"حين أردت الاحتفاظ بأحدهما خسرت الاثنين معا"، بهذا الكلام تختصر لويزا، بطلة رواية "مزاج مراهقة"* وراويتها، للكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق أحداث الرواية. وتقول حكايتها الممتدة بين الإرادة والخسارة، فتأتي الكتابة تعويضاً عن الخسارة واستمراراً للحياة، ويشكل الروائي استمراراً للواقعي المعيش أو بديلاً منه. فعلى مدى الرواية تكتب فضيلة الفاروق حكاية المرأة في مجتمع ذكوري، تلك المحكومة بالانتقال من إحباط الى آخر، والمتوقفة طموحاتها عند عتبة تاء التأنيث، يرسم الرجل مصيرها، وتتحكم البنى المغلقة بمستقبلها، فتكون حياتها المسافة المقطوعة بين الإرادة والخسارة، غير أن بطلة الرواية لا تستسلم لهذا المصير، فتقرر أن تكتب الحياة - الحكاية لتمنح الحياة لمن تحب. وهكذا، تشكل الكتابة للبطلة/ الراوية، ولعلها كذلك للروائية، فعل حياة وتعويضاً عن الخسارة، فتباشر بها الاتجاه المعاكس من الخسارة الى الإرادة. على المستوى النصي تبدأ الرواية من حيث انتهت على المستوى الوقائعي، فنحن بإزاء امرأة تعيش حالاً من الفقدان، هي نتيجة لجملة من الوقائع والأحداث الروائية، المتعاقبة المتراكمة. وهذه الحال عينها نقع عليها في النهاية النصية للرواية. وهكذا، تتخذ الرواية مساراً دائرياً، تبدأ نصيّاً من حيث تنتهي، غير أن البداية الوقائعية متقدمة على ذلك. وبغض النظر عن الشكل الذي تصطنعه فضيلة الفاروق لروايتها، فإنها تستعيد حكاية فتاة مراهقة، يشكل نجاحها في البكالوريا عامل قلق لها ومادة بحث في مصيرها من قبل رجال الأسرة، ففي حين يمر رسوب اختيها بشكل طبيعي، يأتي نجاحها ليثير جملة اعتراضات وشروط تملى عليها من الرجل، وكأن هذا المجتمع الذكوري لا يستطيع تحمل نجاح امرأة، وهذا ما تعبر عنه الراوية/البطلة بقولها: "ما أتعس أن يكون الفرد امرأة عندنا، فكل طموحاته تتوقف عند عتبة تاء التأنيث". ص12. ولعلّه من نافل القول إن هذه العتبة يصنعها الرجال والمجتمع الذكوري. وهكذا، يعترض الرجل/ الأعمام في الرواية على التحاق لويزا بالجامعة، ويرفض الرجل/ الأب التحاقها بمدرسة الفنون أو الطيران، ويشترط تحجّبها سبيلاً لموافقته على التحاقها بالجامعة. والمفارق أن هذا الأب/الرجل يبيح لنفسه ما يمنح على غيره، فهو منشغل عن أسرته، منصرف لمغامراته. وحين تبحث لويزا في الرجل عما حرمته لدى الأب والأعمام من الحنان والدفء والأبوة والحب، متوهمة أنها عثرت على ذلك عند حبيب ابن عمها، يفاجئها هذا الأخير بالجانب الآخر من الرجل، فينصب لها مكيدة حتى إذا ما وقعت فيها ينهال عليها باللوم والتعنيف، كاشفاً عن ذكورية أشد على رغم صغر سنه، ما يحدث في نفس البطلة جرحاً عميقاً. وتستمر الممارسات الذكورية على لويزا لتشمل حقها في انتخاب الرابطة الجامعية، وتفرض عليها خياراً معيناً بذريعة تحجبها، ولا يتورع أحدهم عن صفعها حين يكتشف عدم التزامها هذا الخيار، فتأتي الصفعة لتزيل القناع عن ذلك الغليان الداخلي المتأجج فيها، ولتعلن الرفض الذي يعتمل داخلها لكل الإملاءات التي واجهتها، في البيت والمدرسة والشارع والجامعة. ففي مواجهة الممارسات الذكورية عليها في كل مكان، تضيق لويزا بأنوثتها وترفضها، وتعبر عن ذلك بالقول: "سأكون مجنونة إذا تقبلت جسد الأنثى الغبي الذي يكبلني" ص50، 51. فالأنوثة حين ترادف الضعف والانصياع والامتثال مرفوضة من قبلها. في مواجهة هذه الضغوط، كان ثمة نقاط مضيئة تهرع إليها البطلة، هرباً من واقع قاسٍ، أو طلباً لعالم أجمل، أو تفريغاً لكبتٍ متراكم. ويطالعنا على هذا الصعيد الخال الذي يعكس الجانب الطيب من الرجولة بما تلقى عنده من حدب واحتضان وتفهّم، والصديقات/الزميلات اللواتي يتقاسمن معها الضعف الأنثوي ويتجاذبن أطراف الأحاديث/ وهناك التلفزيون لا سيما أفلام يوسف شعبان ومسلسلاته، وهنا يغدو المرئي متنفّساً للمعيش/الروائي، وموضع تصريف للشحنات المتراكمة داخل البطلة بفعل الهيمنة الذكورية. غير أن نقطة الضوء الأكثر استقطاباً للبطلة هي الكتاب، تلوذ به كلما حاصرها الواقع وسُدّت دونها السبل، وهذه النقطة تشكل بداية مسار جديد في أحداث الرواية، تحاول فيه البطلة أن تتحكم بمصيرها وتصنع مستقبلها، غير أن تربّص الأقدار بها في نهاية الأمر ما يلبث أن يعيد اللعبة الى بدايتها، فعكوف لويزا على القراءة يقودها الى الإعجاب بالكاتب يوسف عبدالجليل، وتروح تتحين الفرصة للتعرف إليه والتقرب منه، حتى إذا ما تم لها ذلك، وقيض لها أن تعمل في الجريدة التي يصدرها هذا الأخير، تدخل في علاقة ملتبسة طرفها الآخر يوسف وابنه توفيق، وتتجاذبها مشاعر مزدوجة إزاءهما" هي تطارد الأب، والابن يطاردها تبحث في الأب عما حرمت منه من أبوة، حب، حنان، دفء، أمان. وفي الوقت نفسه تتخذ من الابن رصيداً احتياطيّاً. ولذلك يكتنف علاقتها به شيء من الضبابية وعدم الوضوح، وحين يبوح لها بحبه لا تصده ولا تشجعه، حتى إذا ما اختارت وباحت هي للأب بحبها، تكون الأقدار لها بالمرصاد، وهي هنا نتاج المجتمع الذكوري وقيمه أيضاً، وتخسر الاثنين معاً، ذلك أن واقعتين اثنتين ترسمان النهاية غير المتوقعة للأحداث، أولاهما تصنعها هي عبر مكالمة هاتفية تجريها مع يوسف اثر انتخابه نقيباً للصحافيين تهنئه وتبوح له بحبها ويسمعها الابن صدفة فيختار الانسحاب والسفر، والواقعة الثانية تصنعها الأقدار الذكورية عبر رصاصة تطلق على يوسف فتدخله في مصير مجهول. وهكذا، أسقط في يد البطلة، فتحزم حقائبها وتعود الى مسقط رأسها بحثاً عن الدفء والطفولة والخال في عملية نكوص الى الماضي ومفرداته. وهناك يعلمها المكان وطقوس الفلاحين كيف تبدأ من جديد فتقرر كتابة حكايتها، وتباشر الاتجاه المعاكس من الخسارة الى الإرادة بواسطة الكتابة. هذه الحكاية ليست تدور في الفراغ، بل هي مرتبطة بالإطار الذي تدور فيه، وتتقاطع مع أحداث عامة شهدتها المرحلة. فالسرد والحوار فيها رغم تمحورها حول الخاص المتعلق بشخصيات الرواية إلا أنهما يتناولان العام في إطلالات معينة، وهكذا، نقف على جوانب من المشهد الجزائري في الحقبة الأخيرة، والتحولات التي طاولت الأماكن والناس، والصراع بين الأطراف المختلفة، والموت المتربط بالصحافيين، والخوف الذي يعيشه الناس، ناهيك عن قضايا أخرى تتصل بهذا المشهد بشكل أو بآخر. هذا النسيج الروائي تمارسه فضيلة الفاروق بكفاية روائية ملحوظة، تتجلى في طلاوة السرد وسلاسته، وهو سرد يترجح بين الخارج بما يحدث في مكان وزمان محددين، والداخل بما يتناول من أشياء الذات ومشاعرها وأفكارها وأحلامها، ويضيء مواقف الشخصيات ومواقعها. ويتم في هذا النسيج تطعيم المادة الروائية بأسماء حقيقية لأشخاص وأماكن ما يمنح النص الروائي واقعية معينة ويزيل الحدود بين المعيش والمكتوب، ويعزز هذه الناحية إكثار الكاتبة من الأمثال الشعبية واستخدام اللهجة المحكية في الحوار ما يجعل حضور البيئة المحلية حاداً في النص. وتمتلك الفاروق قدرة على الانتقال بطواعية ويسر بين حادثة وأخرى على المستوى الزماني، عبر التذكر والاسترجاع، فتمارس التحرك بحرية بين الوقائع والذكريات. وهي تفعل الشيء نفسه على المستوى المكاني حين تلتقط مشهداً معيناً في سياق السرد قد يبدو ذا صلة واهية بالمادة المسرودة غير أنه سرعان ما يندمج في النسيج من دون نبوٍّ أو افتعال. وإذا كان السرد في الرواية يأتي طبيعياً ولا يطرح أية إشكالية فنية، فإن الحوار الذي يشغل مساحات واسعة فيها يطرح فيها جملة من القضايا، أولاها تتعلق بلغة الحوار، وهي تجمع بين الفصحى والمحكية في آن. والمحكية هنا هي المحلية الجزائرية التي تشكل عائقاً يحول دون التواصل السهل بين الرواية والمتلقي غير الجزائري، ما دفع الكاتبة الى ترجمة المحكية الى الفصحى. ولعل الكاتبة توخت من خلال هذه اللغة تعزيز عنصر الصدق الفني في الرواية، غير أنها بعملها هذا حالت دون التواصل مع بعض الحوار في الرواية. وإذا كنا نتفهم أن تتحدث الشخصيات الشعبية بالمحكية، فما هو مبرر تحدث الشخصيات المثقفة بمستويين من الحوار فصيح ومحكي، تضاف إليهما مفردات وعبارات فرنسية تتناثر بين هذين المستويين؟ وعلى رغم ذلك، استطاعت فضيلة الفاروق أن تقدم لنا نصاً روائياً متماسكاً يتناول قضايا ذاتية، وينطلق منها ليشهد على قضايا عامة ما تزال تشغل مجتمعاً عربيّاً معيناً، وتمكنت في "مزاج مراهقة" أن ترسم للمعيش في هذا المجتمع شبيهاً روائياً. * فضيلة الفاروق - مزاج مراهقة - رواية صادرة عن دار الفارابي في 275 صفحة من القطع الوسط.