"ما دُمت قادرة على الإنجاب سأُنجب"، هكذا تحدّثت مريم 41 سنة وأُمّ لإثني عشر ولداً وهي تُهدهد صغيرها ويدها الأخرى على بطنها المنتفخ. تعيش العائلة في غرفة صغيرة تتحول من غرفة ضيوف نهاراً إلى غرفة نوم للجميع مساءً، فتصبح كعلبة سردين. تعرضت الأُمّ للنزيف مراراً إلا أنها لم تعرف عيادة الطبيب النسائي إلا أثناء ولاداتها الأربع الأخيرة."في الولادات الأولى، تلقيت بعض الأدوية من"الداية"القابلة القانونية والباقي عالطبيعة... الحمد لله". أمثلة حيّة من وادي خالد وباب التبانة مثل مريم القاطنة في قرية العماير، في وادي خالد شمال لبنان، كمثل العديد من النساء في تلك القرية اللواتي اعتمدن"على الطبيعة"كمصدر للعناية بصحتهن الإنجابية، متجاهلات أو حتى غير مقتنعات بضرورة إجراء الفحوص اللازمة للولادة. ويستمر هذا الواقع على رغم وجود مركز صحي تابع لوزارة الصحة يعنى بالصحة الإنجابية ضمن إطار المشروع الوطني للرعاية الصحية الأولية. ولكن سجلات هذا المركز، تشهد على انجاب النساء أكثر من سبعة أولاد على رغم فقرهن الذي كثيراً ما وقف حاجزاً بينهن وبين تلقي العلاج المناسب. ومثلاً، تُعاني أمّ عامر، من قرية"أرجيم حسين"في المنطقة نفسها، من ارتفاع في ضغط الدم، وهي أم لأحد عشر ولداً وتنتظر مولودها الجديد، ما يعني أن الخطر يحيق بحياتها وحياة جنينها. ويُرجع زوجها عدم زيارتها المركز لعدم قدرته على دفع التكاليف، قائلاً" طول عمرها تخَلّف وما يهمها شي، ليش هلق صار بدها حكيم"؟ وفي المقابل، أنذر الزوج المركز بعدم التدخل في شؤونه، وكان له ما أراد، فلم يتدخل المركز في"شؤونه". وبقيت"أم عامر"مثابرة على الإنجاب عشوائياً، ومن دون رعاية كافية بصحة الأم، التي تقول انها تنتظر"رحمة الله". وفي هذا الصدد، تقول الدكتورة حلا نوفل، أستاذة علم السكان في الجامعة اللبنانية والتي تعمل أيضاً مستشارة لدى منظمات دولية للأمم المتحدة، إنه" لا يزال مفهوم المركز الصحي في لبنان يقتصر على فكرة وجوده. ويعتقد كثيرون بأن الذي يحتاج المركز يقصده بنفسه، فالحال أن مفهوم الوقاية يأتي في المرتبة الثانية ما بعد العلاج". من جهة أخرى، يتفاخر أهل قرى وادي خالد بعدم تسجيل حالات وفاة لدى الأمهات وأجنتهن، وكذلك بعدم تفشي الأمراض المتناقلة جنسياً بينهم، إذ لم يُسجّل المركز الصحي سوى حالات نادرة منها. وإن كان ذلك صحيحاً فهل يعود الامر إلى بنية أهل الأرياف القوية طبيعياً؟ أم إلى خدمات المركز الصحي؟ وهل تقدّم لبنان فعلياً في موضوع الرعاية الصحية؟ تختلف صورة الصحة الإنجابية قليلاً في مدينة طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني. فإن لعب الفقر دوراً سلبياً في قرى وادي خالد، إلا أنه يقف سبباً مباشراً وراء اكتفاء الجيل الجديد من النساء والرجال في منطقة باب التبانة الواقعة في قلب تلك المدينة، بعدد قليل نسبياً من الاولاد. وتميل الأُسر راهناً الى إنجاب 4 أولاد في المتوسط، بينما انجبت أُسر الأجيال السابقة أعداداً أكثر بكثير. وما زال العامل الاقتصادي مؤثراً في مدى استعمال الخدمات الطبية المتعلقة برعاية المرأة اثناء الحمل، مثل الفحوص المخبرية والتصوير الصوتي للجنين والفحص السريري للأُم وغيرها. إذا كان الفقر مؤنثاً بجدارة في مناطق الشمال، فلمناطق الهرمل النائية، في البقاع، قسط واسع منه لا سيما في ظل غياب مراكز الرعاية الصحية. وأنت تدخل منزل أبو ركين المُكَوَّن من غرفتين تعلو إحداهما الأخرى: السفلى لأم ركين 50 سنة والعليا لضرّتها أم محمد 47 سنة. ويضم المنزل حشداً دائماً مؤلفاً من 24 ولاً يعيشون تحت سقفه. رب الأُسرة متوفى، وتجد الوالدتان صعوبة في التمييز بين الأولاد، وكم يصعب الأمر عندما يقرر الأحفاد زيارة منزل الجدة."الحمدالله نحن بألف خير لا أدوية ولا أطباء. لم أستعمل وسائل منع حمل وكِلّو عالبركة... راح البيّ وبطل فينا نحبل، يا حسرة". هكذا تتحدث أم ركين مبتسمة وفخورة بپ"إنتاجها"البشري. وتشاركها أم محمد في الشكوى من ألآم في الظهر بسبب الحمل المتكرر. وتتمنى أم محمد لو أن أبا ركين ما زال حياً كي تتمكن من إنجاب أولاد أكثر و"تسبق أم ركين"، خصوصاً وأن أبا ركين منع نساءه من استخدام وسائل تنظيم النسل، انسجاماً مع ثقافته وقناعاته. وتتكاثر قصص النساء في قرى الهرمل الأكثر فقراً مثل الحوش والفيسان وسهلات الماء والزكبة وغيرها. انهن نساء تآلفن مع فقرهن فغدون مدافعات بطريقة ضمنية عنه كشريك عنيد اعتدن عليه في حياتهن. وتبرر بعضهن ذلك الوضع بالقول:"نعتمد على الطبيعة ونأكل الغذاء الطبيعي الصحي، ما زاد من مناعتنا وقدرتنا على التمتع بصحة جيدة والخضوع لولادات طبيعية". وتعيش فاطمة جعفر في قرية فيسان، وهي أمّ لسبعة عشر ولداً اختصرت طريق العيادات وتشخيص الحالات والتحليل وعبء الدفع، واتخذت لنفسها ولعائلتها أقراص"البنادول Panadol"علاجاً وحيداً لجميع الحالات والأوجاع! على رغم الحملات الصحية الواسعة التي تنهض بها وزارتا الصحة والشؤون الإجتماعية، إضافة إلى جمعيات أهلية ساعية الى تغطية المناطق اللبنانية كافة من ناحية الخدمات والتوعية الصحية، يلفت النظر اعتماد النساء على مستوصفات ومراكز رعاية سورية، قرب الحدود اللبنانية نظراً الى انخفاض كلفة الأدوية ووسائل تنظيم النسل. وبسبب سوء أوضاع أسرهن الإجتماعية وكثرة انشغالهن في الحقول والمنزل ولقمة عيش الأولاد، لا يجدن وقتاً للتفكير في أوضاعهن الخاصة بما فيها صحتهن الإنجابية. ويألفن إخفاء آلامهن. وتُستنزف قوتهن الجسدية حتى آخر قطرة منها. ويحرصن على الظهور بمظهر الصحة وقوتها. وتحذّر نوفل من خطورة علاقة صحة المرأة بصحة أسرتها:"هذه الأمومة السامية بمعناها العاطفي تلعب دوراً سلبياً وخطراً على الأسرة، إذ يغيب عن ذهن الأم في هذه الحال أن صحتها هي جزء من صحة الأسرة ككل وأنها تؤثر سلباً وإيجاباً فيها". وتُضيف :"لابد من التنبه إلى أهمية الامر، لاسيما أن هذه الأمومة"المتفانية"خطأً قد تتوارث عبر الأجيال وتنتقل من الأم إلى ابنتها التي بدورها ستهمل صحتها وتؤثر بالتالي في صحة أسرتها". دور الدولة والمجتمع الأهلي من غير المنصف التحدث عن الصحة الإنجابية في لبنان من دون التطرق إلى الجهود التي تبذل لتعزيزها، فقد تعددت الجهات التي تنشط في هذا الإطار. وأُعطيت دفعة قوية تلك الجهود في "المؤتمر الدولي للسكان والتنمية"الذي عقد في القاهرة عام 1994، وتبنى تعريفاً عن الصحة الإنجابية يصفها بأنها"حال رفاه كامل بدنياً وعقلياً واجتماعيا في جميع الأمور المتعلقة بالجهاز التناسلي ووظائفه وعملياته. وأنها تهيئ للزوجين أفضل الفرص لإنجاب وليد متمتع بالصحة، رامية إلى تحسين نوعية الحياة والعلاقات الشخصية لا مجرد تقديم المشورة والرعاية الطبية". وفي هذا السياق، عملت وزارة الصحة بالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية، وبدعم من"منظمة الصحة العالمية"، على إطلاق"البرنامج الوطني للصحة الإنجابية"الذي نفّذ برنامجاً امتدت مرحلته الأولى بين عاميّ 1997و2001 . وشهدت تلك المرحلة تعاوناً من المؤسسات الصحية الأهلية. وينفّذ البرنامج عينه راهناً المرحلة الثانية، التي تمتد بين عاميّ 2002و2006 من خلال الوزارتين نفسهما، مع العمل على توسيع نطاق المشاركة لتشمل وزارتي التربية والتعليم العالي والشباب والرياضة على المستوى الوطني، ومنظمة"يونيسيف"على الصعيد الدولي. ونفذت خلال عام 2004، ومن خلال"منظمة الصحة العالمية"، دراسة1 لتقويم ما تحقّق خلال عشرة أعوام من وضع الإستراتيجية الوطنية للرعاية الصحية الأولية. وأفضت النتائج الى وضع إستراتيجية عمل للأعوام الخمس المقبلة. وبيّنت دراسة ارتفاع النسبة الإجمالية للإناث المستفيدات من تلك الإستراتيجية من 118602 مستفيدة عام 2001 الى 281569 عام 2004. نتائج متقدمة وواقع مخالف ربما أمكن القول إن لبنان تقدّم في شكل ملحوظ خلال السنوات الماضية في مجال الصحة الإنجابية. ومن الأمثلة على ذلك التقدّم، ان نسبة الرعاية والإهتمام بالمرأة تزيد على 70 في المئة، ما يعني أن برنامج الرعاية الصحية الأولية كان ناجحاً على مختلف المستويات المتعلقة بموضوع الصحة الإنجابية. ويظهر هذا الوضع أيضاًًًً أهمية الدور الذي تلعبه المجتمعات الأهلية في لبنان في استقطاب النساء ومتابعتهن من أجل صحة أسرية أفضل، وذلك عبر طرق مختلفة. ويبرز في هذا السياق، الدور المهم الذي تلعبه العاملات الميدانيات اللواتي يصلن إلى شريحة كبيرة من النساء، ما ساعد تلك الجمعيات على الاقتراب من الصورة الواقعية للأمور. وبهدف تشجيع المرأة الحامل على متابعة الفحوص الضرورية للحمل ، أمّنت وزارة الصحة الولادات المجانية في المستشفيات للنساء اللواتي يقصدن المراكز التي تشرف عليها، ويتابعن حملهن وصحتهن الإنجابية. في المقابل عكست أوضاع النساء في حي باب التبانة الطرابلسي ومنطقة الهرمل الريفية النائية، واقعاً مغايراً لما جاءت به الدراسة. وتبيّن ان نساء هذه المناطق الفقيرة لم يحصلن يوماً على الرعاية والخدمات الصحية المتعلقة بالصحة الإنجابية. ويعني ذلك أن مشروع وزارتي الصحة والشؤون الإجتماعية لم يغطِّ المناطق اللبنانية كافة، ما يفتح الباب للسؤال عن مدى دقة نتائج الدراسات، وخصوصاً المسح الوطني عن الصحة الإنجابية للمرأة في لبنان. ويدعو الأمر الى التساؤل أيضاً عن اقتصار المسح على مناطق قدمت فيها الرعاية، أو انه تغاضى عن المناطق التي تعيش تحت خط الفقر والتي يبدو أنها في تزايد؟ وتعتبر نوفل أنه"في مجال الصحة الإنجابية حصل تقدم على صعيد النساء القادرات مادياً، والمثقفات، إنما ما زالت الفجوة واسعة بالنسبة الى الفئات الفقيرة المهمشة.". وأخيراً، لا بد من التنبّه إلى أساليب العمل بين المراكز التابعة للوزارات وبين المراكز التابعة للجمعيات الأهلية، ومدى توافر الإمكانات والكفاءات، وإن لم تكن جميعها على المستوى نفسه. كما يلفت ان"استراتجية الصحة الإنجابية"، وبعد تشكيل"اللجنة الوطنية لتسيير وتنسيق برنامج الصحة الإنجابية"في آب 1999، باتت تتميّز بالميل الى توفير خدمات ذات نوعية عالية ومستدامة في المناطق كافة ولكل الفئات المستهدفة لا سيما في المناطق المحرومة، وقد وقّعت عقوداً جديدة مع جمعيات أهلية ، ضمت 30 مركزاً جديداً إلى برنامج الصحة الأولية. فهل تشمل الخدمات هذه المرة، فقراء باب التبانة وقرى الهرمل، فتتعرف أم علي وأم ركين الى أبسط حقوقهن النسائية؟