أضحى كتاب المستشرق البريطاني ريتشارد بل، «مدخل إلى القرآن» نواة لدراسات لاحقة للغة القرآن الكريم، وقد اتخذ بِل السجع وطول الآية معيارين أساسيين في حكمه على انسيابية آيات القرآن وعلاقاتها المنطقية ببعضها بعضاً. وبناء على هذين المعيارين اللغويين أکد بِل نظريته القائلة إن لغة القرآن تفتقد إلى الترابط المنطقي ولا تلتزم أحياناً قواعد اللغة العربية. وقد سار بِل في دراسته للقرآن على خطى المستشرق الألماني البارز تيودور نولدكه (1836-1930) في كتابه الشهير «تاريخ القرآن»، الذي عدّ التأسيس العلميَّ لبقية الدراسات القرآنية في العصر الحديث. هذا الكتاب كُتبت نسختُهُ الأولى عام 1856م في نحو مئتي صفحة، لكنه تطور في حياة المؤلف على يد تلامذته إلى ثلاثة أجزاء صدر آخرها عام 1938م (تُرجم إلى العربية عام 2004م). القسم الأول من الكتاب يبحث «في أصل القرآن»، ونبوة محمد(صلعم)، وطرائق تلقّيه الوحي، وبدايات الرسالة، وأمية النبي، ووسائل كتابة القرآن. وفي القسم الثاني يتحدث نولدكه وتلامذته عن جمع القرآن وهو يهتم كثيراً بأسباب النزول. ويرى الدكتور رضوان السيّد أن كتاب نولدكه سيطر على الدراسات القرآنية حتى مطالع الستينات من القرن العشرين، وأثّر في الدارسين، على الخصوص في تقسيمه السور المكية إلى ثلاث مراحل، وتحديد الخصائص الأسلوبية في كل مرحلة. كما أثّر في الدارسين زعمه أن النبي محمداً (ص) اتخذ في نبوته أنبياء بني إسرائيل نموذجاً له. ولذلك، ولأن العهدين(التوراة والإنجيل) لم يترجما إلى العربية قبل الإسلام فقد جمع النبي معلوماته عنهما شفويّاً، وفي كثير من الأحيان، عن المنحولات والتفاسير والمأثورات الشعبية اليهودية والمسيحية. ولذلك تكثر في القرآن الألفاظ والموضوعات السريانية والآرامية والإثيوبية والعبرية، بحسبه. ويضيف السيد أن دراسة ريتشارد بِل مع دراستي الفرنسي ريجيس بلاشير، والألماني رودي بارت، تمثل أقصى ما يمكن أن تقدمه التاريخانية الفيلولوجية في دراسة النص الديني حيث قام كلٌّ من هؤلاء بترجمة القرآن ترجمةً جديدةً إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية. فهذه الدراسات الفيلولوجية التاريخانية للقرآن لدى المستشرقين استقرت في ثلاثة خطوطٍ كبرى لا تتناقضُ كثيراً والرواية الإسلامية التقليدية. الخطّ الأول: أنّ النص القرآني الذي بين أيدينا اليوم هو في مجموعه مما خلّفه النبي محمد. والثاني: أنّ القرآن دُوِّن استناداً إلى ما خلّفه كُتَّاب النبي من مدوَّنات، وإلى ما احتفظت به الذاكرة الجماعية للجماعة الإسلامية الأولى. والخط الثالث أنّ الترتيب الحالي للسُّوَر كما اعتمد في المصحف العثماني مختلفٌ عمّا خلّفه النبّي لأصحابه، وربما اختلف أيضاً ترتيب الآيات في بعض السُّوَر. أما المستشرق الإستكلندي البارز مونتغومري وات فقد قام بتنقيح كتاب أستاذه ريتشارد بِل «مدخل إلى القرآن» وتوسيعه، بحيث أضحى الكتاب يمثّل رؤية وات للقرآن شكلاً وتاريخاً ومضموناً. يقول وات، في تقديمه الكتاب إن المهمة لم تكن من دون صعوبات، على رغم رغبته فيها وتأثّره بعمل تلاميذ نولدكه في مراجعة عمل أستاذهم. واستكماله. فعلى رغم احترامه أستاذه بِل، الذي درس عليه اللغة العربية وأشرف على أطروحته للدكتوراه، لم يكن وات مستعداً لقبول كل نظرياته حول القرآن، وقد أشار إلى ذلك في مقالة مبكرة في عام 1957 نشرها في مجلة بعنوان «تأريخ القرآن: مراجعة لنظريات ريتشارد بِل». من هنا يُعلِم وات القراء بأنه سيتحدث باسمه في الكتاب وسيشير إلى بِل بصفة الغائب، هو، وخصوصاً عندما يختلف معه. ويعلن وات أن الأمر الأكثر إخلاصاً لعالم كأستاذه بِل هو أخذ آرائه بجدية وانتقادها. يؤكد وات أنه على رغم كونه يتحدث باسمه في الكتاب وأن ثمة مقاطع قليلة فقط لم يجرِ تغييرات فيها، لكن جوهر الكتاب يبقى عمل ريتشارد بِل الأساسي. ويكشف أن كتاب بِل هو أساساً مجموعة محاضرات كان يلقيها بِل على طلابه راجعها في شكل غير معمق قبل وفاته. وقد أضاف وات إلى الكتاب أجزاء مرتبطة بعمله على «سيرة محمد»، لكنه لم يقم ببحث خاص للإعداد لهذه المراجعة. يقول وات إن أبرز التغييرات التي قام بها هو في شكل التعبير إذ إن بِل تابع أسلافه من المستشرقين الأوروبيين في حديثه عن القرآن بأنه من عمل محمد، على الأقل في كتابه «مدخل إلى القرآن». لكن بِل علّق بأكثر من ملاحظة أمام تلميذه وات ما جعل الأخير يعتقد بأن بِل يؤيد نوعاً ما الآراء التي عبّر عنها وات في شأن نبوة محمد(ص)، وخصوصاً في كتابه «الوحي الإسلامي في العالم الحديث». يعتبر وات أنه في زمن التزايد الكبير للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين في الربع الأخير من القرن العشرين، صار ملحاً على العالم المسيحي ألا يغيظ قراءه المسلمين من ٍدون مسوّغ، ولكن عليه قدر الإمكان أن يقدم حججه بصورة مقبولة لهم، وأنه لا يجب الحديث عن القرآن على أنه من إنتاج وعي محمد(ص). وعليه، قام وات بتغيير واستبعاد كل العبارات الواردة في كتاب «مدخل إلى القرآن» والتي تفيد بأن النبي محمد هو مؤلف القرآن، بما فيها العبارات التي تتحدث عن مصادر محمد والتأثيرات فيه. لكن وات يستدرك قائلاً إنه يعتقد بأنه مبرّر الحديث عن تأثيرات العالم الخارجي في البيئة العربية وكذلك ملاحظة حصول تطوّر في آفاق جماعة المؤمنين، وأن تطوّراً كهذا سيتطلب أن يُلاقى بتغيير في نبرة الوحي. يرى وات أن كتباً قليلة مارست تأثيراً واسعاً أو عميقاً في روح الإنسان أكثر من القرآن، فهو كتاب يعتبره المسلمون وحياً إلهياً، ويستخدمونه في صلواتهم الخاصة والعامة ويتلونه في احتفالاتهم ومناسباتهم العائلية. فهو أساس معتقداتهم الدينية وطقوسهم وقانونهم، ودليل سلوكهم العام والخاص. فالقرآن يصوغ فكرهم، وجمله تدخل في أدبهم وكلامهم اليومي. فكتاب يُقدّسه أكثر من 400 مليون من أتباعه، وفق تقديرات نهاية ستينات القرن العشرين(يقدر عدد المسلمين بنحو 1.5 بليون)، جدير بالاهتمام، ويحتاج إلى دراسة جدية، فالقرآن ليس كتاباً سهل الفهم، فهو ليس أطروحة في اللاهوت، ولا مدوّنة من القوانين، ولا مجموعة من المواعظ، بل هو خليط من هذه الموضوعات الثلاثة إضافة إلى أمور أخرى يتضمنها. ويضيف وات أن القرآن «وحي انتشر خلال فترة تزيد عن العشرين سنة، صعد خلالها محمد من مصلح ديني غامض في مسقط رأسه، مكة، إلى حاكم واقعي للمدينة ومعظم الجزيرة العربية». ويرى وات أن القرآن كونه يعكس الظروف والحاجات والأهداف المتغيّرة للمسلمين خلال سنوات نزوله، فإنه يتغيّر في شكل طبيعي من حيث الأسلوب والمحتوى وحتى في التعليم. يذهب المستشرق الإسكتلندي إلى أن حقيقة أن القرآن خاطب أولاً قوماً منخرطين في التجارة تعكسه لغته وأفكاره، حيث يشير إلى ازدهار تجارة مكة وقوافلها. ويستشهد وات بدراسة الباحث الأميركي س. س. توراي C.C.Torrey عن «المصطلحات اللاهوتية- التجارية في القرآن» حيث خلص إلى أن هذه المصطلحات استخدمت للتعبير عن نقاط أساسية في العقيدة وليس فقط كاستعارات توضيحية. ويعطي أمثلة على ذلك عبارات وردت في القرآن مثل: إن أفعال الإنسان ستحصى في كتاب؛ في إشارة إلى الآية 76 من سورة النبأ: «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا» وغيرها، وعن الحساب في اليوم الآخر، كما في الآيتين 56 و93 من سورة النحل: «تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُون»، «وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»؛ وأن كل إمرئ سيلقى حسابه؛ ووضع الله الميزان في تبادل السلع والمال، كما في قول القرآن: «وزنوا بالقسطاس المستقيم» [الشعراء/182]، «وأقيموا الوزن بالقسط» [الرحمن/9] أو أن أفعال الإنسان قد زينت يوم القيامة كما في الآية 47 من سورة الأنبياء: «ونضع الموازين القسط ليوم القيامة»؛ وأن كل روح مسؤولة عن أعمالها، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، كما في الآيتين 7 و8 من سورة الزلزلة؛ وقوله عن أن من يدعم قضية النبوة يقرض الله قرضاً، كما في الآية 11 من سورة الحديد: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ). يقول وات إن سيرة النبي محمد هي موضوع دراسة في حد ذاتها وهو يقوم بشرحها بصورة مختصرة لأن معرفتها ضرورية لفهم القرآن، وإنه ليس مفاجئاً عدم وجود إشارات إلى فترة حياة محمد قبل دعوته ليكون نبياً، باستثناء ما ورد في سورة الضحى في الآيات 6 و7 و8 حول يتم محمد وفقره: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى). أما المرحلة الثانية من سيرة محمد فهي عندما أتم الأربعين من العمر، في العام 610 ميلادي تقريباً، حين تعرّض «لتجارب غريبة خلال تأملاته وخلص إلى أنه يتلقى رسائل من الله تدعوه إلى مخاطبة أهل مكة». في البداية كانت رسائل الوحي يحفظها النبي محمد وبعض أصحابه ولاحقاً كُتب البعض منها من قبل مساعدي محمد. وبعد وفاة النبي، جُمع كل ما حفظ وكتب وكتب مجدداً ليشكّل القرآن كما نعرفه اليوم. ويشير وات إلى أن التسلسل التاريخي للفترة المكية غير مؤكد. يقول وات إن الرؤية الإسلامية تعتبر القرآن كلام الله الذي أُبلغ إلى محمد(ص) بواسطة ملاك، ولا يمكن أن يكون هناك تنقيح للقرآن من قبل محمد ووفق إرادته أو رغبته. فهذا الأمر واضح في عدد من الآيات بينها الآية 15 من سورة يونس: «وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا». ويرى هذا المستشرق أن النبي محمداً كان يؤمن بأن القرآن وحي صادق يُوحى إليه وهو لم يفكّر بإنتاج أي آيات وتمريرها كأنها من الوحي. لكن القرآن يتحدث في طرق عدة عن بعض التغييرات، نسخ الآيات، التي جاءت بمبادرة من الله نفسه واستبدالها بآيات أخرى، مشيراً إلى أن بعض الأوامر القرآنية للمسلمين كانت موقتة وتم نسخها واستبدلت بأوامر أخرى. وبما أن هذه الأوامر المنسوخة كانت كلام الله، فلا تزال تُتلى كجزء من القرآن. يعتبر وات أن عملية جمع القرآن بدأت مع النبي محمد نفسه، وظلت مستمرة مع تلقّيه الوحي، وهو أمر ذكره القرآن في سورة القيامة، الآيات 16- 19: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* ِإنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ*فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ). إن التفسير الأرجح لكلمة «الجمع» في الآيات هذه هو أن ما جاء من مقاطع الوحي مفرقاً يكرر الآن مدموجاً مع بعضه بعضاً، حيث يرجّح وات أن الكثير من القرآن قد جُمع في سور قبل أن يبدأ عمل جامعي القرآن لاحقاً، وأن ذلك كان من عمل النبي الذي كان لا يزال يرشده النزول المتواصل للوحي. والمحاولة الأكثر تطوراً لاكتشاف الترتيب الأصلي لنزول آيات القرآن وتاريخها – وفق وات - هو عمل ريتشارد بِل في ترجمته للقرآن التي نشرت في عامي 1937 و1939، حيث قام بِل بترتيب مقبول عموماً من العلماء المسلمين، يقوم على أن الوحدة الأصلية للوحي كان المقطع القصير. كما أنه ذهب إلى أن الكثير من جمع مقاطع القرآن في سور قام به النبي محمد(ص) نفسه وبوحي إلهي. وقد قبل بِل إطار التسلسل الزمني العام لحياة النبي كما وردت في سيرة ابن هشام وأعمال أخرى، وهي سيرة تقوم على الفترة المدنية، منذ هجرة النبي إلى المدينة عام 622م وحتى وفاته سنة 632م. أما في الأعوام السابقة للهجرة، فإن التواريخ قليلة وغير مؤكدة، بينما مقاطع القرآن، التي يمكن ربطها بأحداث كمعارك بدر وأُحد وفتح مكة، يمكن تأريخ نزولها بدقة مقبولة. ويخلص وات إلى أن ريتشارد بِل لم يحل كل المسائل في شأن تاريخ القرآن، لكنه قدم مساهمة مهمة في إثارة انتباه الباحثين إلى تعقيد الظاهرة.