حين أجرت الهند تجربتها النووية الأولى في العام 1974، لم يكن ذلك بعيداً عن رقابة الاستخبارات الباكستانية. فتلك التجربة كانت خطوة أولى تستهدف ردع باكستان عن المطالبة بحقوق شعب كشمير وتهديد كيان باكستان ذاته في المستقبل. لذلك رفع رئيس وزراء باكستان آنذاك ذو الفقار علي بوتو شعاره الشهير: "سنأكل العشب ونبني القنبلة النووية". وبدأت اسلام آباد منذ ذلك الحين مشوارها من أجل تحقيق هذا الهدف معتمدة على امكاناتها التكنولوجية الخاصة التي وفرها العالم النووي عبدالقادر خان بعد عودته من هولندا. وعندما أدركت الولاياتالمتحدة واللوبي الصهيوني جدية المشروع الباكستاني، هدد وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر رئيس وزراء باكستان بأنه يمكن ان يفقد حياته إذا مضى في مشروعه النووي. الا ان بوتو قبل التحدي، واستمر في بناء مجمع كاهوتا النووي، وفقد حياته فأُعدم بعد انقلاب عسكري بقيادة الجنرال ضياء الحق. محاولات اجهاض البرنامج تعاونت الدولتان - الهند واسرائيل - منذ السبعينات لاجهاض البرنامج النووي الباكستاني، وتكثفت جهودهما مع مطلع الثمانينات عندما نجحت "لجنة الطاقة النووية الباكستانية" في تصنيع وقود نووي محلي في 1982 - 1983 فعقد لقاء ثلاثي ضم رئيس وزراء اسرائيل اسحق شامير، ورئيس وزراء الهند راجيف غاندي، والرئيس الأميركي رونالد ريغان في عام 1985 في واشنطن، وبحث في كيفية مواجهة البرنامج الباكستاني. وبدأت اسرائيل منذ ذلك الحين في اعداد خطة تستهدف قصف المجمع النووي في كاهوتا، بالتعاون مع الهند، لتدميره كما دمر مفاعل العراق النووي أوزيراك في عام 1981. وكشفت زيارة وزير داخلية الهند الحالي ل.ك.أدغاني لإسرائيل في حزيران يونيو 2000 عن خطة قدمتها اسرائيل الى ادارة الرئيس جيمي كارتر في السبعينات لتدمير مجمع كاهوتا النووي. واقترحت هذه الخطة وسيلتين لذلك: إما من طريق التخريب الداخلي بواسطة عملاء، أو بقصفه بطائرات مجهولة من طريق الهند. ورفضت ادارة كارتر هذه الخطة. وعندما استكملت الهند تطبيع علاقاتها مع اسرائيل في عام 1992، عقد المسؤولون الأمنيون في البلدين محادثات مكثفة في تل أبيب لتنسيق جهودهما من أجل مواجهة البرنامج النووي الباكستاني. وشمل التنسيق مجال المعلومات وتمركز طائرات اسرائيلية في مطارات هندية، والتدريب على المهمة لتنفيذ هجمة جوية مشتركة. وحرصت الهند على سرية التعاون حتى لا تعرض مصالحها الاقتصادية في العالم العربي للضرر. العمالة الهندية تضخ حوالى 6 بلايين دولار سنوياً في الخزانة إضافة الى تخوفها من انتقام باكستان وتفجير المنشآت الهندية القريبة من بومباي. وكشف تقرير لمؤسسة كارنيجي، وكذلك صحيفة "واشنطن بوست" عن طلب اسرائيل مساعدة الهند في تدمير المصانع النووية الصاروخية الباكستانية، وهو ما أكدته كل من محطة "صوت اسرائيل" و"راديو لندن" بعد ذلك، عندما ذكرا ان الأجهزة الأمنية في الهند واسرائيل تعكفان على جمع معلومات عن البرامج النووية والصاروخية في كل من باكستان وايران. وكانت حكومة نتانياهو طلبت من الادارة الأميركية ممارسة ضغوط على باكستان لوقف برنامجها النووي، مهددة بفرض عقوبات عليها إذا أقدمت على اجراء تجربة نووية. وكان اسحق مردخاي، وزير دفاع اسرائيل في حكومة نتانياهو، اصدر قراراً بوضع جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان" والقوات الجوية والصاروخية الاسرائيلية في حال تأهب قصوى عقب اجراء الهند تجاربها النووية في 18 أيار مايو 1998. وأعلنت باكستان في حزيران 1998 ان مقاتلات اسرائيلية وصلت الى قاعدة بيمنغار الجوية الهندية المتقدمة لشن هجوم متوقع ضدها، وكشفت اجهزة الاستخبارات الباكستانية عن وجود قوة جوية هندية - اسرائيلية مشتركة تضم سرباً من مقاتلات "إف 15"، "إف 16" الاسرائيلية تخصصت لمهمة قصف مجمع كاهوتا النووي، وأن طائرة استطلاع اسرائيلية طراز "موهوك" موجودة في الهند لمصلحة هذه المهمة. وجمدت هذه الخطة بتدخل مباشر من واشنطن عندما قدمت اسلام آباد ضمانات للولايات المتحدة واسرائيل بأنها لن تنقل خبراتها النووية الى أي دولة عربية أو اسلامية، وان البرنامج الباكستاني ليس موجهاً ضد اسرائيل بل يستهدف تحقيق التوازن النووي في مواجهة الهند. ومنذ تفجيرات باكستان النووية التي أجريت في حزيران 1998 رداً على التفجيرات النووية الهندية، تكثفت الاتصالات بين الهند واسرائيل من أجل خلق الظروف المناسبة لقصف المنشآت النووية والصاروخية الباكستانية. ولاحت هذه الظروف عندما تفجر الوضع بين الهندوباكستان في منطقة الحدود بينهما في منطقة مرتفعات "كارغيل" في أيار 1999، الا ان ادارة كلينتون كشفت هذه الاتصالات في حينها، وسارعت الى ايقاف المخطط حرصاً على مصالحها في العالم العربي. ومنذ وصول حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي المتطرف الى حكم الهند في آذار مارس 1998، وضع على قمة برنامجه الانتخابي تدعيم علاقات الهند مع اسرائيل، لا سيما حيال القضيتين اللتين يُطلقان عليهما "القنبلة النووية الإسلامية" و"الإرهاب الإسلامي". المنشآت النووية وأحداث أفغانستان عندما نشبت الأزمة الأفغانية عقب ضربة 11 أيلول سبتمبر الماضي، وقررت الولاياتالمتحدة شن حملة عسكرية ضد الارهاب، بدءاً من أفغانستان بحجة انها تأوي تنظيم "القاعدة" الذي يتزعمه أسامة بن لادن المتهم بهذه الأحداث، برزت أهمية موقع باكستان الجغرافي لإنجاح الحملة الأميركية. وعلى رغم الموقف الصعب الذي واجهه الرئيس الباكستاني برويز مشرف، اضطر الرئيس ان يستجيب الى المطالب الأميركية حرصاً على مصالح باكستان الحيوية وخصوصاً ما يتعلق بتأمين منشآتها النووية. شرط ألا تشارك أيٌ من الهند أو اسرائيل في التحالف وهو ما استجابت له واشنطن. إلا ان تصاعد التظاهرات الشعبية في باكستان، من قبل الجماعات والأحزاب الإسلامية احتجاجاً على مشاركة باكستان في التحالف الذي تترأسه الولاياتالمتحدة، أثار مخاوف واشنطن من احتمال سقوط نظام الرئيس مشرف، وتولي نظام اسلامي متشدد السلطة في اسلام آباد يسيطر على الترسانة النووية التي تقدرها الاستخبارات الأميركية عام 1999 بحوالى 585 - 800 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب 235 وحتى 13 كيلوغراماً من البلوتونيوم المفصول 239، وهو ما يكفي لصنع 30 - 05 قنبلة نووية. ويذكر ان باكستان تخزن أسلحتها النووية وسط اجراءات امنية، أبرزها فصل الأجزاء الانشطارية عن الأجزاء غير النووية أثناء التخزين، ونشر هذه الأسلحة في أماكن متفرقة، وتغيير أماكن تخزينها باستمرار تحسباً لأي هجمات جوية أو تخريبية. إلا ان أجهزة الاستخبارات الأميركية حددت ثلاثة أنواع من التهديدات يمكن ان تتعرض لها ترسانة باكستان النووية، وهي: أ - تهديدات خارجية: يحتمل ان تتمكن احدى المنظمات المتطرفة الإرهابية خارج باكستان، لا سيما من جانب منظمة "القاعدة" من الوصول الى المستودعات وسرقة احدى القنابل، أو المواد الانشطارية، ونقلها باستخدام طرق تهريب المخدرات والأسلحة، وبيعها لمنظمات أو دول أخرى. واعتقلت الأجهزة الأمنية الباكستانية عدداً من العلماء النوويين على رأسهم سلطان بشير الدين محمود موجهة لهم اتهامات بإجراء لقاءات مع اسامة بن لادن في أفغانستان. وخشية الولاياتالمتحدة ان يكون هؤلاء العملاء يشكلون القناة التي يحصل من خلالها بن لادن على احتياجاته النووية، لا سيما أن بن لادن اعترف لصحيفة "أوساف" الباكستانية بأنه يحتفظ لتنظيمه بحق الرد النووي إذا تعرضت أفغانستان لهجوم اميركي بأسلحة كيماوية. ب - تهديدات داخلية: تتمثل في قيام بعض الأفراد العاملين في المنشآت النووية الباكستانية، ممن ينتمون الى جماعات اسلامية متشددة، بنقل أسلحة نووية أو مكوناتها لحسابهم الخاص، بهدف السيطرة عليها لاستخدامها في التزاز السليطات الباكستانية لفرض مطالب سياسية معينة على الصعيدين الداخلي أو الخارجي لصالح الجماعات التي ينتمون اليها، أو جهات أجنبية لم يسبق التعرف عليها. وتبرز هذه التهديدات بصورة أخطر في حال حدوث انقلاب عسكري يقوم به ضباط يوالون احدى الجماعات الإسلامية. ج - تهديدات داخلية خارجية: تبرز في حال تعاون عناصر في داخل باكستان مع عناصر من خارجها - دول أو منظمات ارهابية مثل المافيا - للحصول على أسلحة نووية أو أجزاء منها أو مواد انشطارية، اما بهدف الكسب المادي، أو التضامن الايديولوجي، وقد تتفاقم الخطورة في الداخل اذا وقعت حرب أهلية في باكستان يترتب عليها فقدان السلطات السيطرة على خطوط الاتصالات والتحكم مع المسؤولين الأمنيين عن الأسلحة النووية. المساعدة الأميركية الأمنية لباكستان تشير نشرة صادرة عن مجلة Isis Geue Brief التابعة لمعهد العلوم والأمن الدولي، تحت عنوان "ضمان أمن ترسانة باكستان النووية: أسس المساعدة"، كتبها ديفيد أولبرايت وكيفين أويتل في 4/10/2001، الى انه في ضوء تزايد التهديدات التي تتعرض لها أسلحة باكستان النووية، أصبح لزاماً على الحكومة ان تقدر حجم الاجراءات الأمنية المطلوبة في هذا المجال، ومن ثم فإنه يتعين على الولاياتالمتحدة ان تقدم المساعدات اللازمة بما يجعل اسلحة باكستان النووية أكثر أمناً. وذكرت النشرة ان هذه المساعدات نوقشت في المباحثات الثنائية بين البلدين، وأن هذه المساعدات ينبغي ان تركز أولاً على الاجراءات والتكنولوجيات التي باستطاعة الولاياتالمتحدة ان تقدمها لحماية جسم المنشآت النووية، والتأكيد على أساليب التخزين التي تؤمن فصل أجزاء الأسلحة النووية عن بعضها في أماكن متباعدة، وبما يصعب على شخص أو أشخاص غير مسؤولين الوصول الى مكونات السلاح. ويتطلب هذا الأمر مشاركة أشخاص في قمة السلطة، وليس فرداً واحداً يتمتع بحرية الوصول الى سلاح نووي مجمع، يؤمن الحصول على شفرات من مختلف كبار المسؤولين، وهو النظام المتبع في دولة جنوب أفريقيا. وطالبت النشرة بإجراءات أخرى معلوماتية وأمنية تستهدف منع منظمات ارهابية أو متطرفة من الوصول الى الترسانة، يمكن ان تسهم فيها أجهزة الأمن والمخابرات الأميركية، بعد اقتلاع بن لادن من أفغانستان، وتثبيت حكومة الجنرال برويز مشرف. وفي هذا المجال فإن برنامجاً لانعاش الحال الاقتصادية والاجتماعية لشعب باكستان تقوم به الولاياتالمتحدة، يحد كثيراً من الأنشطة الداخلية المعارضة للحكومة. وفي هذا الشأن يقول رئيس معهد العلوم والأمن الدولي ديفيد اولبرايت: "ان شن الحرب على الارهاب ينبغي ان يبدأ بضمان استقرار باكستان المسلحة نووياً، والا فإن التهديد الارهابي سيصبح تهديداً نووياً ويتخذ ابعاداً جديدة ومخيفة". * لواء ركن متقاعد، وخبير استراتيجي مصري.