يشهد لبنان اليوم سجالا حادا حول مسألة النزاع مع اسرائيل، ولهذا السجال انعكاسات قوية على الاوضاع اللبنانية العامة: على هوية لبنان الوطنية، على امنه واستقراره، على اولوياته الاقتصادية وعلى نمط العيش فيه. وبدلا من ان يفضي هذا السجال الى نمو في الوعي الوطني العام، والى فهم اوفر للخيارات التي يملكها اللبنانيون في موقفهم من هذه المسألة، فان السجالات التي يشهدونها تسير في منحى آخر معطل لهذا التطور المرغوب والمطلوب. انها تشوش الرؤية الوطنية اللبنانية وتضيع على اللبنانيين فرصة تحديد استراتيجية واضحة المعالم والاهداف والوسائل في هذا المجال الوعر. ومن الاخطاء الرئيسية التي ترتكب في خضم الانتقادات الساخنة المتبادلة بين الاطراف اللبنانية، والحملات الشخصية والاتهامات القاسية، الخلط غير المقبول بين تقييم الحرب اللبنانية - الاسرائيلية الاخيرة من جهة، وبين المراجعة الشاملة للنزاع اللبناني - الاسرائيلي من جهة اخرى. هناك علاقة اكيدة وبديهية بين الحرب الاخيرة والنزاع التاريخي. فهم هذه العلاقة أمر ضروري لتقييم الحرب ومراجعة النزاع، ولكن الخلط بينهما غير مجد بل انه مضر بالمصلحة الوطنية اللبنانية. فالحرب اللبنانية - الاسرائيلية الاخيرة هي فصل مهم من فصول الصراع، وهي محطة رئيسية من محطاته وستؤثر عليه من دون ريب فتعزز ثقة اللبنانيين بأنفسهم وبقدرتهم على حماية استقلالهم، ولكنها على اهميتها، لا تختزل النزاع الاسرائيلي - اللبناني. فهذه الحرب ارتبطت بأسباب محددة. وسواء كانت هذه الاسباب لبنانية كما يؤكد فريق من اللبنانيين، ام اقليمية كما يقول فريق آخر، فإنها اسباب مرهونة بالاوضاع الحالية مثل قضايا الأسرى اللبنانيين ومزارع شبعا والالغام والانتهاكات الاسرائيلية في لبنان. الضغوط السياسية والعسكرية التي تمارس حالياً قد تؤدي الى ايجاد حلول لهذه القضايا او لبعضها على الاقل. اما النزاع اللبناني - الاسرائيلي فهو متعدد الفصول والجوانب وقديم العهد، وليس هناك أي دليل او مؤشر على انه سيتوقف في المستقبل القريب. من اجل مراجعة الموقف تجاه هذا النزاع وبلورة استراتيجية ملائمة على هذا الصعيد، فليس من الجائز المرور العابر بالموقف الاسرائيلي من لبنان ومن العالم المحيط بها، ولا تناسي خبرات لبنانية فكرية وسياسية، وتجارب عملية وتاريخية ساهمت في توضيح هذا الموقف. كثيرون هم المفكرون اللبنانيون الذين بذلوا جهدا لفهم الموقف الاسرائيلي والصهيوني من لبنان. البعض منهم حاول التوصل الى هذا الفهم من خلال منظور قومي عربي او أممي. البعض الآخر توصل الى هذا الفهم من خلال منظور وطني لبناني. ولكن في اكثر الحالات كانت الرؤية متشابهة يلخصها ما جاء في كتابات بعض المفكرين الوطنيين اللبنانيين من امثال شارل مالك وميشال شيحا. فشارل مالك وصف الحركة الصهيونية، عندما كان وزيراً مفوضاً للبنان في الولاياتالمتحدة عام 1949، بأنها"... بطبيعة حالها، حركة ديناميكية وتوسعية". واضاف مالك في تقريره ان فلسطين لن"تكفي حاجات الاسرائيليين ولن تشبع نهم قادتهم"، واعتبر ان استيطان اليهود في فلسطين لا يشكل انتزاعا لفلسطين من ايدي اهلها العرب فحسب،"بل هو ايضا تهديد مستمر يقوم ما دام الاستيطان نفسه قائماً للعالم العربي بأسره"، وانه اذا بسطت الصهيونية سلطانها على البلاد العربية،"فمن الوهم ان يظن اللبنانيون ان هذا السلطان لن يشملهم". وتوصل المفكر ورجل الاعمال اللبناني ميشال شيحا الى استنتاجات مشابهة اذ حذر اللبنانيين من اسرائيل"مشتل العنصرية في صميمها"وان مجاورتها ستشكل"خطراً لا يستهان به...". وتوقع شيحا ان تسعى اسرائيل الى ممارسة سيطرة اقتصادية ومن ثم شاملة على لبنان، مما"يشد الخناق عليه ويحد من وسائل عيشه". ونبه شيحا الى ان"الجارة الجديدة"ستطالع اللبنانيين"... بالأخطار على صنوفها"وانها مهما فعلوا لن تترك لهم المجال كي يرتاحوا. وما يؤكده ويتوقعه اهل الفكر من اللبنانيين، تؤكده ايضا الوقائع التاريخية. ولعل المجال الادق لاختبار هذه التقييمات والتوقعات هو الموقف الاسرائيلي تجاه ثروة طبيعية رئيسية يملكها لبنان الا وهي المياه. هذا الموقف معروف لدى الكثيرين، ولكنه لا يحظى بالاهتمام المناسب. ففي السجالات الحامية التي رافقت وتلت الحرب أُهمل هذا العامل. وحتى عندما جرى التطرق اليه، فقد تم ذلك بصورة عارضة وعلى نحو جعله يبدو وكأنه مساو للاسباب الاخرى التي ادت الى الحرب. والحقيقة ان موضوع المياه يختلف عن الاسباب المباشرة للحرب من نواح متعددة منها ما يلي: 1- ان ستاراً من الاهمال اللبناني والتعتيم الاسرائيلي يلف موضوع المياه فلا يعطيه حقه من الاهتمام. فعندما سعى لبنان الى الاستفادة من مياه نهر الوزاني عام 2002، وارسل ارييل شارون انذارا الى اللبنانيين مفاده ان حكومته لن تسمح بتنفيذ المشروع وانها تعتبر عمل لبنان بمثابة"اعلان حرب"على اسرائيل، سارع ناطق بلسان وزارة الخارجية الاسرائيلية الى التأكيد أن"هناك قراراً على اعلى المستويات بعدم قصف المضخات التي ركبتها السلطات اللبنانية لاستثمار المزيد من مياه الوزاني"، ثم اردف قائلاً:"اننا لا نطمع في بوصة من الاراضي اللبنانية. اننا لا نطمع بغالون من المياه اللبنانية". ولكن خلال الحرب ثبت بطلان هذه التأكيدات اذ قامت الطائرات الاسرائيلية بضرب تلك المضخات وغيرها من المنشآت والترع والاقنية التي اقامها اللبنانيون قرب الساحل وسد القرعون في البقاع للاستفادة من مياه الوزاني والليطاني. وخلال الحرب ايضا مدت اسرائيل قساطل لجر مياه الوزاني الى بلدة الغجر الحدودية. وكان مفروضاً الربط بين هذه الاعتداءات والانتهاكات وتسليط الانظار على مسألة المياه خلال الحرب وبعدها. 2- ان موقف اسرائيل من مسألة المياه اللبنانية اكثر وضوحا من اي موضوع آخر لجهة مخالفته للقوانين الدولية. فالقانون الدولي يضع ضوابط عديدة تتناقض كلها مع الموقف الاسرائيلي، فهو ينص مثلا، كما يقول باحثون عديدون مثل ه. ايمري وانجيلا موس، على انه لا يجوز تحويل المياه بعيدا عن حوض المجرى المائي الا اذا استفادت هذه المنطقة استفادة كاملة منها. والحقيقة هي ان لبنان لم يستفد استفادة كاملة من مياهه. وهو كما يقول ايمري وعاطف قبرصي يحتاج الى هذه المياه خاصة اذا توسعت قطاعاته الانتاجية وتحسن مستوى المعيشة فيه مما يتطلب ارتفاعا في مستوى استهلاكه للمياه. هذا يعني ان المشاريع التي تعدها اسرائيل والتي تسعى الى تنفيذها من اجل الاستحواذ على مياه لبنان او على"مشاركة"اللبنانيين في مياههم ستصطدم بوضوح بالقانون الدولي وبالشرعية الدولية. ويجدر بالذكر ان الاسرائيليين يسعون الى الايحاء بان اللبنانيين لا يحسنون، لنقص في معدنهم البشري، استخدام مواردهم من المياه، وانه تأسيسا على ذلك يكون من حق اسرائيل، عندما يحين الوقت المناسب، ايقاف هذا الهدر للمياه اللبنانية الضائعة على ان يقبل لبنان، لقاء هذه"الخدمة"الاسرائيلية مبدأ اقتسام المياه مع الاسرائيليين. ولكن هذا المنطق هش وقابل للدحض. فمن المعروف ان محاولات لبنان تنفيذ بعض المشاريع للاستفادة من مياه الليطاني اصطدمت بضغوط وعراقيل وتهديدات مورست على لبنان وعلى الشركات والدول التي حاولت مساعدته على تنفيذ هذه المشاريع، كما جاء في تقارير عديدة نشرتها صحف اجنبية مثل"كريستيان ساينس مونيتور"21/10/2002. 3- ان درجة استعداد الاسرائيليين للمساومة على قضايا النزاع الاخرى هي اكبر من استعدادهم للمساومة على المشاريع التي يعدونها ل"اقتسام"مياه لبنان مع اللبنانيين. فالرغبة في الاستحواذ على هذه المياه تسبق قيام الكيان الاسرائيلي وهي مستمرة اليوم. فرغم خروج القوات الاسرائيلية من الاراضي اللبنانية الا انها سعت الى البقاء اطول مدة ممكنة في بلدة الغجر لاهميتها في عملية جر مياه الوزاني الى اسرائيل. وستتفاقم الرغبة الاسرائيلية في مقاسمة لبنان على مياهه مستقبلاً مع تفاقم ازمة المياه في المنطقة. ومن المفارقات التي ينبغي ان نعيها وان نعد لها، هو انه اذا ما نجحت مساعي التسوية بين اسرائيل من جهة، وفلسطين وسورية من جهة اخرى، فإنها ستضطر الى التخلي عن استغلال قسم كبير من مياه الضفة الغربية والجولان. وهذا يعني ان حاجتها الى مياه لبنان والضغوط التي تمارسها على اللبنانيين للاستحواذ على ثروتهم في المياه سوف تزداد. هذا لا يعني بالطبع ان على اللبنانيين ان يقفوا ضد اخراج اسرائيل من الاراضي الفلسطينية والسورية. انه يعني ان المصلحة الوطنية اللبنانية تقتضي التنسيق مع السوريين والفلسطينيين من أجل حماية الثروات الطبيعية في البلدان الثلاثة من المشاريع الاسرائيلية. ان الموقف الاسرائيلي من مسألة مياه لبنان هو تعبير عن نظرة اعم واشمل الى المنطقة والى دور اسرائيل فيها ونمط علاقتها مع دولها. فنظرة اسرائيل الى دول المنطقة تنتمي الى عالم يسبق قيام نظام وستفاليا الذي اقر سيادة الدول على اراضيها وعلى ثرواتها ومواردها الطبيعية. واذ يسعى المجتمع الدولي الى ارساء العلاقات بين دوله على اساس القوانين والشرعية الدولية، فإن الاسرائيليين يتصرفون على اساس انه من واجب الآخرين، نظرا لخصوصية الحالة الاسرائيلية، ان يكيفوا مصالحهم وحقوقهم وانماط عيشهم وسياساتهم وهوياتهم وقيمهم على نحو يستجيب لحاجات اسرائيل ولضرورات الامن والاستقرار والازدهار الاسرائيلية. هنا مربط الفرس في النزاع اللبناني - الاسرائيلي. اذا قبل اللبنانيون بهذا النهج وبالعقيدة التي يقوم عليها، انتفت مبررات هذا النزاع. واذا لم يقبل اللبنانيون بهذا النهج وبتلك العقيدة، وتمسكوا بالمياه او بغيرها من الحقوق والثروات الطبيعية، فإن"استفزازاتهم"لاسرائيل لن تتوقف ومعها اسباب الصراع والنزاع والحروب. * كاتب لبناني