قبل 12 عاماً حطت رسالة غريبة أمام مكتب دانييل مارياسكن مدير الشؤون الدولية في "بناي بريث انترناشيونال"، وهي منظمة يهودية أميركية، في مكتبها في واشنطن. مصدر الغرابة كان الطابع البريدي على صدر المغلف الذي حمل صورة محمد علي جناح مؤسس الدولة الباكستانية، والأغرب كان موضوع الرسالة الذي أشار الى دور اسرائيل في الحرب من أجل تحرير الكويت في 1991. كان ذلك أيار مايو 1991. المرسل كان شاباً باكستانياً في التاسعة عشرة اسمه أيمن، ولد في الكويت وانتهى به الأمر نازحاً في كراتشي. وطبقاً للرسالة المكتوبة بخط اليد، أراد أيمن "شكر اسرائيل لممارستها ضبط النفس أمام الصواريخ العراقية التي استهدفتها" والتي كان ممكناً أن يؤدي الرد عليها الى اعتراضات من الدول العربية والمسلمة الأعضاء في التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة الذي شن حرباً على العراق في شتاء 1991. وكتب أيمن في ختام الرسالة أنه "يتمنى أن يصبح الشعبان الاسرائيلي والباكستاني أصدقاء في المستقبل القريب". مارياسكن، المتقاعد حالياً، أرسل الى زملائه في المنظمة نسخاً من الرسالة، وتمت استشارة السفارة الاسرائيلية. والأسئلة التي تم تداولها تركزت على مدى إمكان أن تكون الرسالة في حقيقتها مدخلاً لمُفاتحة رسمية باكستانية تمهيداً لقيام اتصالات رسمية. وفي النهاية، قرر مارياسكن أن يرد على الرسالة بأسلوب شخصي، لكن من دون أن يُغامر بتضييع أي فرص. فكتب يقول، عاكساً الموقف الاسرائيلي كما كان في 1991 من مسألة الاتصالات مع إسلام آباد: "أتمنى حقاً ألا يمضي وقت طويل قبل أن تقيم باكستان واسرائيل علاقات ديبلوماسية. فمثل هذا الأمر سيخدم في شكل كبير مصالح الشعبين". هذا الاحتمال لم يكن أقرب الى التحقق من اليوم، بعد أن انهى الرئيس الجنرال برويز مشرف مطلع الشهر الجاري زيارة رسمية للولايات المتحدة شملت لقاء قمة مع الرئيس جورج بوش في منتجع كامب ديفيد الرئاسي. وقبيل بدء الزيارة، دعا مشرف شعبه في لقاء مع شبكة "جيو" الاخبارية الباكستانية الى "اعادة النظر في شكل جدي ومن دون عاطفة" بمسألة العلاقات مع اسرائيل. وذكرت تقارير في الصحف الباكستانية الأسبوع الماضي أن الخارجية الباكستانية تدرس امكان إزالة جملة "صالح لجميع دول العالم ما عدا اسرائيل" بالأوردية والعربية والانكليزية التي تحملها جوازات السفر الباكستانية. وبات الآن أمراً شبه محسوم أن المسؤولين الاسرائيليين والباكستانيين بدأوا العد التنازلي للدخول في أولى درجات الاعتراف الديبلوماسي المتبادل. وستضمن اسرائيل بذلك علاقات مباشرة مع أول قوة نووية في العالم الإسلامي، وتضمن أيضاً تحييد السلاح النووي في أي صراع لها مستقبلاً مع العرب والمسلمين. ويرجح ديبلوماسيون أن اعلان قيام علاقات باكستانية - اسرائيلية سيأتي مكافأة من طرف الادارة الأميركية لتل أبيب على انصياعها ل"خريطة الطريق" التي رهن بوش سمعته السياسية لانجاحها. وكانت اسرائيل أبلغت الولاياتالمتحدة مطلع حزيران يونيو الماضي أنها تتوقع أن تستخدم ادارة بوش علاقاتها القوية مع الدول العربية والمسلمة الرئيسية لتطبيع علاقات الدولة العبرية مع العالم الاسلامي، كي تكون مكافأة اسرائيل على تطبيق "خريطة الطريق" على مستوى "التضحيات" التي ترى تل أبيب أنها مقدمة عليها. ويبدو أن إسلام آباد وواشنطن كانتا تجريان حواراً منذ مدة حول طرح مسألة التطبيع الاسرائيلي - الباكستاني في المحادثات التي أجريت بين الرئيسين بوش ومشرف في كامب ديفيد. وكان مندوب اسرائيل الى الاتحاد الأوروبي عوديد عيران صرح عشية وصول مشرف الى المنتجع الرئاسي الأميركي "بأننا نعترف بالدولة الفلسطينية التي أقرت في المقابل بحق اسرائيل في الوجود من خلال "خريطة الطريق". والآن آن أن تعترف بدولتنا الدول الاسلامية الأخرى ومن ضمنها باكستان". وإذا كان الكلام عن اتصالات باكستانية - اسرائيلية وليد الساعة، فإن مصادر باكستانية وأميركية تؤكد أن تل أبيب وإسلام آباد توصلتا قبل خمس سنوات الى تفاهم استراتيجي صامت وغير مباشر، بوساطة أميركية، تهدف الى ضمان عدم حدوث سوء فهم يؤدي الى مواجهة بين اسرائيل وباكستان عبر تسريب أحداهما أسلحة نووية الى دول معادية للأخرى. وواجه المسؤولون الإسرائيليون والباكستانيون والأميركيون في حزيران 1998 عقب قيام إسلام آباد بتفجيراتها النووية الستة، موقفاً حرجاً تم احتواؤه بعيداً من انظار الاعلام الدولي، لكنه أوضح بجلاء ضرورة قيام اتصالات باكستانية - اسرائيلية مباشرة. فعقب التفجيرات، أجرت إسلام آباد اتصالاً عاجلاً بواشنطن لتقول أنها رصدت مقاتلات اسرائيلية في قواعد جوية هندية تستعد لتوجيه ضربة مشتركة للبنية النووية الباكستانية. وللمرة الأولى صدر من إسلام آباد تهديد لإسرائيل، وإن كان محدوداً داخل القنوات الديبلوماسية، مفاده أن اشتراك اسرائيل في مثل تلك الضربة سيعني فتح الباب أمام الاحتمالات كافة. وأفاقت القيادة الاسرائيلية ليلاً لترد على اتصالات عاجلة من البيت الأبيض ومن وزارة الخارجية الأميركية. وامضى سفيرا اسرائيل وباكستان الى واشنطن جل الليل وهما يتحاوران في شكل غير مباشر عبر وسطاء في الخارجية الأميركية. وفي لحظة حاسمة، توقف السفير الاسرائيلي زلمان شوفال عن الكلام مع مسؤول أميركي على الهاتف قائلاً: "لماذا لا أتكلم مع زميلي السفير الباكستاني مباشرة؟". ورفع سماعة الهاتف واتصل بنظيره الباكستاني رياض كوكر، وأبلغه أن اسرائيل لا تضمر سوى النيات الحسنة تجاه باكستان، وأن لا مقاتلات اسرائيلية في قواعد جوية هندية، وأن تل أبيب لا تنوي التدخل في نزاعات بين باكستانوالهند. وفي نهاية المكالمة، قال شوفال للسفير كوكر: "أليس من الأفضل أن تكون بين بلدينا اتصالات مباشرة كي لا يحصل سوء مفاهمات قاتلة؟". طرح شوفال نقطة على قدر كبير من الأهمية. اذ دأبت الهند على تصوير علاقاتها المتنامية مع اسرائيل، خصوصاً عسكرياً، على أنها موجهة نحو باكستان، بغرض إيهام إسلام آباد بأن ثمة قوة عسكرية معتبرة مستعدة للوقوف مع نيودلهي في حال اندلاع حرب مع باكستان. وهو أمر غير دقيق. ومنذ 1998 استقر التفاهم غير المعلن بين إسلام آباد وتل ابيب على تفسير يقضي بأن كلا البلدين سيحرصان على عدم التدخل في المجال الجغرافي الحيوي للآخر وعدم الإخلال بموازين القوى في إقليمي كل من البلدين. فباكستان لن تحاول التدخل الى جانب الأطراف المتنازعة مع اسرائيل، والأخيرة لن تتدخل الى جانب مناوئي الأولى في أفغانستان وكشمير وآسيا الوسطى. ومنذ اندلاع الانتفاضة في خريف 2000، تفادت إسلام آباد توجيه نقد علني لإسرائيل واكتفت بإصدار بيانات تُحمل سائر أطراف النزاع المسؤولية. وفي المناسبات القليلة التي وجهت فيها باكستان انتقاداً مباشراً لاسرائيل، كان ذلك رداً على تصريحات أو أفعال اسرائيلية إما خرجت عن التفاهم غير المعلن أو لها علاقة بالهند. ومن ذلك ما حدث في الصيف الماضي. فإسلام آباد كانت واثقة من التفاهم الاستراتيجي مع تل أبيب بوساطة اميركية. لكن فجأة، في حزيران 2002، أسقطت باكستان طائرة استطلاع تابعة للهند تبيّن أنها من انتاج اسرائيلي. هذا كان دليلاً على أن اسرائيل مستمرة في نقل التكنولوجيا العسكرية الى الهند لأسباب تجارية على رغم الاتفاق الاستراتيجي لعام 1998 مع باكستان. لذا خرج برويز مشرف ليدلي بتصريح محسوب الكلمات وشديد اللهجة، ملمحاً الى أن إسلام آباد لا تعتبر الخطوة الاسرائيلية عملاً معادياً تجاه باكستان فحسب، بل وأن الأخيرة قد تعتبر نفسها في حل من الاتفاق الاستراتيجي الذي يمنعها، مثلاً، من تزويد خصوم اسرائيل بالأسلحة الفتاكة. وقال: "إن التعاون بين اسرائيل والهند لا يتعلق بباكستان فحسب، بل مرتبط أيضاً بمنطقة الشرق الأوسط كلها". وكان مشرف بذلك يحاول أن ينقل الى القيادات الإسرائيلية رسالة مفادها أنه إذا كان لتل أبيب مصلحة اقتصادية مع الهند، فإن مصلحتها أكبر استراتيجياً مع باكستان، القوة النووية المسلمة التي يمكنها ببساطة التأثير في التوازن بين اسرائيل وجيرانها عبر تزويدهم رؤوساً نووية أو الترويج ديبلوماسياً لإدخال التعاون العسكري الهندي - الإسرائيلي في صميم الصراع العربي - الإسرائيلي. وكدليل منه على جدية فحوى الرسالة، استغل مشرف في تشرين الثاني نوفمبر الماضي اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني ليوجه انتقاداً الى اسرائيل بات نادراً سماع مثيله في أروقة إسلام آباد. الرسميون في اسرائيل أيضاً صدرت منهم تصريحات وأفعال تشير الى العلاقة غير المريحة، معنوياً، مع باكستان. لكن يبقى أن البلدين يقران بأهمية التفاهم الاستراتيجي الذي توصلا إليه بوساطة أميركية. فشمعون بيريز كان وزيراً للخارجية في تشرين الأول اكتوبر 2001 عندما سألته "واشنطن بوست" عن أحداث 11 أيلول. وجاء رده مزيجاً بين الإزدراء المحسوب والتقدير المعتدل لشخص مشرف: "نتفهم سياستكم في التعاون مع مشرف. لم أكن أحلم بأنني سأصلي يوماً من اجل سلامة رئيس باكستان". ولكن، بصورة عامة، التزمت اسرائيل مسألة ابداء حسن النيات المترتبة على التفاهم الاستراتيجي مع باكستان. فعندما تعرضت باكستان لغضبة دولية في الأيام التي تلت أحداث 11 أيلول بسبب انطباعات عن دورها في أفغانستان، نأى معظم الساسة الإسرائيليين بأنفسهم عن الإدلاء بأي تعليقات تتناول إسلام آباد مباشرة. وعكس الهند، مثلاً، التي سارعت الى استغلال الحدث لتأليب المجتمع الدولي ضد باكستان، تفادت اسرائيل اصدار أي تصريحات يمكن تفسيرها على أنها تحمل باكستان اللوم. غير أن ذلك التفاهم لم يؤدِ الى أي ود في العلاقة. فإسلام آباد لعبت أوراقها بمهارة ولم تكن مستعدة لأن تعطي تل أبيب، أو واشنطن، تنازلاً لم يحن وقته. لكن الاعتبارات تبدلت اليوم. اسرائيل تملك شيئاً تريده باكستان. فإسلام آباد تريد تحييد مؤسسات الصناعة العسكرية داخل الجيش الإسرائيلي المندفعة أساساً نحو الربح المادي في التعاون مع الهند، وتحييد اللوبي الموالي لإسرائيل في الكونغرس. الأول يمكنه تقليل نقل التكنولوجيا العسكرية الى الهند، والثاني يمكنه تسهيل تحقيق الأهداف الباكستانية من ضمن عملية صوغ السياسة الأميركية. وباكستان تملك شيئاً تريده اسرائيل. فباكستان، التي كانت لاعباً إقليمياً مهماً، لكن منبوذاً دولياً قبل 11 أيلول، خرجت اليوم الى القبول الدولي. واعترافها باسرائيل، ولو جزئياً، سيعطي دفعة لقبول اسرائيل في العالم الإسلامي. وثمة اليوم تياران في باكستان عندما يأتي الأمر الى الإعتراف باسرائيل. الأول يشمل قوميين وليبراليين يرحبون بذلك على خلفية ما يعتبرونه خذلان العرب لباكستان في القضية الكشميرية. والثاني، وهو الأكبر ويكاد يطغى، إسلامي يقر بخذلان العرب لباكستان في كشمير ولكن يرى أن القضية الفلسطينية قضية باكستان الأولى. فعندما أدلى مشرف بتصريحه المثير للجدل قبل شهرين، انهالت الاتصالات الهاتفية المحتجة على القصر الرئاسي ومكاتب الصحف الرئيسية، وكتبت صحيفة "نوائي وقت" في افتتاحيتها: "على رئيس الجمهورية أن يعلم أن الشعب تقبل الكثير من قراراته غير المقبولة على مضض متحكماً بغضبه، لكن الإقرار بسيطرة اسرائيل على قبلة المسلمين الأولى سيكون أمراً لن يقبله الشعب. لماذا يريد أن يقدم على خطوة تسرع في زوال حكمه؟". الرئيس مشرف أثبت عقب قراره التاريخي بالتخلي عن الحلفاء في أفغانستان، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً حتى تخيله داخلياً، أنه لا يفتقر الى الجرأة في اتخاذ القرار. لكن إذا لم يقدم على إقامة علاقات ديبلوماسية مع اسرائيل عاجلاً، فيمكنه القول أنه زاد من قدرة حكومته على حلب الحليف الأميركي وأرسل إشارة إيجابية الى اسرائيل وحلفائها في الكونغرس الأميركي، ويسّر أمر أي حكومة باكستانية تقرر رفع درجة الاتصالات مع اسرائيل مستقبلاً.