"خيرية العوامية" تحقق عوائد استثمارية تجاوزت 577 ألف ريال خلال 3 أشهر    مشاركة عربية قياسية محتملة في أمم أفريقيا 2025 وغياب غانا والرأس الأخضر أبرز المفاجآت    شراكة إعلامية سعودية صينية تطلق برامج تنفيذية مع القطاعين العام والخاص    الهيئة العامة لمجلس الشورى تعقد اجتماعها الرابع من أعمال السنة الأولى للدورة التاسعة    تدشين 3 عيادات تخصصية جديدة في مستشفى إرادة والصحة النفسية بالقصيم    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    مقتل المسؤول الإعلامي في حزب الله اللبناني محمد عفيف في قصف إسرائيلي على بيروت    رئيس مجلس الشورى يرأس وفد السعودية في الاجتماع البرلماني بدورته ال 29 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في باكو    انتظام اكثر من 389 ألف طالب وطالبة في مدراس تعليم جازان    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يصل إلى البرازيل لترؤس وفد السعودية المشارك في قمة دول مجموعة ال20    "سعود الطبية" تستقبل 750 طفلاً خديجًا خلال 2024م    فريق طبي ينجح في استخدام التقنيات الحديثة للتحكم بمستوى السكر في الدم    "وزارة السياحة": نسبة إشغال الفنادق في الرياض تجاوزت 95%    نمو سجلات الشركات 68% خلال 20 شهراً منذ سريان نظام الشركات الجديد    "دار وإعمار" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب جلوبال" بتوقيعها اتفاقياتٍ تمويليةٍ وسط إقبالٍ واسعٍ على جناحها    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    أهم باب للسعادة والتوفيق    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    تجاوز الدحيل القطري.. الخليج ينفرد بصدارة الثانية في «آسيوية اليد»    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    مشاركة مميزة في "سيتي سكيب".. "المربع الجديد".. تحقيق الجودة ومفهوم "المدن الذكية"    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    «الجودة» في عصر التقنيات المتقدمة !    ألوان الأرصفة ودلالاتها    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيروت الثمانينات أو عيش الأقلية : تذكر اول . عيش الاجتياح الاسرائيلي بين البربير والمتحف والشرقية والمخيمات
نشر في الحياة يوم 30 - 06 - 1999

حين تقدم الاسرائيليون من بيروت، بدوت حائراً في أمري. هل يعقل أن اكون على هذه الحيرة فيما اسرائيل، اسرائيل اياها، هنا في خلدة التي لا تبعد الا كيلومترات قليلة عني في المصيطبة؟ فكلمة اسرائيل هي التي كأني تعلمتها مع النطق، فبدوت حيالها كالأجانب اذ لا يجيدون من لغة غريبة الا شتائمها. فكيف تنتابني الحيرة حين تأتي غازية الى عقر الدار؟
لم ينشأ حالي هذا عن استيلاء الخوف عليّ. كنت خائفاً بالطبع، لا سيما وأن الأصوات التي رحت أسمعها، ممزوجة بطلعات الطائرات وقصفها، كانت من النوع الذي لم أعهده في السابق.
وكنت، في هذا، مثل قلة أعرفها وكثيرين لا أعرفهم. فأنا لا زلت أذكر امتقاع وجه حسن حين وقف نبيل على الكرسي، ونبيل طويل القامة، ورفع يده بأعلى ما استطاع. لقد أراد أن يصوّر، بتأشير اليد، حجم القذائف الصاروخية التي زعم أنه رآها مع الاسرائيليين في الجنوب، وكيف أنهم مدججين بها يتقدمون صوبنا. كما راح يطلق من فمه أصواتاً أراد لها أن ترمز الى هدير الأسلحة الاسرائيلية، مقسماً بالله وبالقرآن وبأمه واخواته على أنه لا يقول إلا الصدق. وللتو ألح حسن على ضرورة مغادرة بيروت، وراح يشدّ زوجته ندى من يدها كأنه يباشر من تلك اللحظة الهرب. إلا أننا جميعاً هدّأنا جموحه اذ نبهناه الى أنه قد لا يستطيع، هذه المرة، التوجه جنوباً على عادته ابان اشتباكات العاصمة. فالخطر وافد من هناك، من الجنوب، لا من مكاتب الأحزاب المحلية في بيروت.
كان الخوف رفيقنا من غير شك، وفي الخوف هذا كنت عضواً في طائفة صغيرة تتصرف كالأقليات المذعورة ابان عصف التحولات. لكن شعوراً لم يقل كثافةً عن الخوف كمُن وراء حيادنا البارد والأسود الذي رآه كثيرون أصفر. فعلى امتداد سنوات خلت أحس البيروتيون والمقيمون في بيروت أنهم غير معنيين، وأن أحداً لا يسألهم في شأن حياتهم والعفن الضارب مدينتهم. كان عيشهم قد تكرّس، على هذا النحو، في أعين معظمهم فضلاً عن العالم الخارجي. فالبلد ساحة والعاصمة مكان استراتيجي كما كان يقال، وأنّى للبشر أن يحشروا أنوفهم في ما تقرره الدول؟ ووجد توتر بعضنا ما يوجزه في كتابات ومقالات احتجاج، وفي بيانات قليلة وقّعناها، أنا وبعض الزملاء والأصدقاء، فجرّت علينا المتاعب حيث نعمل. لقد ظهر من يتّهمنا ب"الانعزالية" لأننا أردنا الخروج من الحرب واستعادة الدولة، او لأن هذا ما كنا نقوله ببساطة لم تخلُ من تبسيط. وعندما قام ياسر عرفات بزيارة الى مكاتب جريدتنا وكان الزميل محمد بين مستقبليه، لم يتردد في أن يصارحه بكلام عبّر عن حال بيروتية ما لبثت، مع الاجتياح، ان عمّت.
كان رأي محمد، الذي تغزّل لاحقاً ب"حبيبتي الدولة" عنواناً لكتابه الصغير، أن على المقاومين الفلسطينيين اذا ما كانوا يحبون فلسطين فعلاً، أن يتركوها لليهود. وإذ استغرب أبو عمار هذه الدعابة التي بدت له سمجة، أوضح محمد أنها ليست دعابة على الاطلاق، وأن لديه في صددها نظرية كاملة. فعلى المُحب، اذا كان حقاً كذلك، أن يضحّي من أجل حبيبته "حينما يتوافر لها حبيب غيره يمنحها حياة أسعد. فإذا كانت المقاومة ستعيّش فلسطين كما تعيّش بيروت اليوم، فيستحسن بها أن تتركها لليهود وتعض على جرحها".
وكانت الحكمة التي شاعت يومها في وسط لا يعوزه الاتساع بسيطة: ما دام أن عشرات الفصائل اللبنانية والفلسطينية المسلحة، ومعها قوات الردع السوري، تنتهك بيروت وأهلها، فما الغرابة في أن ينضاف الى هذا الكمّ طرفٌ لا يزيد السوء ولا يُنقصه، هو اسرائيل؟! هذا الاحساس كان مجرداً من الحسابات السياسية بقدر ما تجرد من العصبية التي كثيراً ما استفزني تأججها في مواجهة الاسرائيليين، وضمورها في مواجهة "الأشقاء". يومها كان لا يزال مبكراً أن أنتبه الى فوارق عامة أو أن أفسّرها. فالانتهاك العربي تداخل بالأهلي، فلم تعرف تماماً ما اذا كان الفلسطينيون من اهل الداخل او خارجيين. وبالمعنى اياه تصرف المسلحون اللبنانيون تصرفاً خارجياً بالكامل حيال ما يُفترض انه بلدهم وشعبهم. وحمل الانتهاك العربي الى لبنان بشراً كثيرين لوّنوه وكسروا ضيقه الجبلي، كما ضخّ أموالاً لم يعمل الانتهاك الاسرائيلي الا على تجفيفها وضرب مرتكزات الاقتصاد الوطني، تمهيداً لاغلاق بيروت عن العالم الخارجي.
وكائناً ما كان الحال، حرمتني الأوضاع الصعبة التي سبقت 1982 كل قدرة على التسامح مع ما تراءى لي لاعقلانياً، أو حتى على توقعه، فبدوتُ كتلةً من غضب وتطيّر، وآلةً حسابية لتسجيل حماقات الناس. والناس، في مطالبتي الضمنية لهم التي أدرك الآن مدى سذاجتها، كان عليهم كيما يحظوا برضاي، أن يغلّبوا مصالحهم وتجاربهم والاكتشافات التي يُفترض بهم أن يكتشفوها، على قراباتهم ومواضي عصبياتهم وجميع ما ورثوه وتناقلوه وظنّوه. فحين لم يفعلوا، وكيف لهم أن يفعلوا وهم "الناس"، واجهتُ عصبيتهم بأخرى من طينتها تنازعها وتكرهها. فعصبيتي التي لم تستخدم السلاح، وجدت سلاحها في حقد راح يحتقن ويتراكم. اما المقاتلون، اعدائي، فوجدوا لحقدهم مسارب ومتنفسات جعلتهم يبدون اسعد مني واقل غضبا.
على أني آنذاك فقدت القدرة على الحساب فقداني القدرة على تحمل الخرافة، كما لو ان الكون عقل محض. وأحياناً كنت أندفع في الفقدانين بسخاء في التأويل، حتى لأكاد أعوّل على نيةٍ لدى اسرائيل في توحيد بلد فككته المقاومة الفلسطينية وحربها، إن لم يكن حباً به فكرهاً بها. ومع تقادم الأيام واستطالة المعركة، انتقلت أنا وعائلتي الصغيرة الى المنطقة الشرقية من بيروت وسط أعداد لا تُحصى من المنتقلين.
هناك، بين البربير والمتحف، ازدحم المكان بالسيارات وبالناس غير المعنيين الا باستئناف عيشهم. كان بينهم من يطلب ماء، ومن يحمل طفله أو تحمل طفلها كما لو أن الكائن الصغير شارة استغاثة ومطلب رحمة. وكانت حواجز "القوات اللبنانية" تهيء للقادمين استقبالاً متفاوتاً فترحب بمن تبدو عليهم علامات البحبوحة، وتتشدد في تفتيش الذين يظهرون على هيئة أخرى، خصوصاً إن كانوا أفراداً ذكوراً وعازبين بلا عائلات. فالحواجز في اعتراضها سيولةَ الحياة، لم تشتغل هنا بموجب نزعة ثأرية عجلى وفورية، اذ حرّكها خبث انتقائي ومنظّم صدم، منذ البداية، انتقالي الى بيروت الشرقية. وكنت، منذ 1980، قد عدت الى التردد عليها بعد انقطاع اعوام توقفت خلالها عن أن أطأ "المناطق الانعزالية" التي سبق لي ولأهلي ان أقمنا فيها سنوات مديدة. ولم تكن بداية التردد على الشرقية بعيدة عن تحول سياسي هو الآخر، تحولٍ صرت معه أحس أن المسافة نفسها تفصلني عن المنطقتين وعن القوى التي تسوسهما. وخلال الزيارات المتكررة لنهايات الاسبوع، وبعضها كان هرباً من اشتباكات الفصائل في الغربية، راح يتزايد لدي استعداد للتعايش مع المكان بعضه تسليم يتنامى وبعضه اقتناع يستجد. ففي البداية كنت أقابل بالاشمئزاز وحده الصور المنتشرة لبشير الجميّل وسائر الظاهرات الميليشاوية التي تفقأ العين. وبالتدريج بتّ، أنا الآتي من العروبة فالماركسية ثم الخمينية، أشعر أن المجتمع هناك نجح في أن يقتسم الزمن والحيّز بينه وبين المسلحين، محتفظا لنفسه بايام طويلة وفسحات وسيعة نسبيا تهدأ فيها اشتباكات المتقاتلين. وهذا على عكس المنطقة الغربية حيث حضر العنف بايقاع اكبر في الحياة اليومية، فراح كثيرون من اهلها يتوجهون في نهايات الاسبوع الى برمانا وجونيه والاشرفية.
كانت حركة المشاعر حركة مد وجزر في الموجة الواحدة. فبالاحتكاك بأناس غير طائفيين بالضرورة، وباسترجاع ايام قديمة واهلية لم تكن سيئة دائماً، بدأت أتنبّه الى سخف النظرية التي تقاطع شطراً من الأرض والبشر اعتراضاً على خط سياسي يسوده. فالوعي هذا، فضلاً عن كونه تقسيمياً كما بتّ أرى، ذو نكهة مستبدة وجماعية تشتق من السياسة موقفها تجاه الناس والأمكنة، لتوحد الناس والأمكنة، من ثم، في السياسة.
مع ذلك ففي 1982 أحسست بغربة في الشرقية لم استطع مداراتها. ذاك ان دمار الغربية الذي شاهدته ذات مرة مكشوفاً من بيت مري المطلة على العاصمة، لم يكن همّاً ضاغطاً على الشرقيين المنصرفين الى حياة نهرب نحن اليها. كان منهم من يتأسف صادقاً، كما كان ثمة من يشمت، إلا أن امزجتهم لم تكن امزجتي.
ومن جديد رأيتني أتصرف مثل الطوائف الصغرى، وقد اخترت طائفتي هناك من جالية الغربيين الذين هربوا مثلي من الاجتياح. فكنا نستمد مادة كلامنا من ذكريات الغربية واخبار الاصدقاء الذين تبعثروا في سائر انحاء لبنان. وغيرَ مرة وجدتني أشتبك بالكلام مع متعصبي الشرقية "دفاعاً عن المسلمين"، بالمعنى الذي كنت أشتبك فيه، في الغربية، مع متعصبيها "دفاعاً عن المسيحيين".
لكن الأخيرة منحتني أمان الحيّز والفسحة، الشيء الذي لم يتوافر في الشطر الآخر. ففيها، وهي المدينة، يمكن أن تمشي قليلاً فتصل الى المقهى أو تصل الى البحر ودائما الى المألوف. وكان هذا الشعور كافياً، قبل أن يزدهر الخطف، لاقناع أمثالي بأننا أحرار لن يطولنا أحد، وأننا محاطون بحرارة المكان والبشر. أما في الشرقية فأنت في المدن الخليجية أو الأميركية الحديثة، مدعوّ لقطع الكيلومترات كيما تصل الى المقهى في جونيه لتلتقي لا أحد.
والمسافة هذه ليست صديقة فيما ناسها، في أحسن أحوالهم، مجهولون، وأشياؤها واشاراتها جديدة وغير معهودة. لهذا يخال من هو مثلي أن الاحتمال الأجلب للراحة هو المكث في البيت انتظاراً ل"زوّار" يأتونك من "القوات اللبنانية" ويصطحبونك الى أقرب زنزانة أقاموها. ولئن رأى البعض ملجأه من هذه الغربة في الطبيعة، قاصدا الجبال، فأنا لم أر فيها الا غربة اكبر ووحشة حبلى بالاستفراد. ولم استطع أن أطرد من مخيلتي، كلما اتجهت من بيروت شمالاً وجبلاً حيث تزدحم آلاف السيارات الصاعدة، مشهد كائنات آلية صغيرة تندفع بسرعة وعشوائية الى اللامكان، فيمعس واحدها الآخر في سباق محموم كأنه ينتهي بالجميع الى السقوط في هوّة ما بلا قاع. لقد فُبركت المناطق الشرقية على عجل، وعلى ايقاع حربي جعل الغرائز دائمة الاستنفار خلف واجهة المخمل والحرير. وفي كل توغّل في الغرائز كان يتضح ان الحرب ساوت تماماً بين المنطقتين لا فضل لواحدتهما على الاخرى.
هكذا استمرت الحال الى أن هدأ القصف يومين متتاليين، فجئت الى منطقة ثكنة الحلو لتفقّد من بقي من الأصدقاء، وتفقد شقتي التي أقام فيها كاتب شيوعي ضُرب بيته غير البعيد عن خلدة. ذاك ان جاري الشيوعي، بدوره، كان قد سألني لدى مغادرتي، ان أترك مفتاح بيتي لرفيقه الكاتب ما دمت متوجهاً الى الشرقية، وهكذا كان.
واحتراماً للمقيم هناك، قرعت الجرس فلما لم يُفتح الباب بعد رنّتين طويلتين فتحته بنفسي لأسمع صوت همهمة في الداخل. ولاستغرابي اكتشفت، وأنا أسير فعلاً سير المُكتشف الحذِر، أن الهمهمة صادرة عن الحمام حيث يقيم الكاتب بين عدد من الصحون وفناجين القهوة، وفي يده كتاب. دعوته أن يخرج وقلت له أنْ لا داعي للمكث في بيت الخلاء، فالوضع اليوم آمن بدليل قدومي من الشرقية. وفعلاً خرج بتردد ليؤكد لي أنه يؤثر قضاء معظم الوقت في المرحاض اذ أصوات القصف عادة ما تكون قوية ومخيفة. وحين استرخى واطمأن جعل يتحدث عن الخطأ الذي ارتكبه حزبه بانجراره الى صراع طائفي وقومي، فيما هو بالأساس حزب طبقي، واستنتج متأسفاً أنه يدفع الآن ثمن الخطأ المذكور.
كان يقول ما يقوله كأنه يعترف، خصوصاً أن السامع هو أنا الذي لم يكن الود المفقود بينه وبين الشيوعيين سراً. وقد شعرت تلك اللحظة أنني أكره دور الكاهن الذي يستقبل الاعترافات بقدر ما أحب ضعف مُحدّثي المعلن، ولو بولغ في اعلانه. فالمدينة المهجورة، على ما كانت بيروت، تعطي كلام الغرف نكهة خاصة، تماماً كما تفعل المدن المعبّأة والمتشنّجة تاركةً الحيّزات الشخصية للضعفاء وكلامهم البسيط، على ما دلنا مارسيلو ماستروياني وصوفيا لورين في فيلم شهير عن يوم "خاص" زار فيه هتلر موسوليني.
ولأن الوقت لم يكن للشماتة أو لتسجيل النقاط، قلت له ان الجميع يخطئ وعليه الآن أن لا يشغل نفسه بالخط السياسي، ثم ودّعته عائداً الى الشرقية. لكنني عرفت، بعد انقضاء الاجتياح، أن الكاتب نفسه دبّج مقالة عن صمود بيروت، هاجم فيها بضراوة كل المتخاذلين والانتهازيين والجبناء ممن فروا من العاصمة.
واليوم لا يثير فيّ هذا الكاتب اي غضب او انزعاج، بقدر ما يدفع الى التأمّل في اشكال وعي الحرب ووعي الحياة العادية حين يعود كلٌ منا الى قطيعه. فاذا امتلأ زمن الحرب بالخوف، واذا شابته خيانةٌ لما درج عليه القطيع، امتلأت الحياة التي تلي بالذنب والاعتذار والمبالغة فيهما، دون رادع حيناً، وعلى حساب آخرين احياناً. وربما من هذا القبيل كان الكلام اللاحق عن الصمود الذي غدا أسطورة، فجاءت أسطوريته في حجم المغادرة وفي حجم الخوف، بعد قلبهما وإعادة صوغهما بطولياً. لكن البطولية إياها هي ما رأيت نصفها الآخر في الشرقية، بعد انتخاب بشير الجميل رئيساً. فالناس هناك أصابها مسٌّ كالذي يصيب الجماعات والحشود، فاندفعتْ في حبك الخرافات ونسجها اندفاعها في التعبير عن ميول ثأرية. ولم تتوقف مصانع الخيال المجسّم الا بعد فترة على مقتل بشير، مُلهب الخيالات والغرائز في آن. والحال أن صعوده هو ما رأيته انتكاساً لا لمجموعة من الأفكار فحسب، وانما لي شخصياً ولأصدقائي وأبناء جيلي الذين شاركوني حقبات التشكّل السياسي والفكري. فكأنما انتهى طور رصّعته أسماء عبدالناصر ولينين وغيفارا وهو شي منه وماو، ومن بعدهم الخميني، ليبدأ طور مغاير تماماً لا ننتمي اليه ولا ينتمي الينا.
وفي بيروت راحت الأحداث تتتالى. فمصرع بشير لم يخلّف فرحاً لدي أو حزناً. لقد استبد القلق بي، خصوصاً أن مجزرة صبرا وشاتيلا حلّت بعد ساعات قليلة وشاع ان جنود سعد الحداد منتشرون في المدينة للثأر والانتهاك. والى الخوف راودني، حيال المجزرة، شعور مركّب يمتزج الحزن فيه بالغيرة: الحزن لمأساةٍ حلت بمدنيين أبرياء، معظمهم أطفال وشيوخ، تُركوا وحدهم بعد مغادرة المقاومة لبنان، والغيرة لأن المذابح التي سبق أن نزلت بلبنانيين لم يحفل بها أحد. لقد قدم البعض صبرا وشاتيلا لا بوصفها تتويجاً معذّباً لمأساة تمادت سنوات سبعا، بل كمأساة مستقلة بذاتها عما سبقها وعداها. على ان ما سوّغ النظرة هذه حصول المذبحة بعد مغادرة المسلحين الفلسطينيين وبحراسة الجيش الاسرائيلي، فتبدى حجم النذالة الذي أقام فيها.
ونحن، مثلنا مثل خصومنا من أبناء جلدتنا، بقي همّنا خارج المسائل الضميرية. كنا نريد مبارحة الحرب بأي ثمن، وكانوا يريدون ابقاءنا فيها بأي ثمن. كنا نطارد هذا الهدف ولو بوضع ضمائرنا في الثلاجة مدة تطول أو تقصر. وكانوا يطاردون هدفهم بوضع ضمائرهم في طبقة أخرى من الثلاجة نفسها.
وفي الغضون هذه احببت متعددي الجنسية وحدهم، فبدوا حزبي الجديد الذي ينقلني على بساط الريح الى عالم بلا حروب، لكنه أيضاً، وكما بات يتراءى لي اليوم، عالم يريد أن يولد من غير أن يواجه حروبه ومسؤوليته عنها. لقد قدموا من فوق الطوائف، كما قدموا من خارجها، فكان الفارق باهراً بين تعدد جنسياتهم وهبوطنا المتمادي الى ما دون الجنسية.
جاؤوا، هم الأميركان والفرنسيون والبريطانيون والطليان، من بلدان احب أن اتماهى معها، وكانت المسافة التي قطعوها تذكيراً بقطع المسافات لمُحاصَر في بيروت يحلم بمغادرتها.
والحق ان عبور المسافات كان، الى السياسة، سبباً في تحبيبي بهم. فالعابرون الذين يجتازون الحدود لا يوصلون أنفسهم بقدر ما يوصلون الناظرين اليهم والباحثين عن مثالات يستقونها منهم. انهم لا يقنعوننا فحسب بأن الحواجز عارض مؤقت، بل يأتوننا بعالم يتصل بعضه ببعض من دون حواجز.
ثم أنهم كانوا يبدون نظيفين، بل أول نظيفين نراهم يحملون سلاحاً. واليوم احسب النظافة، في وجه مبالغ منها، تنصّلا من الناس وانكفاء على النفس يمكن أن يبلغ مرتبة المرض، كما يمكن ان يشي بقدر من العنصرية. لكننا، في القذارة التي لفّت كوننا الضئيل آنذاك، ما كان يمكننا ان نحافظ على تعالي الكافياريين. ف"الوسِخون" منبثّون فينا يعيشون داخل المدينة ويخالطوننا سكناً ورواحاً ومجيئاً. فما كان ممكناً الا ننتبه، بالتالي، الى أن متعددي الجنسية ذوو ذقون حليقة وثياب مكوية، بينما عيوننا في شوق حارق الى المشهد المنسجم. ومثل قدومهم مما وراء المسافة المرئية، كانوا يتكلمون لغات بتنا نحب أن نسمعها في بيروت التي راح يهجرها الناطقون بلغة أجنبية، بل راح يهجرها العرب غير اللبنانيين وغير المسلحين. وحين كان واحدنا يلتقي بعض هؤلاء الدوليين يتنزهون على كورنيش البحر، كان من الصعب ان لا يقارنهم بالجنود والمسلحين ممن كنا نراهم في المكان ذاته قبل أن يأتوا. حمودي، مثلاً، استوقفه مرة على كورنيش البحر جنديٌ ايطالي يحمل طفلة ويشتري لها حلوى، فتذكر جندياً آخر من "أبناء شعبنا" كان رآه في المكان نفسه يشهر الرشاش في وجه صبي، والصبي مطروح أرضاً.
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.