح برجوع عون الى لبنان قبل الانتخابات؟ تصور زعماء المعارضة ان عودة ميشال عون قبل ثلاثة اسابيع من موعد الانتخابات، يمكن ان يقوي صفوفها ويرجح كفة مرشحيها بحيث يكون التفوق العددي مضموناً في البرلمان المقبل. ولقد ساهمت الحكومة الفرنسية في اقناع رئيس"اللقاء الديموقراطي"وليد جنبلاط بضرورة الاجتماع بعون واعلان التعاون معه لأن ذلك يوسع حلقة المعارضة الداخلية ضد سورية. ويقول شاهد على لقاء باريس ان الاجتماع بينهما لم يكن ناجحاً بسبب انعدام القواسم المشتركة، خصوصاً ان عون يرجع تاريخ حرب التحرير الى دعوته الاولى سنة 1988. وربما آثر جنبلاط التعاون مع القوات بسبب اعتراف الدكتور جعجع بزعامته، بدلاً من التعاون مع عون القادم من باريس بشعارات ديغولية تريد إلغاء اي زعيم آخر. ويقول المقربون من جنبلاط ان برودة اللقاء جاءت كرد فعل على التحالف الانتخابي بين الأمير طلال ارسلان وعون، وان وليد بك لا يحب الالتزام بخط سياسي يعرف جيداً انه سيتحول عنه. ومن هذه الزاوية الانتخابية يمكن فهم الزيارة التي قام بها وفد"حزب الله"لزعيم"التيار الوطني الحر"لعل الاتفاق بينهما في دائرة بعبدا - عاليه، يصب في مصلحة الطرفين، ولكن من دون التوصل الى تعاون كامل في المستقبل يستدعي الانتقال الى مرحلة يكون فيها"حزب الله"مستعداً لسحب مسلحيه من الجنوب والسماح للجيش النظامي بالانتقال الى الحدود. صحيح ان السيد حسن نصر الله والعماد عون يلتقيان حول قضايا عدة بينها ضرب الاقطاعية السياسية ومكافحة الفساد ومحاربة المال السياسي... ولكن الصحيح ايضاً انهما يختلفان حول بناء الدولة العلمانية وحول موضوع انصراف"حزب الله"للعمل السياسي على ان يترك مهمة تحرير مزارع شبعا للجيش او للديبلوماسية. ويقول عون في هذا الصدد:"نحن نتمنى على"حزب الله"ان ينخرط في الحياة السياسية وان يترك الامر الامني لمسؤولية الدولة. ذلك ان الدفاع عن لبنان ليس حكراً على حزب او فئة. انه مسؤولية الشعب اللبناني ومسؤولية مؤسساته". ومن المؤكد ان هذه الطروحات لن تلقى التجاوب لدى"حزب الله"الذي بدّل مصطلح"المقاومة اللبنانية"ب"المقاومة الاسلامية"بناء على طلب ايران. في خطابه السياسي، لاحظ المراقبون ان موقف عون من سورية، قد تعرض لمراجعة كاملة بعد الانسحاب من لبنان. واعترف انه طالب بالعلاقات المميزة مع سورية ولكن بشرط ان تظل سورية في سورية وان يبقى لبنان في لبنان. واعرب عن استعداده للتوجه الى دمشق للقاء الرئيس بشار الاسد من دون ان يبدل قناعاته التي بسببها عاش في المنفى، اي القناعات المتعلقة بسيادة لبنان وحريته واستقلاله. ورفع درجة التعاطي مع سورية الى حد تصفية الاجواء معها، اضافة الى منع الاختلاف. ويدعم هذا الموقف الايجابي بالنداء الذي وجهه الى الشعب اللبناني يحذره من الاساءة الى اي مواطن سوري في لبنان. وهو يفاخر بأنه لم يهاجم اطلاقاً الشعب السوري وانما حصر مهاجمته في السابق بالنظام. بعد انقضاء اقل من اسبوع على وصول العماد عون الى لبنان، اعلن نائب رئيس الحكومة السابق النائب عصام فارس عزوفه عن خوض الانتخابات بسبب قانون سنة 2000. ومع ان الرئيس اميل لحود تدخل لثنيه عن موقفه المعارض للقانون، الا ان موجة الاعتراض شملت النائب سليمان فرنجية وعدداً كبيراً من النواب الذين شعروا بأن قانون الرئيس نبيه بري يهدد مستقبلهم السياسي. كما حذر المطارنة الموارنة من خطر الالتفاف على"الطائف"الذي يعطي المسيحيين 64 نائباً، في حين يتحكم الفريق الآخر بمصير 49 نائباً في محافظات مختلفة. ومعنى هذا ان كل التشريعات المتعلقة بتفكيك النفوذ السوري في لبنان لن يكتب لها النجاح لأن غالبية نواب الموالاة ستعطل اي قرار لا يخدم وحدة المسارين والمصيرين. وبما ان تحذير المطارنة من العواقب الوخيمة، قد ترجم بأنه انذار بالمقاطعة، فإن العماد عون قد يجد نفسه مرة اخرى غارقاً في دوامة ازمة جديدة اخطر بكثير من الازمة التي خاضها سنة 1988. * كاتب وصحافي لبناني.