تناقلت الصحف والألسنة الكثير من التحاليل والأحكام الخاطئة منذ أدت الجلطة الدماغية إلى إزاحة شارون من المسرح السياسي في إسرائيل. ومن أكثر الأقوال خطأ هو أن ذهابه يعتبر ضربة لقضية السلام في الشرق الأوسط. لعل العكس هو الصحيح ف"موت شارون"السياسي قد يكون منحة من العناية الإلهية لأنه قد يسمح بانطلاق عملية سلام حقيقية شرط أن ينتهز العرب والإسرائيليون على السواء هذه الفرصة. فلو منح شارون فرصة الحكم أربع سنوات أخرى - مع تسامح أميركي معيب تجاه سياساته - لأدى ذلك إلى خلق وضع على الأرض يصعب تغييره وإلى تشابك الطرفين في نزاع يستمر طوال قرن آخر. فشارون ليس"رجل سلام"، كما وصفه الرئيس بوش بكثير من قلة التبصر. فهو الذي عارض فعلاً كل مشروع سلام توصلت إليه إسرائيل مع العرب - بما في ذلك اتفاقات السلام مع مصر والأردن واتفاقات أوسلو مع الفلسطينيين. وهو لم يكن ليرغب في أي تفاوض مع العرب لأنه يعرف تماماً أن أي زعيم عربي لا يمكن أن يقبل بالشروط المستحيلة التي سيفرضها. فالهدفان اللذان كان يرمي إليهما هما: سحق الحركة الوطنية الفلسطينية، والهيمنة على المنطقة بالوسائل العسكرية. ولعله أكثر أبناء جيله جنوناً في الرغبة بقتل العرب. ولم يكن قرار شارون، الأحادي الجانب، بالانسحاب من غزة خطوة نحو السلام. فلقد كان يعرف بأن إسرائيل لا يمكن أن تسيطر على غزة إلى الأبد ولذا فقد تخلص منها كي يحكم القبضة على الضفة الغربية ليطوق السكان الفلسطينيين المقهورين في بانتوستانات متفرقة على أقل من 10 في المئة من أرض فلسطين الأصلية. لعل الإسرائيليين اليوم يجدون أنفسهم أمام خيارين فإما متابعة سياسات شارون الأحادية بالاستيلاء على القدسالشرقية وبتوسيع الكتل الإستيطانية واستكمال بناء الجدار العازل والاحتفاظ بالجولان وإغلاق الباب أمام أي إمكانية لتعايش سلمي مع العرب، وإما القيام بخطوة جديدة نحو السلام على أساس مفاوضات حقيقية. فأمام رجل مثل شمعون بيريز البالغ الثانية والثمانين والسياسي القديم الذي تخلى عن حزب العمل لينضم إلى حزب شارون الجديد"كديما"ذي نزعة وسط اليمين، أمامه الآن الفرصة لتغيير صورته في أذهان الناس كرجل انتهازي سرعان ما يغير الجاكيت بحسب الظروف. وعليه في هذا الحال أن يحاول إيجاد تحالف بين حزب العمل الذي يقوده الزعيم النقابي عمير بيريتس وحزب"كديما"الذي يرأسه ايهود أولمرت في غياب شارون، بغية خلق أرضية سلام حقيقية قادرة على الإمساك بمقاليد الحكم وعلى تقديم التنازلات الضرورية من أجل الوصول إلى اتفاق نهائي. هل يريد العرب حكومة بقيادة نتانياهو؟ قلما رأينا بين المعلقين الذين تناولوا مناقشة الاحتمالات المتوقعة في الشرق الأوسط بعد شارون من أتى على ذكر العرب. وكأنهم ليسوا في الوجود أو أنهم مجرد مشاهدين للدراما السياسية وتطوراتها، سواء في إسرائيل أو في لندن أو واشنطن، والتي ليس لهم فيها أي دور. وربما كان سبب الغياب الفعلي للعرب عن هذا النقاش السياسي هو نتيجة سلبيتهم ونزاعاتهم الداخلية، لكنه أيضاً نتيجة التركة التي يخلفها شارون. فهو قد أقنع الإسرائيليين بأنه لا يمكن الثقة بالعرب وبأنه لا يمكن إقامة سلام معهم وبأنه ليس هنالك شريك عربي. وبالتالي فإن الخيار الوحيد في رأيه هو أن تفرض إسرائيل شروطها أحاديا. وما هذه في الواقع سوى دعاية هدامة. وما على الزعماء العرب اليوم سوى إثبات أن شارون على خطأ. ولا يجب عليهم أن ينتظروا نتائج الانتخابات الإسرائيلية في 28 مارس آذار، بل عليهم أن يستبقوا هذه الانتخابات ويحاولوا التأثير على نتائجها بتبني ديبلوماسية فاعلة. ويجب أن يكون الهدف الأول لهذه الديبلوماسية إقناع الناخب الإسرائيلي المتخوف والمتردد بأن هنالك شريكاً عربياً من أجل السلام، وبأن العرب جديرون بالثقة، وبأنه يمكن وضع حد نهائي لحالة الحرب، وبأن في إمكان إسرائيل أن تجد مكانا سلمياً وآمناً في المنطقة إذا ما تخلت عن استخدام القوة والتوسع، وتبنت بدلا من ذلك سياسة اعتدال وحسن جوار. كل الدلائل تشير إلى أن لدى الإسرائيليين، بعد الانتفاضتين الأولى والثانية، واحتمال وقوع الثالثة، استعدادا للتجاوب مع مثل هذه الرسالة العربية. فهم قد سئموا الحرب والعنف، شأنهم شأن جيرانهم العرب. وتجدر الإشارة إلى أن العرب في مؤتمر القمة الذي عقد في بيروت عام 2002 أجمعوا على تبني المشروع الذي طرحه الملك عبدالله بن عبدالعزيز وكان وليا للعهد آنذاك بعرض السلام مع إسرائيل وإقامة علاقات طبيعية معها إذا ما عادت إلى حدود 1967. غير أن شارون رفض يومئذ هذا العرض. ولا بد الآن من إعادة طرح المشروع بعد إعادة صياغته وجعله أدق وأوضح وأوسع. وفي نظري أن على العرب أن يأخذوا المبادرة بالدعوة إلى مؤتمر دولي - مدريد 2 - تحت مظلة الأممالمتحدة وبدعم من الدول الكبرى لحل جميع المسائل المستعصية التي تسمم حاليا العلاقات بين إسرائيل من جهة والفلسطينيين وسورية ولبنان من جهة أخرى. فعلى الدول العربية الرئيسية أن توفد بعثة وزارية إلى العواصم العالمية الرئيسية - مع التركيز بشكل خاص على الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن - للترويج لمشروع السلام. ولا بد أن تكون الرسالة الموجهة إلى أمريكا غاية في الوضوح: لن يكون هنالك خلاص من الإرهاب قبل أن يجد النزاع العربي - الإسرائيلي حلاً عادلاً. ومن المؤسف أن الأجواء الأميركية لا تبعث حالياً على التفاؤل. اذ أدلى ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية - ومركزه نيويورك - بتصريح قال فيه:"لا يحتمل بعد ذهاب شارون أن تتقدم عملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية"، وأضاف:"لست متأكداً بأن هناك لدى كلا الطرفين قيادة قادرة وراغبة". وهذا الكلام هو في رأيي أقرب إلى الانهزامية منه إلى الواقعية. أما الرئيس جورج بوش فلا يزال أمامه ثلاث سنوات في البيت الأبيض. ومن الضروري أن يقال له بأن تأييد سياسات شارون - وغض النظر عن أعماله الوحشية - هو خطأ خطير لا بد من تقويمه على وجه السرعة. وأما الفلسطينيون فعليهم اليوم أن يواجهوا الخطة الحقيقية. فإذا لم يستتب النظام في قطاع غزة، وإذا ما انغمست البلاد في حرب أهلية، وإذا ما استمر المقاومون بإطلاق القذائف العقيمة على إسرائيل، فسوف يجنح الناخب الإسرائيلي نحو اليمين ويتبخر كل أمل في التفاوض على السلام. وعلى الفلسطينيين أن يسألوا أنفسهم إذا كانوا حقاً يريدون أن يفوز بنيامين نتانياهو وحزبه اليميني المتطرف في انتخابات 28 آذار مارس. وعلى الإسرائيليين أيضاً - وعلى مؤيديهم في الغرب - أن يمعنوا النظر بدقة في السياسة الفلسطينية. فإذا ما جرت الانتخابات الفلسطينية في موعدها المحدد يوم 25 الجاري فقد تسفر عن تقدم واضح لحماس وللجيل الجديد من حركة فتح الذي سيطيح تدريجاً الحرس القديم. ويرى ألبرت كروك مؤسس"منبر النزاعات"Conflicts Forum والمتتبع لنشاط حركة حماس بأن الانتخابات قد تكون خطوة نحو لم الشمل الوطني الفلسطيني ونحو بلوغ القواعد الشعبية أمانيها الوطنية، وهذا في رأيه هو السبيل الوحيد لتراجع العنف وتغلب الاتفاق السياسي. وعلى الإسرائيليين أن لا يخافوا من حماس، فلقد أشار الناطق باسمها اخيراً إلى احتمال توقف العنف نهائياً طوال جيل كامل، الأمر الذي من شأنه إذا ما تجاوبت معه إسرائيل، أن يوفر فرصة لحل جميع القضايا الأخرى عن طريف المفاوضات. إن ذهاب أرييل شارون من الساحة فد خلق فرصة للسلام لا يجب أن تبدد. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.