نحو قراءة جديدة للقرآن"، كان عنوان مؤتمر دولي عقده قسم اللاهوت في جامعة نوتردام في شهر نيسان ابريل المنصرم 2-4. شارك في هذا المؤتمر - الذي أشرف عليه جبريل سعيد رينولدز - حشد من المستشرقين المتخصصين في دراسة الإسلام والقرآن على نحو خاص. وتركزت المشاركات في أربعة محاور: أولاً - السريانية والقرآن أ - في هذا المحور قدم جوزيف آمار بحثاً عن"المقالات الاعتذارية لمار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي"ت 1171م نظراً الى أنه أوسع وأطول وثيقة سريانية تتضمن نصوصاً جدالية مع المسلمين، هذا النص السرياني كان يهدف الى تزويد القارئ حقائق أساسية عن الإسلام، تمهيداً لإبطال وتفنيد النقد الإسلامي للاعتقادات المسيحية. وتنبع أهمية هذه الوثيقة ? اضافة الى الجوانب التاريخية - من مجموعة الاستشهادات القرآنية المترجمة الى السريانية والتي تشمل عدداً من سور القرآن 25 - 30. ويناقش آمار الفرضية المثيرة للجدل التي طرحها مينغانا عن هذه الاستشهادات السريانية. ب - من زاوية أخرى عرض أندرو ربن نظريات المسلمين عن المأثورات السريانية في القرآن الكريم، مشيراً الى ان كريستوف لوكسمبرغ ومينغانا لم يكونا أول من تحدث عن وجود السريانية في القرآن، بل ان التفاسير الاسلامية القديمة أشارت باستمرار الى كلمات مختلفة على أنها ذات أصل سرياني. فقد كان الكتّاب المسلمون الأوائل واعين باللغة المتداولة في محيطهم والتي كانوا يسمونها"السريانية أو النبطية"، ويبدو انهم استعانوا بها لحل بعض الاشكالات التفسيرية التي واجهتهم في فهم القرآن. وكانت الأصول التي استندوا اليها في ذلك عدة: التركيب الاشتقاقي لبعض الكلمات الغريبة، استحالة تتبع الأصول الاشتقاقية لبعض الكلمات وارجاعها الى أصول عربية، وجود اعتراف أو اتفاق على وجود بعض الأسماء ذات الأصل السرياني. ج - وفي سعي لمعرفة الأصول السريانية لبعض قصص القرآن عرض كيفين فان بليدل ما سماه"نبوءة الاسكندر الأكبر"أو"ذي القرنين"في القرآن على أنها قصة مشتقة من أصول سريانية، متابعاً في ذلك ما قاله نولدكه من قبل عن أصل هذه القصة، وهو القصة السريانية التي نشرها Budge"أعمال الاسكندر"، وهو نص أرجع نولدكه تاريخه الى القرن السادس الميلادي، ولكن الباحثين من بعده أثبتوا أنه وجد في حدود 629 - 630م، ثم أكد برانون ويلر أن هذا النص السرياني لم يكن مصدراً للقرآن نفسه بل هو مصدر للتفاسير القرآنية التي اعتمدت عليه. ولكن فان بليدل يعود الى تأكيد العلاقة بين هذا النص السرياني وقصة"ذي القرنين"في القرآن، من خلال المقارنة بين مضمونهما، والبحث عن المماثلات الكثيرة بينهما حتى في المفردات. كما يحاول أن يثبت أن القرآن اعتمد اما على النص السرياني مباشرة أو أن هذين النصين اعتمدا على مصدر آخر مشترك. كما حاول أن يقدم تفسيراً لاعتماد المفسرين الأوائل على هذا النص بإرجاع ذلك الى الخصائص النبوية للاسكندر البادية في النص السرياني، أو ما يدعوه فان بلديل"نبوءة الاسكندر". د - بعيداً من الدرس القرآني خصوصاً يثير عبد المسيح سعدي بعض القضايا التاريخية المتعلقة بموقف المسيحيين السريان من المسلمين الذين هاجروا الى اراضيهم من الناحية الدينية والتاريخية والعرقية، وذلك خلال القرن السابع للميلاد. ثانياً - التأثير المسيحي والاثيوبي في القرآن أ - قدم مانفرد كروب قراءة لحصيلة قرن كامل من الدراسات المتعلقة ببحث التأثيرات الأثيوبية في القرآن وعهود الإسلام الأولى، منذ دراسات نولدكه الأولى في الموضوع. يذكر كروب ان التقدم الكبير في الدراسات السبئية أثبت أن تأثير الثقافة اليمنية القديمة في جنوب الجزيرة العربية في المجتمعات العربية الشمالية كان موازياً للتأثيرات المسيحية واليهودية في الشام عليها. هذا التأثير اليمني يستدعي تساؤلاً عن التأثير الأثيوبي، وذلك بسبب التاريخ المشترك بين اليمن القديمة واثيوبيا القديمة أكسوم بدايةً من الاحتلال السبئي للساحل الآخر من البحر الأحمر مروراً بالحملات الاثيوبية على اليمن. اضافة الى التبادل التجاري وبالتالي الثقافي والديني الحاصل بين امبراطورية أكسوم التي اعتنقت المسيحية منذ منتصف القرن الرابع للميلاد وأقاليم شمال غربي الجزيرة العربية. حيث وجد في مكة قبل الإسلام كثير من التجار والحرفيين والعبيد الأثيوبيين، ولا شك في أنهم نقلوا معهم ? فضلاً عن البضائع ? المفاهيم الثقافية الدينية. ولا ننسى المسلمين الذين هاجروا الى الحبشة وعادوا الى مجتمع المدينة. ان تأثير هذه العلاقات في إثيوبيا ومسيحييها ظاهر للعيان من خلال الكلمات الاثيوبية المعربة أو الكلمات التي تأثرت باللغات الاثيوبية في القرآن، وقد ناقش نولدكه من قبل بعضاً من أهم هذه الكلمات. ولكن ظهور عدد من النصوص القديمة بعد نولدكه سيسمح بإعادة كتابة تاريخ هذا التأثير الأثيوبي ليس فقط في مجال الكلمات الأجنبية المستعارة، بل في مجال التراكيب أو القصص، بل المفاهيم اللاهوتية الموجودة في القرآن والتي يمكن ارجاعها الى أصول اثيوبية أو مسيحية اثيوبية. ب - وفي اطار التأثير المسيحي في القرآن يقدم سيدني غريفت دراسة لقصة أهل الكهف من خلال المصادر المسيحية السريانية. ذلك أن أقدم مصدر يخبرنا عن قصة"نيام الكهف"قبل القرآن هو نص سرياني يعود الى القرن السادس للميلاد، صادر عن الكنيسة الأرثوذكسية السريانية. تحاول هذه الدراسات معرفة الطريقة التي انتقلت بها القصة الى المسيحيين العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وذلك من خلال مقارنة التفاصيل الاشتقاقية اللغوية والقصصية للنصين السرياني والقرآني، من أجل الوصول الى فهم أعمق لإشارات القرآن الى المصادر التي يشترك فيها مع التراث المسيحي السرياني. ج - وفي هذا الاطار أيضاً يقدم غاري اندرسون دراسة مقارنة بين القرآن والتفاسير المسيحية الربانية في سردها لقصة سجود إبليس لآدم في دراسة للعلاقة بين هذه المصادر القديمة والرواية القرآنية للقصة. د - ولكن مايكل ماركس حاول اعادة النظر في فرضية المعتقدات المسيحية - اليهودية الموجودة في القرآن. اذ ان كثيراً من الباحثين الغربيين أكدوا أن عدداً لا بأس به من المعتقدات المسيحية - اليهودية موجود في النص القرآني فون هارنك 1911، شلاتر 1918، الحداد، دي بلو 2004.... وغيرهم. هكذا يعيد ماركس البحث في: التلقي القرآني لتاريخ الخلاص تاريخ النبوة، وفكرة تعاقب الأنبياء في الكتاب المقدس. ان مفهوم"الأنبياء السابقين"يبدو غير متوافق مع الفهم اليهودي او المسيحي الارثوذكسي او الكاثوليكي لتاريخ النبوة، حتى وإن أظهر غالبية العناصر النصية الخاصة بأنبياء الكتاب المقدس الموجودة في القرآن صلتها بالأدبيات الربانية التلمود والمدراش كما قدمها جيجر Geiger في دراسته عام 1833. ان الموقف من عيسى المسيح يختلف تماماً عن الخلفية الربانية المفترضة، فالصورة الخيرية للمسيح لا يمكن نسبتها الى المعتقدات اليهودية. كما ان التعريف القرآني بأنبياء الكتاب المقدس يقدم دائماً منظوراً نافياً للقدسية، ورسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم - من منظور تاريخ"الانبياء السابقين"? ليست الا حلقة في سلسلة متصلة من النبوة. وفي السياق نفسه يحاول سليمان مراد ان يقدم صورة لمريم من خلال القرآن الكريم، موضحاً ما يتعلق بهويتها والقصص المتصلة لها من خلال كتب التفسير الاسلامي، معيداً النظر في الافكار التي طرحها الباحثون الغربيون عن خلط محمد في هوية مريم ابنة عمران ومريم أخت هارون وموسى. وفي السياق نفسه قدم سمير خليل سمير بحثاً في"اعادة النظر الى القرآن في علاقته بالمسيحية". ثالثاً: نقد الاطروحات الاستشراقية الجديدة حول القرآن يبدو ان اطروحة كريستوف لوكسنبرغ والجدل الذي اثاره في دوائر الاستشراق في السنوات الاربع الماضية لا يزال مستمراً، فقد شغل جزءاً كبيراً من اهتمام المتحدثين، حتى الذين لم يخصوه بقراءات نقدية كان منهم اشارات وتلميحات اعتراضية على اطروحاته. أ - قدم غيرهارد بورنغ نقداً حاداً لدراستي غنتر لولنغ وصاحب الاسم المزيف كريستوف لوكسنبرغ واعادة بنائهما للقرآن: وهما باحثان ينشطان في ألمانيا على هامش الأكاديمية، ولمح الى ان هذين الباحثين لم يجتمعا علناً قط في اشارة الى انهما قد يكونان شخصاً واحداً، ولكنهما يتفقان في عدد من النقاط: أهمها أنهما قد تجاهلا قروناً طويلة من الدرس الاسلامي للقرآن، وأهملا النسق المعرفي المتعدد الأوجه في درس الاصول القرآنية الذي عمل به المستشرقون خلال قرنين من خلال البحث الدقيق. من نولدكه وشفالي حتى هوروفيتز وبيل وجفري وبلاشير وباريت. ان دراستهما على رغم غناها بالتفاصيل، فإن أياً منهما لم يستطع ان يضع قاعدة تاريخية قوية لنظريات علمية حول اصول المصطلحات القرآنية في سياق القرن السابع في الجزيرة العربية. ان مقاربتهما المنفردة الحاذقة الاستفزازية المثيرة للجدل قد جعلتهما محلاً لنقد حاد من الباحثين الغربيين المتخصصين بدرس القرآن الكريم مثل برغمر في كتابه"الجدل حول القرآن"برلين 2005 كما جعلتهما محطاً لنقد عنيف من المسلمين على الانترنت. ب - كذلك فعل فرد دونر حيث نظر في عمل لوكسنبرغ ضمن سياق البحث الغربي المبكر في القرآن، وما يتضمنه هذا العمل من امكانات للعمل المستقبلي. يبحث دونر في العلاقة بين النص القرآني المكتوب وبين تراث التلاوة الشفاهي، ويتحقق من دعوى اللغة المختلطة الآرامية / العربية في شبه الجزيرة العربية، وأنظمة الكتابة وعلاقة النص بالاملاء العربي. ج - ولكن دانيل مدايغان يبتعد عن مناقشة صحة أطروحة لوكسنبرغ، وينتقل الى سؤال تأويلي او لاهوتي متعلق بالعلاقة بين النصوص المقدسة والمجتمعات التي تؤمن بها. اذ إن عمل لوكسنبرغ يفترض انه بمجرد الكشف عن المعنى"الحقيقي"للقرآن، فإن ذلك سيغير من طبيعة الاسلام. ولكن في التحليل النهائي يبقى السؤال: ما هو التأثير الذي يمكن ان تحققه اعادة بناء معاني النص المقدس على ما يعنيه النص عند المؤمنين به؟ رابعاً: تاريخ القرآن أ - يرى كلود غيليو ان البحث الغربي في تاريخ القرآن لا يزال في عالم"أليس في بلاد العجائب"مقارنة بما أنجز من بحوث في حقل دراسات الكتاب المقدس. اذ يحتوي القرآن نفسه والتراث الاسلامي الكثير من الاشارات او المعلومات التي تدعو الباحثين لاعادة بناء نظرة"مختلفة"جزئياً لتاريخ هذا النص. والاختلاف هنا يعني انها نظرة مختلفة عن الفهم الاسلامي الرسمي للقرآن تلاوة وكتابة. ومن هنا يدعو غيليو الى النظر في دور مساعدي النبي محمد خديجة وورقة بن نوفل، ثم في فكرة الرواة وتعلم زيد بن ثابت للآرامية والسريانية او العبرية وعناصر هذه اللغات قبل وصول محمد الى المدينة، والآيات المفقودة والآيات المنسوخة، وغموض المفردات الخاصة بجمع القرآن مثل: الجمع والتأليف... وغير ذلك. ب - يبحث روبرت هويلاند في نشأة الحرف العربي من خلال النقوش والحفريات العربية التي ترجع الى ما قبل مجيء الاسلام ووجدت في مناطق من سورية ودمشق وشمال غربي الجزيرة العربية في القرن السادس للميلاد. فعلى رغم ان اللغة العربية قد ظهرت قبل هذا بكثير ولكنها كانت تكتب باملاء لغات اخرى جنوب الجزيرة او الآرامية / النبطية، لذا فما الذي تغير حتى نشأ الخط العربي الخاص؟ يناقش هويلاند النظريات المختلفة: كونها من عمل التبشيرية المسيحية، الحاجات الادارية لزبائن العرب في مملكة روما، التطور الطبيعي من الآرامية / النبطية كمقابل للآرامية / السريانية وتوضيح علاقة ذلك بقضية جمع القرآن وظهور هوية العرب وانتشار الاسلام. كما بحث عن الكتابات المسيحية خلال الفتوح الاسلامية وفيما اذا كانت تحوي أي علامات على معرفة البيئة الآرامية / السريانية التي ادعاها كريستوف لوكسنبرغ. ج - يناقش ديفن ستيوارت التصحيحات والتنقيحات التي طرحت للنص القرآني في التراث الاسلامي والبحث المعاصر، ومدى صحتها والادوات التي يمكن الاستعانة بها للتحقق من ذلك. اخيراً، فإن حصيلة المؤتمر توحي بأن كثيراً من المستشرقين الغربيين اليوم لا يزالون يدورون في فلك القضايا التي انشغل بها التراث الاستشراقي في القرنين الفائتين، معتمدين ? في الغالب ? المناهج نفسها والطرق التحليلية والنقدية، في سعي حثيث للبحث عن الاصول البشرية للنص القرآني من فتات الاخبار ومتناثر الاحجار. كاتب سوري مقيم في مصر.