قبل ثلاث سنوات أصدرت الكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق روايتها الأولى "مزاج مراهقة"، فقالت "حكاية المرأة في مجتمع ذكوري... تلك المحكومة بالانتقال من إحباط الى آخر، والمتوقفة طموحاتها عند عتبة تاء التأنيث، يرسم الرجل مصيرها، وتتحكم البنى المغلقة بمستقبلها". واليوم، تصدر "تاء الخجل" دار رياض الريس، 2003 روايتها الثانية، لتقول الحكاية نفسها بأسماء مختلفة، مع فارق ان وسائل القمع في هذه الرواية تغيّرت لتغدو أكثر قسوة. وهكذا، تشكل "تاء الخجل" امتداداً ل"مزاج مراهقة" أو تنويعاً عليها، على الأقل. "لا شيء تغير سوى تنوع في وسائل القمع وانتهاك كرامة النساء" ص 12، كما تقول خالدة راوية الرواية. فمن هي المرأة المقموعة هنا؟ وما هي الوسائل التي اعتمدت في قمعها وانتهاك كرامتها؟ في "تاء الخجل" تتخذ فضيلة الفاروق من الخطاب الموجه الى حبيب سابق تقنية تغلّف بها أحداث روايتها، فتقوم على جدلية المتكلم/ المخاطب في القسم الأول الذي تحكي فيه حكاية خالدة راويتها وقناعها في الرواية، وتتكئ الى جدلية المتكلم/ الغائب في القسم الثاني حين تحكي حكاية يمينة وزميلاتها المغتصبات. وأياً تكن التقنية التي تقدم بها الفاروق روايتها، فنحن بإزاء حكايتين اثنتين كبيرتين تنتظمان الرواية، حكاية خالدة الراوية التي تتوارى الكاتبة خلفها وتشبه حكاية لويزا في "مزاج مراهقة"، وحكاية يمينة التي هي حكاية المئات ممن اغتصبن خلال الحرب الجزائرية. واذا كانت الحكاية الأولى تشي بمفاصل من السيرة الذاتية للكاتبة، فإن الثانية تضيء العام من خلال الكلام على وسائل القمع التي مورست على المرأة الجزائرية خلال الحرب. وهكذا، يشكل الخاص تمهيداً للعام في الرواية، وفي الحالتين ثمة قمع يقع على المرأة من قبل المجتمع الذكوري المستند الى اعتبارات وقيم أسرية اجتماعية في الحالة الأولى، والمتكئ الى تفسير خاطئ للدين في الحالة الثانية. خالدة بطلة الرواية الأولى وراويتها تولد في بيت محاط بالأسوار، فيؤثر المكان فيها وتحيط نفسها بالأسوار حتى لتمارس حياتها كعمل سري تغطيها بغطاء سميك، على حد قولها. وهكذا، فالطفولة المقموعة مكانياً واجتماعياً من الخارج تتحول الى قامع داخلي مع الزمن. ولذلك، تصف نفسها أنها مشروع أنثى جرى إجهاضه، ولعل الإناث في ظل العقلية الذكورية مجرّد مشاريع مجهضة. وعلى رغم هذه النشأة، تحمل خالدة في أعماقها بذور تمرّد ما، كثيراً ما طفا على السطح في مواقفها وتصرفاتها، فتكره الأنوثة المرادفة للضعف والرجولة المرادفة للقسوة، وتكره حبيبها لأن فيه شيئاً من أنوثة. وتعبر عن تمرّدها بممارسة هواية التنصت على النسوة، وبضيقها بطقوس الجمعة التي تجعل النساء قطيعاً من الدرجة الثانية ينتظرن عودة الرجال من المسجد وفراغهم من الأكل حتى يحين دورهن في الطعام، وتعجب بشخصية للاّ عيشة القوية، وتتمنى لو كانت صبياً... غير أن هذه التعبيرات لم تحل دون رضوخها لمشيئة العائلة فتخجل في مواجهة الذكور بحبها نصر الدين، وتنقطع العلاقة بينهما. وهذه العائلة مجلى للعقلية الذكورية، فيحاول رجالها تقرير مصير خالدة بالنيابة عنها، فابن عمها ياسين يريدها لنفسه تحت طائلة فضح علاقتها بنصر الدين، والعم بو بكر يحرّض والدها على قطع دراستها الجامعية اتقاء للعار، وسيدي ابراهيم يقترح تزويجها من محمود أو أحمد، والجميع يقررون تزويجها من أحمد قبل سفره. أليس هذا النوع من الممارسات الذكورية هو الذي مُورس على لويزا بطلة "مزاج مراهقة" وراويتها؟ وبكلام آخر، أليست خالدة هي لويزا، والاثنتان فضيلة الفاروق في شكل أو في آخر؟ إن ولادة خالدة في آريس، وكرهها الأنوثة وتمنيها أن تكون صبياً، وممارستها العمل الصحافي، وكتابتها القصة، وجنوحها نحو الرفض والتمرد... الى ما هنالك من قواسم مشتركة بين الراوية والروائية تجعلنا نجيب عن هذه التساؤلات بالإيجاب. وعلى أية حال، في مقابل النماذج الذكورية الواردة أعلاه، ثمة نماذج أخرى لذكورية متفهمة في الرواية، فالأب يحب العلم ويريد تعليم ابنته، وأحمد يرفض تنفيذ قرار العائلة بزواجه من خالدة قسراً لأنه يعلم بعلاقتها بنصر الدين، ويعد بترميم العلاقة المنكسرة بين الحبيبين. وإذا كان ما وقع على خالدة يدخل في باب اغتصاب الإرادة مما يمارسه المجتمع الذكوري على نسائه في أي زمان ومكان، فإن اغتصاباً للجسد والإرادة والكرامة مارسته الجماعات المسلحة وقع على الكثيرات من النسوة، وشهدت خالدة الصحافية على بعض مضاعفاته مما يقود الى حكاية يمينة ورفيقاتها، الحكاية الثانية والأساسية في الرواية. تبدأ الحكاية مع وصول مجموعة من الفتيات حُرّرن من أيدي الإرهاب الى المستشفى الجامعي، وطلب رئيس التحرير الى خالدة ان تكتب موضوعاً عنهن، فتتعرف الى يمينة التي اغتصبها المسلحون وحين وضعت قتلوا وليدها، ونجحت في التقرب منها والوقوف على مأساتها/ مأساة كل المغتصبات، حتى إذا ما وجدت يمينة في خالدة بديلاً من أهلها الذين تخلّوا عنها، تقرِّر هذه الأخيرة تغليب حسّها الإنساني على واجبها المهني وعدم الكتابة حرصاً على سمعتها وسمعة أهلها، وإيماناً منها بلا جدوى الكتابة في مثل هذه الحالة. "هناك قضايا لا تحلها صرخات الجرائد! هناك قضايا يحلّها العدل، يحلّها القانون، والضمائر الحية"، تقول خالدة ص55. وتقترب الراوية/ الصحافية من تحديد وضعية يمينة ورفيقاتها، فترى أنهن على حافة الموت، معلقات بين جرح الاغتصاب واتهام السلطة وتخلّي الأهل عنهن. ولذلك، تموت رزيقة منتحرة بعد رفض مساعدتها على الإجهاض، وتُجن راوية، وتبقى يمينة على حافة الموت. وإذ تحاول خالدة ربطها بالحياة من جديد، فتزورها كل يوم وتأتيها بالكتب والهدايا، يسبقها القدر الى ربطها بالموت. وهنا، وفي مواجهة هذه التطورات، تقرر الراوية، التي خططت ذات يوم للهرب من الوطن القضبان، الرحيل عن الوطن المقبرة. وهكذا، فالممارسات الذكورية التي واجهتها خالدة في حكايتها المعيشة بالتمرد والرفض، لم تستطع مواجهتها في الحكاية التي شهدت عليها لأنها كبرت وتخطت أي حد، فتقرر الانسحاب، ذلك أن الظروف القاسية قد تحوّل البطل الإيجابي الى سلبي يؤثر الهروب حين يغدو الوسيلة الوحيدة للحياة. هاتان الحكايتان يحملهما السرد والحوار، وتتحركان فوق مساحات مختلفة. أما السرد فيتحرك بين الخارج والداخل والذاكرة، ويمزج بين الحياة والقصة أو بين المعيش والمكتوب، تنتقل الكاتبة من حيِّز الى آخر بسهولة ويسر، وقد تستطرد أحياناً وتخرج عن السياق، فتفكير الراوية في إعارة مخطوطها ليمينة يجعلها تتحدث عن هذا المخطوط وما صادفته من بلاهة وجهل الناشرين، ثم يعود السرد ليتابع من حيث انقطع بفعل الاستطراد. أما الحوار فيترجح بين الفصحى واللهجات المحكية العربية على تنوعها، وهو مطعّم بالفرنسية أحياناً. وهنا، تثير الكاتبة إشكالية إثارتها في روايتها السابقة. صحيح ان اللهجة المحكية واللغة الأجنبية قد تمنحان الحوار صدقيته وواقعيته، لكن ذلك من شأنه أن يعيق التواصل مع شرائح معينة من القراء في بلاد تتعدد لهجاتها المحلية وتختلف. على أن اللغة المعتمدة سرداً أو حواراً ليست إنشائية بل تتخفف من المحمولات البلاغية والانشائية وتقوم بوظيفتها الروائية بحسب الطلب. وثمة إشارتان اثنتان لا بد منهما مسكاً للختام: - الأولى هي أن احتفاء الكاتبة بالمكان الروائي لا سيما قسنطينة، في شذرات وجدانية متفرقة في بطون الرواية وتظهر تعلقها بالمدينة إنما يحيل الى أحلام مستغانمي في روايتيها "ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس"، فهل هو الحنين بفعل ابتعاد الكاتبتين الجزائريتين عن تلك المدينة؟ - الثانية هي أن قصة الحب التي اصطنعتها الكاتبة إطاراً خارجياً للأحداث، وصاغتها على شكل خطاب الى الحبيب المفترض، ومارست نوعاً من الالتفات الفني فتخاطبه كلما سردت مجموعة من الأحداث، وهو التفات بدأ كثيراً في بدايات الرواية ثم تناقص شيئاً فشيئاً حتى اختفى في نهايتها، فيأتي الاختفاء النصي للحبيب مكرساً حضوره الهش في الرواية واختفاءه فعلياً من حياة البطلة. إن هذا الخطاب الذي يلبس لبوس الاعترافات أحياناً إنما يحيلنا الى روائية أخرى، لا تخفي الكاتبة إعجابها بها وحبها كتبها، فتذكرها في الرواية، وهي غادة السمان، لا سيما في كتابها "أعلنت عليك الحب". غير انني أحسست في مقاربة موقع هذه القصة من النسيج الروائي انها مجرد قشرة خارجية، وليست جزءاً أساسياً من ذلك النسيج ما لم تكن الكاتبة قد اصطنعتها توخياً لتقنية تغلب بها سردها وتراها مختلفة. تعرّي فضيلة الفاروق ممارسات المجتمع الذكوري في انعكاساتها الأقسى، وتطلق صرخة احتجاج مدوية في وجه القمع بوسائله المتغيرة على الأيام. فهل من يسمع أم انها صرخة أخرى في واد؟