يسترعي الانتباه الخطاب ذو السقف السياسي العالي للزعيم اللبناني النائب وليد جنبلاط، ويستدعي وقفة قراءة سياسية متأنية. مسوغ ذلك، ان الخطاب الجنبلاطي يصدر، غالباً، كخلاصة لاتصالات، وكحصيلة لمعلومات ومشاورات، وبعد غربلة لمحاولات اقتراب وابتعاد، يتدخل في صياغتها أكثر من عامل سياسي، لا يقتصر على المجال المحلي الوطني، بل يتجاوزه الى الميدانين الاقليمي والدولي. تدرج الكلام الجنبلاطي منذ ما بعد الرابع عشر من آذار مارس حيال سورية ونظامها، حتى أعلن أخيراً ما يشبه"القطيعة"التامة مع الحكم السوري، وما يفصح عن استحالة التوصل الى تسوية سياسية معه، تأخذ في الحسبان كل التطورات الجديدة التي طرأت على لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما أعقبه من خروج للقوات السورية من الارض اللبنانية، مثلما تضع في الاعتبار حقيقة انها مسؤولة على وجه من الوجوه، عن جريمة الاغتيال، وأن لا بديل من ترجمة الشعور بالمسؤولية هذه، من خلال اجراءات سورية ملموسة، تبعث باشارة اطمئنان الى"حصيلة"الحركة السياسية اللبنانية، التي وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام استحقاقات سياسية كبرى، محلية ودولية واقليمية ايضاً. وثمة ما يحمل على الاعتقاد بأن لهجة جنبلاط الواضحة حيال النظام السوري، جاءت بعد الصد المتكرر الذي جبه به النائب اللبناني من جانب هذا النظام، وبعد استحالة التوصل الى تسوية سياسية معقولة معه، تضمن فعلاً التأسيس لعلاقة صحيحة وطبيعية بين لبنان وسورية. عليه، أسس وليد جنبلاط خلاصة موقفه الاخير الذي غادر التعمية الى التسمية، وذهب من المداورة الى المباشرة, وتمترس في خندق الاستقلالية اللبنانية في مواجهة محاولات الهيمنة السورية الدؤوبة. خارج هذا المنطق الجنبلاطي الجديد، يصير الانكفاء انتحاراً ذاتياً، مثلما يظل انحناء مستديماً تحت ظل سيف التهديد المصلت فوق رقاب الجميع - أو اولئك الذين يقولون لا بحسب التعبير الجنبلاطي. وهذا في حال استمراره، يقيد التركيبة اللبنانية ضمن قوقعة تهديداتها المتبادلة، ويحجز الاستقلال الوطني الممكن في قفص الشروط الداخلية المتفاقمة, والمعطمة دائماً بتعريفات"عروبية"أو"وطنية"أو"مقاومة"زال اساس الكثير منها، وباتت الحاجة ملحة الى ابتكار رأس جديد لها من خارج الموروث الذي تحفظه الذاكرة اللبنانية جيداً, وعلى نحو مرضي احياناً. يستطيع وليد جنبلاط ان يرفع صوته السياسي الاستقلالي، مستنداً الى الارث الجنبلاطي العروبي والوطني، والذي انحاز في ذروة عطائه مع الشهيد كمال جنبلاط، الى الحركة الديموقراطية والتقدمية عموماً. هذه"السهولة"الجنبلاطية، تصعب مهمة"النضاليين"المتمترسين خلف الدعاوى القومية، التي ما زال اصحابها يحجزون مجتمعاتهم ويقمعونها، بانتظار... تحرير فلسطين ! اذا ما ارادوا رمي جنبلاط بنقص في العروبة مثلاً. استقلالية جنبلاط هي الاضافة الوطنية العروبية، من"الضفة اللبنانية"الاخرى، التي تطعم"الاستقلالية اللبنانية"ذات السمة المسيحية الغالبة. بهذا تفتح الجنبلاطية امام"الاستقلالية الخاصة"الاستقلالية العامة الاوسع, مثلما تشكل واسطة العقد مع كتل أهلية اخرى، لا ترى الى الجنبلاطية كمنافس"خطر"لدى الجلوس الى طاولة حوار المصالح المتقابلة. وفي هذا السياق، يكاد الموقع الجنبلاطي يكون متفرداً لجهة الخطوط الحمراء التي لا يتجاوزها قومياً ووطنياً، ولجهة مغزى التوليفة التي يختزنها عروبياً وكيانياً، ولجهة المرونة الفائقة في الحركة السياسية, مبادرة أو انعطافاً او ثباتاً ضمن موقع محدد... وتكتسب"الفرادة"الجنبلاطية هذه جزءاً من مقوماتها، من طبيعة القوة الاهلية التي تستند اليها، وتنطلق بالشطر الاوسع من مصالحها، ذلك ان هذه"القوة"كانت الاقرب دائماً الى نبض زعامتها السياسية، والاكثر طوعية للانقياد لها، قياساً الى الطوائف الاخرى التي تحتل قياداتها الدينية مواقع مؤثرة راجحة فيها، مثلما يلعب"الموروث الديني"دوراً حاسماً في تشكيل وعيها السياسي والاجتماعي على حد سواء. وقد يكون من المفيد الاستخلاص، أن من المهم التقاط الوضوح الاستقلالي الجنبلاطي الحالي، والتأسيس عليه والاضافة اليه من قبل قوى اهلية لبنانية اخرى. فالالتفاف حول الوضوح مدخل الى التأسيس لوحدة الموقف الاستقلالي اللبناني العام، أي مدخل الى انتاج التسوية الداخلية اللبنانية على قاعدة الفهم المتقارب والمشترك للعناوين الوطنية العامة، وعلى خلفية الفهم المشترك والواعي لدواعي ومصادر الخلافات المستمرة، ولكيفية ادارة الاتفاق والاختلاف، من ضمن قواعد العيش المشترك، وفي ظل شعار: الاستقلال الناجز حق بديهي للبنانيين. الاتفاق الداخلي اللبناني على تسوية استقلالية جديدة، يمهد القاعدة السياسية اللازمة لتسوية جدية وثابتة حول موقع لبنان في الصراع العربي - الاسرائيلي، وحول علاقته المستقبلية بسورية. أما تعذر الاتفاق الداخلي، فيفتح الحياة السياسية اللبنانية والمصير الوطني على اتجاهين: الاول هو الاهتزاز الداخلي، حيث ما زالت الحرب الاهلية الباردة واحداً من مقومات اليوميات اللبنانية، والثاني هو استمرار قدرة الخارج على التلاعب"بمكونات التشكيلة"اللبنانية انفاذاً لمصالحه وتحقيقاً لجدول أعماله الخاص. في الحالة اللبنانية، التاريخية والراهنة، كلام"الاهتزاز والتلاعب"ليس تمريناً لفظياً، ولا ضرباً من الخيال، بل هو واقع يضخ تعبيراته كل آن. في هذا السياق يأتي الكلام الجنبلاطي, وضمن"المنظومة الاهلية"نفسها يندرج كل التعبير الطوائفي الآخر... وما بين دهاليز الخطب المتبادلة تتسلل آلة التفجير، مطمئنة الى درع الوقاية الذي يوفره لها الانقسام اللبناني بحيث تظل"حقيقة"كشف الجناة وجهة نظر فئوية، وبحيث يصير اقرار آلية ما للتحقيق وللمحاكمة، عنصر اطمئنان لجهة لبنانية، وعنصر تطير وعامل استنفار لدى جهة اخرى. فهل يستطيع صوت وليد جنبلاط، ان يرتفع, ولو قليلاً, فوق ضجيج الاصوات الطوائفية الاخرى؟ الامر نسبي في هذا المجال، فما دامت البديهيات غير بديهية لبنانياً، فان"منصة الاستقلال"لا تكفي وحدها لتشكل عامل جذب لبقية اللبنانيين. لكن على رغم ذلك كله، فان الحسم الجنبلاطي يضع الخطب"الاستقلالية"و"العروبية"امام منعطف نقاش آخر، ويفتح"الموازين"على حسابات توازنات اخرى. وهذا ما يجب التقاطه من قبل الضفاف اللبنانية الاخرى. فلا يحمل الموقف الجنبلاطي ما ليس منه، ولا ينسب اليه ما ليس من"بنات منطقه". اذ من الثابت ان للاستقلالية الجنبلاطية تعريفها ومعناها، ولعروبته تاريخها ومقدماتها ومآلها، ولحركته السياسية منطلقاتها وهواجسها... لذلك، لا يمكن تصنيف الجنبلاطية, سلفاً، بضمها أو بالانضمام السهل اليها, بل يمكن دائماً مراقبتها، والسجال معها، والانتباه الى نبضها الدال... دائماً. كاتب لبناني.