قابلت سمير قصير للمرة الأولى في مؤتمر للصحافة نظّمته مجلتنا، Mediterraneans، في مرسيليا سنة 1994، فكان بمثابة النسمة المنعشة في المؤتمر. لن ينسى أحد من المشاركين عمله الذي نعيد نشره هنا بالعربية، ولا مشاركته الفاعلة في المناقشات كلها، أو حتى أحاديثه الجريئة مع إيغال سارنا، الصحافي الإسرائيلي الذي يعتبر العلاقة بين إسرائيل وفلسطين علاقة حبّ وكراهية، وهي وجهة نظر وصفها سمير قصير"بالصدمة نوعاً ما"، إذ قال إن"النظر إلى المشكلة من وجهة النظر هذه من جهة الفلسطينيين هو وهم بالكامل. يجب أن يكون هذا الأمر واضحاً. لا يمكن أن يتوقّع الإسرائيليون معالجة تحليلية نفسية من قبل العرب. لديهم ميل كبير للمجيء إلينا والقول: يجب أن تحبونا"... شارك سمير في مؤتمر المتابعة الذي أقيم في الإسكندرية بعد سنتين، وكانت بحسب ما قال لي إنها المرة الأولى التي يزور فيها المدينة، وكانت مشاركته بارزة. كذلك التقينا للمرة الأخيرة في بيروت قبل سنتين. كان في صدد إنهاء كتابه عن المدينة. وبينما كان يصحبني في جولة، فهمت العاطفة العميقة التي كان يكنّها للمكان. نشأ كتاب"الصحافي في منطقة المتوسّط"الذي اقتبسنا منه هذا المقال بعد اجتماع غير اعتياديّ جمع بين صحافيّين يعملون في منطقة المتوسّط ليمنحوا أنفسهم وقتاً للتفكير، ولمناقشة التحديات الأخلاقية والسياسية والشخصية التي واجهوها في ممارسة مهنتهم. وقد اجتمع 20 صحافياً في مرسيليا في آذار مارس 1996 للعمل على هذا المشغل، وهو أحد مشاريع برنامج"ميد-ميديا"التابع للاتّحاد الأوروبي. وتراوحت أعمار الصحافيين بين 25 و65 سنة، كما أنّهم أتوا من بلدان مختلفة كالجزائر وبريطانيا وقبرص ومصر وفرنسا وإسرائيل ولبنان والمغرب وفلسطين وأسبانيا وتونس وتركيا... ولكن ليسوا هم من نظّم الاجتماع، بل محررو ثلاث مجلات نقدية هي: المجلة الأدبية والثقافية Mediterraneans في باريس، والمجلة الشهرية Cuatro Semanas في برشلونة، والصحيفة التحليلية"السياسة الدولية"في مصر. تواجه بلدان في المنطقة مشكلات تتمثّل في الرقابة العلنيّة التي تفرضها الدولة، أو الاستيلاء على أعداد من الصحف تتضمّن مقالات عدائية ومصادرتها، أو إقفال صحف معارضة. ولكن إضافة إلى الضغوط المباشرة التي تفرضها الدولة، يختبر الصحافيون ضغوطاً كثيرة من نوع آخر، إلى جانب محاولات كثيرة أخرى للتحكّم بما يمكن طبعه أم لا. فالوضع في إسرائيل مثلاً يبدو متناقضاً: فالصحافة بحدّ ذاتها حرة ونقدية بشكل ملحوظ، غير أنّ الرقابة العسكرية قوية للغاية. وتختبر تركيا نوعاً آخر من التناقض، حيث أنّ الحرية التي لا تبدو لها نهاية تقابلها ضغوط قوية للرقابة الذاتية خوفاً من ثأر الحزب العمالي الكردستاني، التغطية المحدودة للأكراد، ومراقبة عسكرية قوية تعيق مقالات الاستقصاء عن الموضوع ذاته، والخوف من ضغوطات اقتصادية وسياسية سرية تحدّ من أنواع التحقيق الأخرى. وهذا أيضاً هو الوضع السائد في مصر حيث تملك الحكومة الصحف المهمة كلها، بالرغم من حرية التعبير الكبيرة، مما يعني أنّ الرقابة الذاتية تمارَس بشكل واسع، وتؤثّر في اختيار المواضيع التي تغطّيها وفي طرق معالجتها. وقد يكون رد الفعل على الرقابة والرقابة الذاتية يكمن في تطوير"نظام شفريّ"، عبارة عن مجموعة من الإشارات والمعاني الضمنية التي يحاول الصحافي من خلالها تجنّب القواعد وتدميرها. كان الراحل سمير قصير يستند إلى خبرته المزدوجة كصحافيّ يعمل في لبنان وفرنسا في آنٍ واحد، حين اقترح أنّ هذا"النظام الشفريّ"يمكن أن يصبح في النهاية كبيراً لدرجة أنّه سيصوغ التعبير الصحافي ويضعف فضول الصحافيين وروحهم، على حساب الاحتراف. تختلف قواعد ما يمكن نشره أم لا باختلاف الأطر الثقافية. وعندما تتحوّل هذه القواعد إلى حدود يفرضها الصحافيّ على نفسه تلقائياً، من المتوقّع أن يكون القارئ على علم بذلك، ويتمكّن من فهم الإشارات كلّها، وقراءة السكوت والحذف اللذين يشكلان جزءاً من عملية التواصل. فالصحافيّون يكتبون بين السطور، لقرّاء يقرأون بين السطور. محرّر مجلة Mediterraneans، باريس. سمير قصير : تعلم النظام الشفري ونسيان السياسة عندما نتكلّم عن الصحافة في لبنان، لا يمكن إلا ان نتذكّر أنّها تخطّت أصعب المحن، وأنّ رجالاً ونساء تابعوا ممارسة مهمة نقل الأخبار في الظروف الأكثر قسوة. ومع ذلك، ليس التقدير مجاملة، وهو يأتي من الزميل المنفي منذ وقت طويل أقلّ منه من القارئ، ومن القارئ المحترف، أي المؤرّخ الذي تمكّن من اختبار مدى أهمية هذا السجلّ من الأحداث لكتابة تاريخ الحرب في لبنان، هذا السجلّ التاريخي غير المحبّذ لأنه موثوق، حتى في تناقضاته التي تشكّل بحدّ ذاتها انعكاسات وفية لتعقيد الحرب المستمرّ. ولكن ما إن يقدّم التقدير حتى يحين وقت الحدّ منه، ليس لتقليص جدارة أعضاء هذه المهنة، ولكن لأنّ الصحافة ينقصها الدليل، ولأنها، وفي شكل متناقض، تستمرّ في فترة السلم أصعب منها عندما تخطت الحرب. على أيّ حال، يكفي القول إنّ الصحافة في لبنان تمرّ بأزمة تهدّدها، إن لم يكن في كيانها، على الأقلّ في تعدديتها، وبخاصة في حريتها. تظهر الأرقام، وهي دلائل أزمة غير قابلة للجدل، خفضاً في عدد العناوين، وتراجعاً كبيراً في الوقت ذاته في عادات القراءة وشراء الصحف، وهما عاملان يترجمان بتدني عدد القراء بنسبة تفوق 60 في المئة. لهذا الخفض أسباب متعددة، أولها من دون شكّ هو خفض الطاقة الشرائية لدى أقسام كبيرة من الشعب، في ظلّ أزمة اقتصادية دائمة وظاهرة دولرة خرجت عن السيطرة. يبلغ اليوم ثمن صحيفة يومية 1000 ليرة، أي ما يوازي أقلّ من 4 فرنكات، وهو سعر لا يوازي كلفة التصنيع التي تبلغ نحو 5 فرنك. ولكنّ هذا السعر يبقى مرتفعاً في بلد يحدّد الدخل الأدنى فيه ب700 فرنك. غير أنّ تبرير الأمر بالأزمة لا يكفي، لأنّ تراجع عادات القراءة لا تقتصر على الفقراء. فالكثير من الأشخاص في الأوساط الميسورة حتى يتباهون بعدم قراءة الصحف، على الأقلّ السياسيّة منها. لا بدّ إذاًَ، والحال هذه، من البحث عن الأسباب في مكان آخر، في منافسة المرئي والمسموع وكره السياسة. أصبحت منافسة المرئي والمسموع دقيقة في شكل خاص خلال السنوات الخمس الماضية، مع اجتياح الموجات من جانب نحو 30 محطة تلفزيونية، مما يمنح من دون شكّ لبنان كثافة لا مثيل لها في أيّ مكان آخر، ما عدا إيطاليا غير المنتظمة ربما. ويؤدّي هذا الازدهار التلفزيوني الذي تدعمه برامج منوّعة ومسلسلات أميركية أو مكسيكية إلى تحويل ما يقارب ثلاثة أرباع الموازنات الدعائية لمصلحة محطتين أو ثلاث، ولكن على الخصوص إلى تحويل انتباه القرّاء المحتملين، وفي النهاية، جيل كامل، عن أهمية شراء صحيفة. أما بالنسبة إلى زوال التسيّس، فيمكن رؤية تأثيره في واقع أنّ أزمة الصحافة لم تمنع ظهور مطبوعات جديدة غير سياسيّة، مثل دليل التلفزيون والتزيين والصحافة النسائية. وهذا هو التوجّه الذي يعتمده محرّرو الصحف في بحثهم عن القرّاء. على رغم أنّ كره السياسة نتج أساساً من أوهام الحرب، غير أنّ الصحافة بذاتها ساهمت أيضاً في ذلك، إذ لم تعرف، أو لم تستطع، معالجة المشكلات الحقيقية التي تلت الحرب. وهنا يجب الأخذ في الاعتبار تراجع الاحتراف، إضافة إلى الثقافة الريفية التي تستمرّ في التفشي على رغم المجهود الكبير المبذول لتجنّبها. ولكن لن ننسى أيضاً وطأة الضغوطات العائدة أولاً إلى استبداد تشريع مهمل. صحيح أنّ الرقابة الرسمية لا تطبّق جيداً، ولكنّ إمكان إيقاف صحيفة موجودة، وقد تمّ اللجوء إليها مرتين خلال العام المنصرم. غير أنّ الضغوطات الأكثر قسوة ليست رسمية بل شبه رسمية. وهذا ما يجعلها فاعلة أكثر بعد. وهي موجودة في المعاني الضمنية التي يجب أن يكتفي بها الصحافيون في مجالات عدة. وأولى المعاني الضمنية تتعلّق بالنظام السوري. لسنا في صدد إعادة الكلام المتعلّق بالاحتلال السوري، وهو مصطلح أرفضه شخصياً، ولكننا نعلّق على استحالة التكلّم عن الدلائل الحسية للوجود السوري. لا يمكن إذاً ذكر المشاركات المالية كتابةً، تلك المشاركات التي يأخذها هذا الابن أو ذاك لمسؤول أعلى من مؤسسة ما. ويستحيل كذلك الإبلاغ عن عمل أنظمة الاستخبارات في لبنان، أو حتى وصفه. أما ثاني المعاني الضمنية، فيتعلّق بالمافيات التي تتكاثر على مفارق السلطة. وهنا أيضاً يستحيل التكلّم عن تقاسم الأرباح الذي يحصل، وهو أمر متّصل بالنقطة السابقة على أيّ حال. وفي الحالتين، تبقى أسباب المعاني الضمنية متعلّقة بمسائل السلامة الشخصية التي تلفت الانتباه. ولكن نجد موضوع معانٍ ضمنية آخر يعزى من جهته إلى أسباب أقلّ جدارة بالمدح، وهو الموضوع الذي ينتج عن سلطة المال. صحيح أن هذا الأمر لا يطبّق فقط على الصحافة، ولكنّ القسم الأكبر للجدل العامّ مثقل اليوم بسلطة المال. للأسف، لم يعد في الإمكان إحصاء عدد الصحافيين ورجال السياسة والموظفين في المراكز العليا الذين قبضوا المال من بليونير يكون رئيس مجلس الوزراء. ونتيجة لهذه العوامل كلها، لم تعد الأمور تذكر بالكامل، نقلاً عن عنوان تقرير حديث لمنظمة"محققين بلا حدود". يمكننا أن نصل إلى القول إنّ نظاماً شفرياً رأى النور. وهو نظام يسمح بقول كلّ شيء، وجعل القراء يفهمون، أقلّه أولئك الذين يأخذون عناء فكّ الرموز. وتظهر هنا نقطة الضعف في هذا النظام، إذ إنّ استعماله يؤدي إلى إحباط القراء الذين لا يملكون اهتماماً مهنياً في السياسة، وبالتالي يفقدون الاهتمام. من المؤكّد أنّ الصحافة في جميع أنحاء العالم تلجأ إلى رموز في الكتابة والقراءة على حدّ سواء. حتى في البلدان الديموقراطية، لا يمكن الإفصاح عن بعض المواضيع إلا بطريقة غير مباشرة. ولكنّ المشكلة في لبنان تكمن في ضرورة اللجوء إلى الرموز في أيّ موضوع سياسيّ. ويبقى أسوأ ما في الأمر أنّ هذا النظام يصبح في النهاية راسخاً لدرجة أنّه يصوغ التعبير الصحافي وروحه ويضعف فضول الصحافيين بسرعة كبيرة، ويؤدّي إلى خسارة التقنيات الصحافية. وهنا يمكن اللجوء إلى علاج واحد فقط، إذ تبقى استعادة الحرية الكاملة في الكتابة وهم. ويكمن العلاج ببساطة في العودة إلى المعايير المهنية التي كانت تسمح بتركيز فضول الصحافيين الجدد. ولكنّ العودة إلى هذه المعايير يبقى صعباً طالما لا أحد يذكّر بأهميته وطرقه. فالصحافيون ذوو الخبرة الذين لم يتركوا البلد يشعرون غالباً بالضجر، وأحياناً بالتهكّم أو حتى باليأس. وعلى أيّ حال، يبدو أنّ الغالبية المطلقة منهم لا يشعرون بالحاجة لنقل تقليد ربما هم أضاعوه. أما العدد الكبير من نخبة الصحافيين اللبنانيين الذين يعملون في الخارج، فهم لا يتحرّقون شوقاً للعودة إلى لبنان، أولاً لأسباب مادية، ولكن بخاصة لأنّ المحاولات القليلة للعودة لم تبدُ مشجعة من ناحية الانخراط الفعليّ للعائدين في الصحافة المكتوبة أم المرئية والمسموعة. غير أنّ الموضوع الأخطر في نظري يبقى أنني بعيد كلّ البعد عن استغراب تردد زملائي المغتربين في العودة، لا بل جعلتني خبرتي الخاصة أتفهّم موقفهم. فعلى رغم أنها ليست مثالية، ولكنها تسلّط الضوء على هاتين العقبتين الكبيرتين المتمثّلتين في زوال التسيّس وفرض النظام الشفري. يكمن أحد أسباب عودتي إلى بيروت في رغبتي في مواجهة جمهوري كصحافيّ مواجهة يومية. قد يجد البعض في هذا الأمر رغبة مني في المديح. ولكنني أبحث عن حافز في الوقت الذي بدأ فيه إيماني بمهنة الصحافة يتأرجح، علماً أنني أتحلى به مذ كنت في السابعة عشرة من عمري. غير أنّ أملي هذا خاب سريعاً. فإلى جانب مشكلات التأقلم والرفض التي لن أتوقّف عندها، أوقفني بسرعة كبيرة غياب الاستجابة ليس فقط لمقالاتي في شكل خاص، بل لمجموع النقاشات التي يمكن أن تكون الصحافة صدى لها. ليست الأصداء مختفية بالطبع، ولكنها تقتصر على دائرة الزملاء والمفكّرين بشكل عام، وحتى السياسة لا تتقبّلها، ربما لأنها لم تعد علنية، بل تقتصر ساحاتها على كواليس السلطة في بيروت، وخصوصاً في دمشق. وأوقفني كذلك الشعور الذي كان يتملّكني لعدم معرفة النظام الشفري حقّ المعرفة. لهذا السب، لم أكتب إلا مرة أو اثنتين مواضيع لبنانية، تتعلق أيضاً بقضية المفاوضات الإسرائيلية - العربية التي تعالجها ثلاثة أرباع مقالاتي. وحتى في هذا الموضوع، لا يمكن الاستغناء عن النظام الشفري، وذلك بسبب هيمنة المعاني الضمنية التي تنطبق على سورية. لا تمنع المعاني الضمنية طبعاً من قول كلّ شيء. ولكن لفعل ذلك، يكمن الشرط في اللجوء دائماً إلى أساليب دوران ومواربة ومراجع تاريخية ذات معنى، ولكن هل يفهم معناها حقاً أولئك الذين لا يعرفون التاريخ بالتفصيل؟ لذلك نظنّ أنّ في إمكاننا قول كلّ شيء. ونكتشف في كلّ مرة أن في إمكاننا قول المزيد، أقلّه حتى سقف معيّن لا شكّ أنّه الاتّهام الشخصي للرئيس الأسد. وبهذا، أختبر بعد كلّ مقال رد فعل شخصي مقسوم إلى مرحلتين. أميل أولاً إلى الاندهاش من"شجاعتي"الخاصة، ولكن لا ألبث أن ألاحظ سخرية هذه الشجاعة. فهذا النظام الشفري الذي تعلّمت أن أتحكّم به بعد الآخرين، أعرف أيضاً أنّني أدفع ثمنه الذي يؤدي بي إلى خسارة ما هو عام، أي خسارة علّة وجودي.