تصريح البطريرك الراعي، رئيس الكنيسة المارونية في لبنان بأن النظام السوري الحالي أفضل تعاملاً مع الطائفة المسيحية السورية من أي نظام آخر سيأتي بعده، كان له أثر سلبي عند غالبية مسيحيي سورية؛ ما دعا بابا الفاتيكان إلى أن يرد على ذلك التصريح بقوله: «نحن منزعجون جداً من تصريحات البطريرك التي وقف فيها إلى جانب نظام الرئيس السوري بشار الأسد ضد الشعب السوري»، كما أن محاولة النظام السوري اللعب على هذه الورقة الأخيرة، بتخويف بعض إخواننا من الطائفة المسيحية من الأحداث الجارية في سورية باءت بالفشل. إن مسيحيي سورية هم سكانها الأوائل قبل أن يدخل الإسلام إليها، ويشكل عددهم فيها من جميع الطوائف نسبة 14في المئة من السكان، وسكان سورية من أوائل الشعوب التي اعتنقت الديانة المسيحية، فقد وصلت الديانة المسيحية إليها على يد بولس الرسول بعد وفاة المسيح، عليه السلام، ببضع سنوات، حين اعتنق الآراميون (السوريون القدماء) الديانة المسيحية، إذ كانت اللغة الآرامية لغة المسيح، كما اعتنقت بعض القبائل العربية التي كانت قد استوطنت سورية، آنذاك، الديانة المسيحية، مثل الغساسنة في حوران، وبني تغلب الذين قطنوا منطقة حلب ومنطقة الجزيرة منذ عصر ما قبل الإسلام. ينتمي المسيحيون في سورية إلى كنائس عدة، لغتهم الأم العربية، وتستخدمها الكثير من الكنائس كلغة طقسية، إضافة للآرامية السورية القديمة (السريانية)، ولا يزال هناك بعض القرى في سورية ينطقون باللغة السريانية، منها: قرية معلولا، وجبعدين، وبخعا، وقلدون التي تبعد من مدينة دمشق نحو 60 كم. بل إن هناك الكثير من أسماء المدن والقرى ذات أصل سرياني، مثل دمشق (درمسوق)، وتدمر، التي تعني العجب، وحماة (حارة)، وكفرسوسة (قرية الفرس). كما أن هناك كثيراً من الكلمات المستخدمة في اللهجات العامية في سورية أصلها سريانية. يقول المؤرخون: استطاع معاوية بن أبي سفيان، أول خلفاء بني أمية، أن يستميل أهل الشام من الطائفة النصرانية، فعاضدوه في إدارة الخلافة. وطور جهازاً إدارياً منظماً جعل مقره حول المسجد، الذي كان معبداً رومانياً يسمى معبد جوبيتر، إذ كان المسيحيون يقيمون صلاتهم في هيكله؛ بينما كان هو يصلي في زاوية فنائه قرب قصر الخضراء، حيث كان يقيم. وكانت الدواوين والسجلات في عصر عبدالملك بن مروان تدون باللغات العربية، والقبطية، والسريانية، بحسب المناطق التي انتشر فيها الإسلام في ذلك العصر. وعلى رغم انتشار الإسلام في أرجاء سورية، فقد ترك الأمويون المسيحيين على دينهم. إذ كان المسيحيون يدخلون من باب واحد مع المسلمين لأداء شعائرهم الدينية في الشطر المحاذي للمسجد الأموي، الذي كان منذ عهد الوثنية معبداً للشمس (جوبيتر)؛ ثم تحول إلى كنيسة يوحنا المعمدان. ولما جاء الإسلام، وثم فتح دمشق، شطراً بالسلم، وشطراً بالقتال والحرب، اختصّ المسلمون بشطر، وبقي المسيحيون في الشطر الآخر. وارتأى المسلمون أن يتم التخاصص بينهما باستقلال المسلمين في مكان المسجد الأموي، مقابل استقلال المسيحيين بالكنائس الأخرى. كان مسيحيو سورية قوميين وغيورين على عروبتهم أكثر من المسلمين في كثير من الأحيان. إذ حارب (الجراجمة) سكان الجرجومة، الواقعة شمال سورية بالقرب من أنطاكيا، بجانب إخوانهم المسلمين تحت قيادة حبيب بن مسلمة الفهري. ومثل ذلك حدث أيضاً مع أهل حمص عندما حاربوا في صفوف جيش أبي عبيدة عامر بن الجراح في موقعة اليرموك ضد الروم البيزنطيين. بل إن الجيش العثماني في سورية كان من بين ضباطه وجنوده الكثير ممن يدينون بالديانة المسيحية. أهل سورية منذ الأزل يكرهون الحروب الطائفية التي كانت في بعض الأحيان تُفرض عليهم. ففي التاسع من تموز عام 1860 اجتاحت جماعة من الرعاع المنطقة المسيحية من مدينة دمشق الداخلية، سقط فيها المئات. فلجأ الآلاف من المسيحيين إلى بعض دور الأعيان من المسلمين، إذ احتموا بهم من غدر هؤلاء الرعاع، منها بيت آل العظم في حي القنوات. وقد اضطر الأمير عبدالقادر الجزائري، آنذاك، لتسليح ألف رجل لحماية المسيحيين. ثم دعا فؤاد باشا أعيان مدينة دمشق لاجتثاث شأفة أولئك المحرضين على تلك الحوادث، وأمر بإعدام نحو 170 شخصاً من الذين أدينوا بأعمال القتل والتحريض والنهب. عاش مسيحيو سورية وتطبعوا بطباع المسلمين وعاداتهم على مر السنين. يقول الأديب نيقولا زيادة يصف أمه: «أمي كانت عندها ملاءة سوداء، استعملتها لما سكنا في دمشق، واستعملتها في جنين لما انتقلنا إليه عام 1917 إلى انتهاء وجود الدولة العثمانية»، وأكد ذلك الشيخ علي الطنطاوي بقوله: «كان نساء الحي جميعاً بالحبرة (الملاءة) المزمومة، الساترة. وكان على الوجه المنديل الخشن ذو الثقوب. وكانت الحبرة عامة حتى إن النساء النصرانيات واليهوديات كن يلبسن الملاءة». في الوقت نفسه تطبع المسلمون بطباع إخوانهم المسيحيين، إذ يشاركونهم أعيادهم التي تختص بهم، مثل عيد ميلاد المسيح، عليه السلام، وعيد العنصرة (المهرجان) ميلاد النبي يحيى، عليه السلام، وخميس أبريل، والجمعة الحزينة، وغيرها الكثير من الأعياد. ويتبادل المسلمون والمسيحيون الهدايا والتهاني خلال تلك الأعياد، وهذا يعدّ من أرقى صور التسامح الديني والتعايش الإثني على أرض مشتركة. لا تختلف نزعات أهل الأديان عموماً في مقاربة علاقاتهم بغيرهم عن طابع العلاقات التي يفرضها السياسي والثقافي في السياق الحضاري، الذي تعيشه المجموعة لحظته، فعندما يعلو صوت شعار معين يفرض نفسه كالحوار تجد المجموعات الثقافية الموالية للنظام في سورية يستخدمون هذا الشعار في أدبيات خطابهم، حتى يكاد يصبح فارغ المعنى من كثرة المتاجرة به، على رغم كونه أضحى بالنسبة إلى النظام ليس إلا غطاء لمؤامرة عليهم، فقد أطلقوا على المواقف الغربية تجاه النظام، تيمناً بالقذافي، الحملة الصليبية على سورية. ومن الضروري التذكير أن هذا النظام هو الذي اضطهد ولاحق ميشيل عفلق، ما اضطره إلى الهرب إلى العراق، ومات ودفن هناك، ولم يرحم هذا النظام توسلات أهله في طلب دفنه في سورية، وأن الناشط السياسي جورج صبرة ما زال يلاقي أشد أنواع التعذيب في سجونه. * باحث في الشؤون الإسلامية.