أثارت الخطوة الباكستانية تجاه اسرائيل، برعاية دولة اسلامية كبيرة مثل تركيا، أكثر من اشارة استفهام لجهة"تأكيد"ثبات الموقف الباكستاني المتمثل بعدم الاعتراف بإسرائيل قبل قيام الدولة الفلسطينية سيما أن مثل هذه التأكيدات كانت ساقتها غير دولة عربية واسلامية ومضت عليها سنين طويلة ولم تقم الدولة الفلسطينية ويتحقق السلام العادل والشامل . تجاوزت باكستان خطوطاً حمراً وضعتها في السابق في تعاملها مع قضية العرب المركزية وقدمت إلى تل أبيب دفعأ كبيراً وكسرا لاطار عزلتها الدولية مستبقة الأحداث التي تشير إلى ما في جعبة رئيس الوزراء ارييل شارون وغيره من قادة الدولة العبرية من مخططات لوأد حق الشعب الفلسطيني في إعلان دولته المستقلة فوق ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين والمضي في سياسة الاغتيالات والاستيطان وتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية من خلال جدران الفصل العنصرية. والخوف أن تكون هذه الانعطافة الباكستانية أول دفعة على الحساب من الثمن الذي تريده اسرائيل من وراء الانسحاب من قطاع غزة سيما أن في الأفق بشرى"بأن عشر دول عربية في طريقها للتطبيع والسير على خطى اسلام أباد بعد الانسحاب. لا شك في أن اليد الأميركية كانت واضحة بصورة جلية في تحقيق ذلك التقارب الذي يأتي ضمن الاستراتيجية الأميركية العالمية الجديدة الرامية إلى إطلاق اسرائيل في مناطق العالم المختلفة .فبعد نجاح الولاياتالمتحدة في أفغانستان بإسقاط حكومة"طالبان"وتولي حكومة موالية مقاليد الحكم هناك, وبعد القضاء على نظام صدام حسين بدأت الولاياتالمتحدة في استكمال استراتيجيتها والالتفات إلى ترتيب أوضاع المنطقة بما يتفق ومصالحها, وهو ما كان أشار اليه وزير الخارجية السابق كولن باول مع انتهاء الحرب ضد العراق بأن"الولاياتالمتحدة ستولي عناية أكبر لمشكلة الارهاب والقضايا ذات الصلة بها". ويبدو في حكم المؤكد أن لواشنطن دورا مهماً واستراتيجيا في القرار الباكستاني باعتبارها من يملك العصا والجزرة لتوجيه الأحداث ومجريات الأمور في شبه القارة الهندية الملتهبة, نظراً الى العلاقات الاستراتيجية التي تربطها بطرفي النزاع الكشميري الهندوباكستان والتي اتضح تأثيرها بصورة جلية في المحاولات المتعددة لواشنطن لاستثمار هذه العلاقات من خلال عمليات شد ورخي مع الجانبين مع أفضلية لمصلحة الطرف الهندي بدأت بالتبلور بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتضعضع موقع باكستان كحليف في مواجهة المد الشيوعي. وبدأ عداد المصالح يسجل نقاطاً لحساب الهند و تعززت بعد هجمات 11 أيلول سبتمبر والحرب على أفغانستان ومسارعة نيودلهي للانخراط في خندق مكافحة الارهاب في اشارة واضحة لجارتها اللدود التي راحت بدورها تتحين الفرص لاصلاح علاقاتها مع العملاق الاميركي. ولما كانت واشنطن تدرك"عطش"اسلام أباد للمساعدات ومنافذ عبور تؤدي اليها بحكم النتائج سعت الى"ارشاد"باكستان إلى أقصر الطرق الى الرضى الأميركي وهو طريق تل أبيب المجرب والمضمون النتائج على الأقل في الأجل القصير جدا.ً لكن قصر الطريق يحمل في طياته قصر نظر ومجازفة كبيرة غير محسوبة النتائج. فما يمكن أن تقدمه تل أبيب وواشنطن يبقى هامشياً وليس ذا جدوى لبلد مثل باكستان يتداخل فيها الاقتصادي بالأثني والطائفي والاجتماعي وتتخذ أزماته إقامة دائمة. ومن هذا المنطلق لم يكن الرئيس برويز مشرف في حاجة لإضافة عنصر غضب جديد عليه بعد أن أثار حنق الاسلاميين المتشددين بقراره المشاركة في الحرب التي أعلنتها واشنطن على الارهاب في أعقاب هجمات أيلول وتخليه عن مساندة"طالبان"وسعيه بعد ذلك للتوصل إلى تسوية مع الهند حول كشمير الأمر الذي كاد أن يودي بحياته من خلال محاولة الاغتيال التي تعرض لها. واليوم يقدم على قفزة هروب إلى الأمام عبر السير في طريق التطبيع مع اسرائيل التي سبق لها اختراق العمق الهندي. جاء قرار الحكومة الباكستانية اجراء محادثات مع اسرائيل في أعقاب إجلاء المستوطنين اليهود من قطاع غزة. وقال وزير الخارجية خورشيد قصوري في معرض دفاعه عن هذه الخطوة إن اجتماعه مع نظيره الاسرائيلي سيلفان شالوم سيوفر لباكستان مساحة دبلوماسية, واعترف بأن الاتصالات السرية ظلت مستمرة لعقود, لكن اسلام أباد ارادت أن تبعث بإشارة الى الحكومة الاسرائيلية مفادها ان الافتراض بان الدول الاسلامية لا تستطيع ان تعيش في سلام مع الدولة اليهودية ليس صحيحا اذا جلت اسرائيل عن الاراضي المحتلة. غير أن الكثير من المراقبين يرون في الدفاع الباكستاني محاولة لذر الرماد في العيون وتمرير الوقت كي يتم احتواء النقمة الشعبية خصوصاً أن الأحزاب الاسلامية بدأت تحركاً احتجاجيا ًفي الشوارع واتهم قاضي حسين أحمد زعيم التحالف الذي يضم ستة أحزاب اسلامية من معقله في بيشاور في الاقليم الحدودي الشمالي الغربي مشرف بتقديم تنازلات في شأن أفغانستان وكشمير وأخيرا فلسطين, وتعهد تنظيم احتجاجات في أنحاء البلاد. إن تبوؤ باكستان سلم الصدارة والمبادرة تجاه اسرائيل لم يكن وليد ظروف, بل وفق ترتيب دقيق للغاية يعطي دلالة واضحة لمسرح العمليات المتسع في سياق إعادة رسم صياغة جديدة للمنطقة وفق ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أطلقته الادارة الاميركية بعد احداث 11 أيلول سبتمبر ولازالت فصوله تتوالى من أفغانستان إلى العراق ولبنان تمهيدأ لتفكيك منطقة المشرق العربي وإعادة دمجها في كيان هلامي تكون لاسرائيل مركز الصدارة فيه. وواشنطن وهي تخوض غمار هذا المشروع حريصة كل الحرص على ألاتخسر باكستان نظراً لاهميتها في الاستراتيجية الاميركية خصوصاً أن الجبهات ما زالت مفتوحة وحرب الارهاب لم تضع أوزارها بعد. ومن جانبه يحاول مشرف استثمار هذا الحرص لكنه يبدو محرجاً ومترددا,ً لذلك تأتي الخطوات الباكستانية كمن يهرب إلى الأمام قفزة هنا وانحناءة هناك. فيما يعتبر مراقبون باكستانيون أن الوعد الوحيد الذي قدمته الولاياتالمتحدة لبلادهم هو ان تفترق عنها عندما لا تصبح هناك حاجة لمساعدتها! * كاتب سوري.