فيما يدق نفير الحرب بايقاع متصاعد في الولاياتالمتحدة، استعداداً لتوجيه ضربة عسكرية للعراق بدعوى رفضه قبول فرق التفتيش الاممية، تتعاطى واشنطن بمرونة واعتدال لافتين مع كوريا الشمالية التي ما انفك الرؤساء الاميركيون منذ عهد بوش الاب يذكرونها بوجوب السماح لخبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش منشآتها واحترام معاهدة منع انتشار الاسلحة النووية. وعلى رغم تصنيف الرئيس بوش كوريا الشمالية في "محور الشر" لم يجد غضاضة في ارسال مندوب اميركي الى بيونغ يانغ لحضور حفلة وضع حجر الاساس لمفاعلين نوويين يتوقع استكمال بنائهما في السنة الفين وخمسة. وهو لم يسمح فقط باقامة المشروع النووي الكوري الشمالي وانما احترم تعهدات الادارة السابقة بالمساعدة على تنفيذه من خلال تجمع يضم ثلاثة من حلفاء الولاياتالمتحدة الكبار تحت قيادة اميركا نفسها وهو ما يعرف ب"كوريان بينيسولا اينرجي ديفلبمنت اورغنايزيشن"، الذي يشمل الاتحاد الاوروبي واليابان وكوريا الجنوبية غريمة النظام الشيوعي في الشطر الشمالي. هل يمكن ان يتخيل المرء لحظة واحدة مندوبا اميركيا يهلل لتدفق الاسمنت في اساسات مبنى مفاعل نووي في احد البلدان العربية حتى وان كان البلد صديقا للولايات المتحدة، اسوة بما فعله "مستر" جاك بريتشارد الذي حضر اخيراً الى كوريا الشمالية؟ ما حصل مع العرب هو ضغوط قاسية وتهديدات ومساومات لالغاء برامج نووية ذات اهداف سلمية لعل اخطرها ما جرى لمفاعل "السلام" الجزائري الذي اضطر الحكومة لوقفه ثم الغائه تماماً، على رغم الاستعداد الذي ابدته لفتحه امام فرق التفتيش الدولية في اي لحظة. وقبل ذلك اقامت ادارة الرئيس رونالد ريغان الدنيا ولم تقعدها بسبب مصنع الادوية في مدينة "الزاوية" الليبية زاعمة انه مصنع للاسلحة الكيماوية والجرثومية، قبل ان ينفي المفتشون الذين زاروه تلك المزاعم. وآخر الحملات التي شنتها واشنطن تركزت على مستودعات "التاجي" لتجميع المواد الغذائية في ضواحي بغداد والذي بدا على الشاشات الاميركية مصنعاً لاسلحة الدمار الشامل لمجرد انها رصدت حركة كثيفة للشاحنات في محيط المستودعات! ولم يسلم الايرانيون من يقظة العين الاميركية الساهرة فضغوط واشنطن على روسيا لم تتوقف لحملها على تجميد برامج التعاون النووي مع طهران. وطبعاً تفاقم التوجس الاميركي من العرب والايرانيين بعد الحادي عشر من ايلول سبتمبر الماضي. اكثر من ذلك بات الطلاب العرب والمسلمون ضحية لمعاملة تمييزية مكشوفة في الجامعات الاميركية والاوروبية لابعادهم من الشعب العلمية ذات العلاقة بعلوم الذرة والفضاء والفيزياء النووية... فما معنى ان يسمح للطلاب المتحدرين من بلدان نامية غير عربية وغير اسلامية بمزاولة الدراسة في تلك الشعب فيما توصد بواباتها في وجه جنسيات محددة؟ وما دلالات الاتفاق الذي توصلت له واشنطن وبيونغ منذ سنوات خلت، والذي باشر بموجبه الكونسورسيوم الغربي اقامة المفاعلين في كوريا الشمالية، فيما يمنع العرب باقصى الفظاظة والحزم من تطوير مصادر الطاقة النووية؟ وما معنى ان تصر بيونغ يانغ على رفض تفتيش منشآتها النووية الى اليوم ومع ذلك تتلقى المساعدة لاقامة مفاعليها الجديدين؟ معنى ذلك ان العالم مقسم الى ثلاث مراتب في المنظور الاميركي فهناك الغرب شاملاً اليابان الذي يجوز له كل ما لا يجوز لغيره، وهناك غالبية العالم النامي شاملة الصين التي يجوز لها بعض ما يجوز للغرب بما في ذلك اقامة المفاعلات النووية، وهناك اخيراً العرب والمسلمون الذين لا يجوز لهم شيء الا بإذن من "اصحاب الشأن"! ليس اخضاع العالم لنظام المكاييل الثلاثة امراً جديداً على الادارات الاميركية التي كثيراً ما غضت الطرف عن برامج ومشاريع في بلدان نامية لم تتسامح مع البلدان العربية او ايران في مثيلتها او حتى اقل منها، لكن احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر رفعت النقاب عن النظام الثلاثي الذي جعلته ادارة الرئيس بوش بوصلتها الوحيدة. وربما جاز اعتبار الهوس الجنوني بضرب العراق دليلاً على وجود مكيال رابع خاص ببلد واحد من دون العالم بأسره!