القضية الملحة الآن والتي عجل بتفجيرها قرار لجنة الانتخايات الإسرائيلية استبعاد إثنين من أشهر زعامات الجالية العربية في إسرائيل من الترشيح، هل هي أزمة الديموقراطية في إسرائيل وعجزها عن تقديم حل لمشكلة العرب الذين أصبحوا أقلية بالنسبة إلى مجموع الشعب الإسرائيلي، أم هي فعلاً أزمة هوية بالنسبة إلى عرب إسرائيل. فعرب إسرائيل الذين عرفوا في الأدبيات السياسية والقانونية بأنهم عرب 1948 هم أصحاب الأرض وهم في مساكنهم التي أحاط بها الشعب الإسرائيلي بعد قيام دولة إسرائيل فأصبحوا - رغماً عنهم- أقلية أجنبية ليس لها جنسية أو هوية في دولة أخرى. وكانت صورتهم لدى تيار مبكر من الفكر القومي أنهم يجب أن يفروا من إسرائيل وألا يقبلوا العيش في هذا الكيان الغريب الذي تلفظه المنطقة ولن يعترف به العالم، ولم يكن أمامهم خيار وأصروا على أن يقروا في منازلهم وقلوبهم مع من لجأ إلى الخارج من أهليهم أو من يقيم في بقية فلسطين من ذويهم. وكلما ترسخت دولة إسرائيل، خصوصاً بعد العام 1967، زاد اقتناع عرب إسرائيل بأن التسوية - أي تسوية - ستتركز ليس على إزالة إسرائيل وتفكيكها، كما اعتقد العالم العربي قبل العام 1967، ولكن على الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في ذلك العام نفسه، وأن يكون حجم الدولة الاسرائيلية حتى 4 حزيران يونيو هو غاية المنى في آمال العالم العربي. ومؤدى ذلك أن ترتيب أوضاعهم داخل إسرائيل أصبح أمراً إجبارياً، ولا بديل له سوى القفز إلى المجهول أو إلى مخيمات في دول مجاورة أو كالمستجير من الرمضاء بالنار. ومن ثم بدأ عرب إسرائيل يدربون أنفسهم، خصوصاً مع الأجيال الجديدة، على العيش وفقاً لنمط الحياة الإسرائيلية. من دون أن يخبو الأمل لديهم في إمكان أن تنهض القومية العربية من كبوتها. وهكذا ظلوا معلقين بين الأمل البعيد الذي يخبو كلما تفرق العرب وبين الواقع الذي غذاه إتجاه التسوية، والذي لا نشك أنه وجد ارتياحاً لدى عرب إسرائيل لسبب بسيط، وهو أنه يجنبهم التناقض السلوكي والوجداني بين الواقع الإسرائيلي، والواقع العربي. ولأن هذا السلام، خصوصاً مع الفلسطينيين، سيؤدي إلى تطبيع حياتهم وإعادة ما انقطع في علاقاتهم مع ذويهم وأصولهم، كما أن مثل هذا السلام يرفع الحرج عنهم والإزدواج القاتل الذي يعانونه بين كل ما هو عربي وفلسطيني وبين كل ما هو إسرائيلي. وهناك ميزة أخرى لهذا السلام بالنسبة إلى عرب إسرائيل، وهي رفع شبهة التعايش مع "العدو" أو العمالة له أو إعانته في مخططاته ضد العالم العربي. ولا شك من أن هذا الإزدواج بين صورة العالم العربي، وما يجري فيه، وصورة إسرائيل، قد تفاقم وأدى إلى صعوبة الاختيار في لحظة نادرة من لحظات هذا الاختيار منذ انتفاضة الأقصى في أواخر ايلول سبتمبر 2000. ولعل تلك واحدة من أهم نتائج هذه الإنتفاضة، وهي ظهور الوعي بالذات الفلسطينية الواحدة، والتوحد مع مأساة ذويهم في الضفة والقطاع، وإعلان انحيازهم صراحة لقضية الشعب الفلسطيني وحقه في دولة على أرضه، وحقه أيضاً في الحياة والكرامة. ولا شك أيضاً في أن تفاقم أعمال القمع الإسرائيلية، وتزايد وتيرة المقاومة الفلسطينية وبحار الدماء التي تسبب فيها هذا القمع في فلسطين وطال في الوقت نفسه كل شرائح المجتمع الإسرائيلي قد سبب عدداً من الآثار بالنسبة إلى عرب إسرائيل. أول هذه الآثار هو أن عرب إسرائيل فرض عليهم البحث عن صيغة للتوفيق بين انتمائهم الفلسطيني الفكري والعاطفي والوجداني، وبين انتمائهم القانوني والواقعي والجسدي إلى إسرائيل، ما أدى إلى النتيجة الثانية وهي أن المجتمع اليهودي الذي يميز أصلا بين اليهود وغيرهم زاد تمييزه ضد عرب إسرائيل، واعتبرهم، إن لم يكونوا غرباء على المجتمع اليهودي، فهم منحازون إلى أعداء هذا المجتمع في قضية الأمن الحساسة التي عولجت بشكل انتهازي. وبذلك قضى هذا الشعور أو أثر على ما تشكل خلال الخمسين عاماً الماضية من فرص التعايش والإندماج داخل المجتمع الإسرائيلي اليهودي وغير اليهودي. أما النتيجة الثالثة، فهي ما رأيناه من استبعاد لجنة الانتخابات لكل من الطيبي وبشارة وهما جزء من النظام السياسي الإسرائيلي وأعضاء في الكنيست بحجة أنهما يدعوان إلى عدم الاعتراف بإسرائيل. والحق أن الجدل حول الوضع السياسي لعرب إسرائيل أنتج بعض المقولات المهمة، ولكنني سأكتفي بمناقشة إحداها لأهميتها على المستوى الفكري والعملي. فلا يخفي عرب إسرائيل أنهم يفخرون بانتمائهم العربي القومي، وهذا هو الإتهام الذي على أساسه استُبعد السياسيان الفلسطينيان، وأن هذا الإنتماء القومي لا يتفق مع الإنتماء الإسرائيلي. وهذه الفرضية تقوم على شيء من عدم الدقة لأن الإنتماء إلى الأمة العربية أو إلى الفكر القومي لا يعني عدم الاعتراف بإسرائيل، بل إن العالم العربي يلح صباح مساء على أن تجلو إسرائيل عن الأراضي العربية وأن يعترف بها كل العالم العربي. فالمشكلة إذن تتعلق بالإحتلال الإسرائيلي لأراضٍ غير إسرائيلية في فلسطين وسورية ولبنان. بل إن الفصائل الفلسطينية جميعاً تتحدث عن التسوية مع إسرائيل، وليست تسوية مكان إسرائيل أو بافتراض زوالها ولم تعد صيغة تحرير الأرض من النهر إلى البحر أو تحرير فلسطين التاريخية مما يتمسك به أحد من غلاة المفكرين القوميين. ومعنى ذلك أنه لا يجوز أن تنظر إسرائيل إلى إنتماء عرب فلسطين إلى العالم العربي الذي يريد السلام معها على أنه يناقض مقتضيات تمتع هؤلاء العرب بالجنسية الإسرائيلية، وواجب الولاء الذي يمليه هذا الرابط القانوني. والقول بغير ذلك سيؤدي إلى نتائج بالغة الغرابة، منها أنه لا يجوز لطوائف المجتمع الأميركي مثلاً التي تنتمي إلى شعوب العالم قاطبة أن تظهر أصولها واعتزازها بها جنباً إلى جنب مع إعتزازها بإنتمائها للجنسية والمجتمع في الولاياتالمتحدة، ويؤدي المنطق الإسرائيلي إلى تنكر هؤلاء جميعاً لبلادهم الأصلية. صحيح أنه عند الاختيار قد تحدث أزمة في الولاء، ولكن هذه الحالات نادرة. فالأميركي من أصل عراقي لا يسعده قطعاً أن تهاجم الولاياتالمتحدةالعراق، وإن جاز أن يفرق ذهنياً بين الشعب وسلامته ونظام الحكم وسياسته، لكن جنسيته الأميركية تلزمه بالخدمة العسكرية وبعدم العمل ضد مصالح الولاياتالمتحدة. وصحيح أيضاً أن الحالة أكثر دقة في وضع إسرائيل، ولكن إسرائيل بسياستها التي تنكرت فيها للقيم الديموقراطية والأخلاقية في التعامل مع الملف الفلسطيني، خسرت الكثير في العالم العربي والعالم كله، خصوصاً مع الشق الفلسطيني وهو الأهم بالنسبة إليها، وأهم خسائرها زرع الشك في فرص التعايش مع الشعب اليهودي. ويبدو أن إسرائيل لم تتنبه إلى حجم المكاسب التي تحققت لها قبل انتفاضة الأقصى خصوصاً وتعويق عملية السلام على يد نتانياهو منذ العام 1996، وأهم هذه المكاسب هي حالة الاستعداد غير المعلن والبطيء من جانب العالم العريي الرسمي والشعبي لقبول إسرائيل في المنطقة، وإن ظل الإصرار قائماً على ضرورة قبولها كدولة عادية تنافس العرب على الخير وليس على التسلط والعدوان واستعراض القوة. والمحقق أن نجاح النموذج الديموقراطي الإسرائيلي يقاس بمعيار داخلي وهو قدرته على دمج عرب إسرائيل كما نجح النظام الأميركي في اجتذاب العالم كله إلى العيش في كنفه قبل 11 ايلول سبتمبر 2001، كما يقاس بمقياس خارجي وهو سلوك إسرائيل إزاء قضية الاحتلال وإقامة علاقات ودية مع الضفة والقطاع ثم مع جيرانها العرب، وبذلك تكفل لشعبها، ولشعوب المنطقة كلها الأمن الحقيقي الذي ستدرك إسرائيل يوماً ليس ببعيد أن أمنها لن تكفله مظاهر القوة والبطش والتسلح بكل أنواع الأسلحة، واستعراض القوة والفتك بالفلسطينيين لمجرد أنهم يطالبون بإنهاء الإحتلال وإحترام حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي مقدمها حقهم في تقرير المصير. إن عرب إسرائيل ميدان خصب وساحة صالحة لتجربة مصير الديموقراطية الإسرائيلية، والإقلاع نهائياً عن النظرة الشارونية إلى الأمور بشكل عنصري وصراعي. ويجب أن يكف اليمين الحاكم عن النظر إلى عرب إسرائيل على أنهم قنبلة موقوتة وأنه يجب التخطيط للتخلص منهم حرصاً على نقاء التكوين اليهودي للدولة. فلا يزال بوسع إسرائيل أن تبرهن لنا على أنها الديموقراطية الوحيدة التي يعتز بها الغرب، وأن عرب إسرائيل جزء من مجتمع إسرائيل الذي يجب أن يتنوع ثقافياً وعرقياً ودينياً، فلم يعرف التاريخ منذ عهد روما القديمة ديموقراطية قامت على دين واحد وشعب واحد، بينما ظلت الأعراق الأخرى خارج دائرة الكومنولث الديموقراطي. وأخيراً فإن الغرب يعلم جيداً بل يعترف في تاريخه وأدبياته بأن الإرتباط وثيق بين الطبيعة الديموقراطية للنظم السياسية، وبين السلوك السياسي الخارجي لهذه النظم، فبمقدار ديموقراطيتها يعظم حبها للسلام لها ولغيرها. * كاتب مصري