أحمد ثابت عصر "السلام" الاسرائيلي : الأمن قبل التسوية دائماً دار الحسام، القاهرة - 1997 120 صفحة يحاول هذا الكتاب أن يساهم في الجهود الفكرية والبحثية التي يقدمها كتاب عرب حول المفاهيم والمدركات الاسرائيلية للسلام وللتسوية. وفيما يبدو أنه أراد من عنوانه أن يدفع القارئ للتساؤل المحمل بالاستغراب والدهشة، فان النظرة الأولية تقول: لكن هل تريد اسرائيل السلام؟! ونظرة متعمقة تذهب إلى أن "السلام" ذاته له معان ودلالات ومضامين متعددة ومتباينة. هناك مثلاً "السلام الامبراطوري" الذي حملته الامبراطوريات الكبرى الزائلة وتحمله الآن قوة عظمى هي الولاياتالمتحدة، وهناك "سلام الهدنة" و"سلام بارد" و"سلام ثنائي" و"سلام إقليمي". وفي هذا الإطار يتحدث الطرف الأقوى والمهيمن عن تصوره للسلام سواء كان متماسكاً داخلياً أي من حيث منطقه الداخلي ومدى سلامته أو كان غير متجانس. ولو كانت القوة، قوة السياسة والسلاح والاعلام والدعاية، تفرض على الطرف الأضعف أو الطرف البعيد عن مواقع الحدث أن يحاول إقناع نفسه بأن "سلام الأقوى" متجانس!. وفي هذا الصدد، طرحت دوائر البحث والتخطيط الاسراتيجي والحرب والكتل السياسية والدينية الكبرى في اسرائيل مفاهيم مركبة ل"السلام" وصلت في مستويات تعقيدها وتشابكها إلى حد أن غالبية المفاوضين العرب وممثلي الإدارات الأميركية يفاوضون في الإطار الذي تطرحه المفاهيم والمشاريع الاسرائيلية للتسوية، أو يفاوضون على تخومها وهوامشها من أجل تحسين المطالب أو إضافة مطالب وخرائط هي غالباً معدلة وأحياناً قليلة جديدة. وكما يتبين من الكتاب الذي يحتوي ثلاثة فصول موسعة، فان التصورات الاسرائيلية لا تستند إلى أي مرجعية دولية سواء كانت مستمدة من قواعد وأعراف السلم والحرب أو من الاتفاقات والمعاهدات الدولية أو المواثيق والإعلانات العالمية. فالشعب الفلسطيني، مثلاً، في الإدراك الاسرائيلي السائد هو "سكان الأراضي" وهو إذن ليس شعباً محتلاً، والأراضي العربية والفلسطينية المحتلة هي "أراضي مدارة" أو "الأراضي" أو "يهودا والسامرة" لكي يتم خلق "صورة منطبعة" تهيء الأذهان لتقبل الدوافع الخفية لنفي الاسم والرمز والتاريخ لفلسطين. ويكشف المؤلف أن التصور الاسرائيلي للسلام يقوم على نحت "مصطلحية" خاصة به منبثقة من شبكة ا لأساطير والمزاعم والادعاءات التي يحتويها المشروع الصهيوني اللا تاريخي. فالتصور الاسرائيلي للسلام خلق لنفسه ونجح في أن يوهم قطاعات مؤثرة من دوائر صناعة السياسة والقرار في الغرب وبعض شرائح الرأي العام الغربي بسلامة وسلاسة منطلقاته في التسوية والأمن والمستوطنات ووضع القدس والحدود وأشكال العلاقات مع الدول والشعوب العربية. ويتعرض الكاتب للتطورات الطفيفة التي لحقت بالعقيدة الأمنية الاسرائيلية لكي تواكب مناخ التسوية مع مؤتمر مدريد، وتأتي أهمية دراسة هذه التطورات من واقع أن الأمن يعتبر المحرك الرئيسي للتصور الاسرائيلي ل"السلام" ولقضايا التسوية: الأراضي، الحدود السياسية، سباق التسلح، ضبط التسلح، السلاح النووي، الاستيطان، المياه، القدس واللاجئين. ويبدو أن التطورات الطارئة على الاستراتيجية العسكرية الاسرائيلية سارت في اتجاه سلبي بتبني مفاهيم مطورة من حيث المغزى السياسي والإخراج المسرحي. فالقادة والمخططون العسكريون يقصدون بمهفوم الردع، على سبيل المثال، معنى فريداً وشاذاً يختلف عن المفهوم المتعارف عليه في العقائد الأمنية. فليس المقصود خلق إدراك لدى العدو أو الطرف الآخر بأن استخدام القوة أو التهديد باستعمالها كفيل بتهديد الأمن القومي للدولة، بل إفهام الدول العربية والأطراف العربية التي احتلت اسرائيل أراضيها بعد عدوان حزيران يونيو 1967 بأن أي محاولة للإقدام على استعادة هذه الأراضي أو جزء منها باستخدام القوة الذاتية أو بتشجيع أطراف أخرى غير رسمية، يؤدي إلى تحرك عسكري فوري بهدف إنزال هزيمة ساحقة ومميتة. هذا فضلاً عن أن مفهوم الردع الاسرائيلي يتأسس على أن اسرائيل هي التي تحدد مستويات القدرة العسكرية والتسليح لدى العرب عند ضوابط معينة لا تتعداها كي لا تهدد التفوق النوعي المطلق أو الكاسح الذي يجب أن تحافظ عليه الآلة العسكرية الاسرائيلية. هذا فضلاً عن أن الاحتكار الاسرائيلي للقدرة النووية يعد رادعاً نفسياً واستراتيجياً ينبغي أن تظل تل أبيب محتفظة به لأطول مدى ممكن، والمفترض أن الدولة التي تأخذ بالردع يجب بدهياً أن تكون معلومة الحدود السايسية ومحددة الكيان الترابي. لكن اسرائيل لديها مفهوم آخر مضمونه أن مساحة الدولة تظل في حال تمدد وإتساع تبعاً لما تسميه "مقتضيات" و"احتياجات" الأمن. فالدولة - حسب مفهوم الردع الاسرائيلي - تنمو من خلال اكتساب أجزاء ذات أهمية استراتيجية واقتصادية من أراضي الدول المجاورة. وهنا تعتبر المستوطنات بمثابة تجميعات استراتيجية مناسبة وكجزء لا يتجزأ من مساحة الدولة وكيانها الترابي. ومن الملاحظ أن المفاوض الاسرائيلي تجاوب مع مناخ التسوية، عن طريق ابراز أن هناك شبه إجماع بين الكتل السياسية والدينية الرئيسية حول أهمية عدم العودة بتاتاً لحدود عام 1967، وأن اسرائيل تطالب دائماً في أي تسوية باجراء تعديلات أساسية على هذه الحدود بما يعني عملياً عدم الانسحاب من الأراضي المحتلة وانما "إعادة الانتشار" داخلها بالنسبة للأراضي الفلسطينية و"الانسحاب في داخل الجولان" وليس من الجولان. ومن الملاحظ أن هذه المبادئ الأمنية تستند لواحدة من أبرز الاستراتيجيات العسكرية التي أخذت بها ألمانيا النازية وتسمى ب"استراتيجية الانكشاف"، بمعنى أن أمن الدولة يتطلب إضعاف الخصم أوإشعاره بعدم الأمن، وأن العمليات العسكرية الوقائية الدورية مطلوبة باستمرار لتحقيق هذا الهدف. وعن الردع النووي، تتصور دوائر الحرب والتخطيط الاستراتيجي في اسرائيل أهمية قصوى لاستمرار انفرادها به انطلاقاً من المعطيات التالية التي تذكرها هذه الدوائر: 1- هناك دور سياسي يضطلع به الرادع النووي، فهو يمكن اسرائيل من ضمان أن تكون في وضع الطرف غير القابل للهزيمة، بل إن احتكار السلاح النووي هو الذي سيدفع بالمنطقة نحو "سلام حقيقي" دائم وهو الذي سيحافظ على الاستقرار السياسي والأمني. 2- لأن مفاوضات التسوية عموماً لا يحقق فيها أي طرف مطالبه كاملة، فإن مشاعر الشك بين الأطراف سوف تبقى على ما هي عليه على الأرجح، ما يفرض ضرورة الابقاء على قدرة فائقة على الردع أي الرادع النووي وبأسلحة لا يملكها العرب أي السلاح النووي بما يؤدي إلى منع أي أعمال عدائية محتملة، ومن هنا تتوازن المنطقة استراتيجياً. 3- إن اسرائيل لم يحدث أن استخدمت أو هددت باستعمال السلاح النووي من قبل يلاحظ أن التهديد بالاستعمال حدث فعلاً إبان حرب تشرين الاول - أكتوبر كما كشفت مصادر أميركية وغير أميركية عدة، كما أن اسرائيل لم تلوح بهذه القوة في أي حرب أو صراع مسلح مع العرب رغم دقة وحرج موقفها في بعض الأحيان. واسرائيل لن تلجأ إلى السلاح النووي إلا ك "ملاذ أخير" Last Resort اذا ما تعرض وجودها ذاته للخطر. ومن ثم فهذا السلاح ليس لشن الحرب، بل ل"إشاعة" السلام ومناخ الانضباط في المنطقة. وهكذا فإن اسرائيل لا تؤمن بالمبدأ القائم على قاعدة "توازن الردع" المعروفة في التقاليد الاستراتيجية، بل تصر على أن "السلام" يجب أن يُشيد على ميزان للردع ينفرد به طرف معين بالقدرة على جعل الآخرين يسعون من تلقاء أنفسهم الى تبني خيار التسوية السلمية، حتى لو لجأ ذلك الطرف الى استخدام القوة ضدهم. ينتقل الكاتب الى استراتيجية التفاوض الاسرائيلية والتي تتأسس على مرتكزات رئيسية عدة مع اختلافات طفيفة بين حكومات العمل وليكود. ومن أهم هذه المرتكزات مفهوم السلام نفسه والذي ينصرف لدى المفاوض الاسرائيلي إلى أن اسرائيل بحاجة إلى مزيج يجمع بين استمرار امتلاك قوة ردع استراتيجي مناسبة واجراءات فاعلة من "بناء الثقة" على الأطراف العربية ذاتها، ووحدها، أن توفرها كي "تشجع" اسرائيل على الدخول في عملية التفاوض. ومن جانب آخر يتأسس التصور الاسرائيلي عن "السلام" على عدم تمكين المفاوض العربي من إثارة القضايا الرئيسية للتسوية، وهي في الوقت نفسه أخطر مصادر الصراع مثل الأراضي المحتلةوالقدس واللاجئين والمياه. وغالباً ما كانت اسرائيل تضطر للتعامل مع هذه القضايا عندما تتعرض لضغوط خارجية عليها وبخاصة من قبل الولاياتالمتحدة. وفي ذلك سبق أن عبر اسحق شامير في محادثات مع جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي الأسبق إبان جولاته المكوكية في المنطقة للإعداد لمؤتمر مدريد: فقد ذكر يوم 24/7/1991 "انني لا أؤمن بالحلول الوسط في ما يتعلق بالأراضي، فإن بلدنا صغير جداً، وهذه الأرض تتصل بحياتنا كلها: بأمتنا ومياهنا واقتصادنا. وأنني أؤمن بكياني كله أننا نرتبط ارتباطاً أبدياً بهذا الوطن كله، إن السلام والأمن متلازمان، كما أن الأمن والأرض والوطن كيان واحد". وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن الملامح الرئيسية لاستراتيجية التفاوض الاسرائيلي: أ- التركيز على تبادل العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية والثقافية والسياحية قبل أي شيء، والسعي الى خلق وتعزيز الظروف التي تتيح الاحتفاظ بزمام المبادرة وتوجيه العملية التفاوضية في هذا الاتجاه. ب- التقدم البطيء الذي يُفضل أن يتم على مراحل بما يعطي فرصة لاختبار النيات وتطبيق اجراءات بناء الثقة. ج- الاصرار على الطابع الثنائي للمفاوضات بعيداً عن أي إطار دولي، ومن هنا رفضت اسرائيل دائماً صيغة المؤتمر الدولي. د- الإصرار على استبعاد أي مرجعية قانونية دولية للمفاوضات. بعد ذلك يتناول الكاتب ملامح ما تطرحه اسرائيل بخصوص السلام الإقليمي والأسس التي يجب تأسيسه عليها. الا انه كان ينبغي على الكاتب أن يقدم رؤى تفصيلية للكتل السياسية والدينية الرئيسية في اسرائيل، ونظرتها الى قضايا الأمن والتعايش أو الانفصال الحضاري والديموغرافي، ولما تتصوره هذه الكتل من رؤى للمستقبل.