لا شك في أن فوز محمود أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية الايرانية شكل مفاجأة، خصوصاً بالنسبة الى الولاياتالمتحدة، لأنه اكد انحياز الشعب الايراني الى جانب التيار المحافظ، الذي يوصف - عادة - بالتشدد، وأعلنت من خلاله الفئات الشعبية الفقيرة احتجاجها على الأوضاع الاقتصادية السائدة في ايران. كما يشكل فوزه ايضاً حاجة ايران الى رجل قوي يتمتع بصلاحيات قوية لمواجهة التحديات الخارجية، خصوصاً الضغوط الاميركية، وبما يعني تماسك النظام الايراني تجاه الملفات الساخنة المطروحة عليه، بدءاً من الملف النووي والوضع في العراق وصولاً الى الدور الاقليمي الايراني والوضع في المنطقة. وتتعدد القراءات التي تتناول المسار الذي يمكن ان تتخذه العلاقات الايرانية ? الاميركية، بعد فوز أحمدي نجاد، باختلاف تأويل وتفسير ما تريده الولاياتالمتحدة من أدوار يمكن ان يلعبها النظام الايراني في ظل التطورات المتسارعة الاخيرة، التي عصفت بالمنطقة العربية. لذلك برز من جديد السؤال المركزي المطروح - منذ مدة -في مراكز الأبحاث في الولاياتالمتحدة الاميركية وأوروبا، والمتمثل في صيغة: الى أين ستتجه ايران اليوم في علاقاتها مع الولاياتالمتحدة ومع البلدان العربية المجاورة لها؟ من جهة اولى، يتلهف المحافظون الجدد في الادارة الاميركية الى اعادة تشكيل"الشرق الأوسط الكبير"وفق المصالح الاميركية - الاسرائيلية، وتقع ايران - بالنسبة اليهم - في قلب شبكة معادية تشمل المقاومة العراقية وسورية وپ"حزب الله"في لبنان، اضافة الى ايران، وهم يعتقدون بأنه لكي تتمزق خيوط هذه الشبكة لا بد من قلب أحد النظامين الايراني او السوري. ومن جهة اخرى، يرى المتشددون في ايران ان وضوح شروطهم كفيل بإيجاد تسوية مع الولاياتالمتحدة، اذ يعتقدون بأن كسب الداخل الايراني، خصوصاً الفئات الشعبية الفقيرة، مع الاحتفاظ بالأوراق الاقليمية، خصوصاً في العراق وسورية ولبنان، كفيل بإبعاد الخطر عن النظام، وقادر على إرغام الاميركيين على الدخول في تسوية أكثر ملاءمة مع ايران، وينظرون الى سياسة التنازل امام الضغوط الاميركية بوصفها خطراً أكبر. أي انهم يفضلون الصمود والمواجهة من خلال قوة الداخل وقوة العلاقة مع الدول المجاورة. وهذا الموقف يقلب الاتجاه الذي كان يسير عليه الاصلاحيون في عهد محمد خاتمي، والذين كانوا يقترحون التخلي عن المواجهة المباشرة مع الولاياتالمتحدة، بما يعني عدم الوقوف في الواجهة في الصراع مع اسرائيل، وكذلك في ما يتعلق بالوضع في العراقولبنان. ونشهد على المستوى الاقليمي اشتعال المنطقة في ظرف صار فيه الاحتلال الاميركي للعراق واقعاً متحققاً، وتتزايد الضغوط الاميركية والأوروبية على ايران للتخلص من ملفها النووي، فيما يعاني النظام السوري من ضغوط اميركية متزايدة، لن يكون آخرها تجميد أرصدة كل من وزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان والرئيس السابق لجهاز الامن والاستطلاع في لبنان اللواء رستم غزالة. كما تعاني مصر من ضغوط داخلية كبيرة، حيث تطالب حركات سياسية عدة بالتغيير الديموقراطي، وكذلك تعاني كل من السعودية والكويت من هجمات وأحداث دموية. واتسمت السياسة الايرانية في العراق، بعد الاحتلال الاميركي، بالتفهم حيال العملية التي وضعتها واشنطن لإدارة الوضع هناك. لكن هذا التفهم كان يترافق مع تغلغل ايراني في مفاصل وثنايا الأوضاع العراقية، ومع قدرة لافتة على الفعل والتحكم، وإمكان تغيير السياسة المتبعة عند الحاجة لذلك. وأثارت هذه السياسة توجس الادارة الاميركية في أكثر من مناسبة. وليس من المرجح أن تتغير السياسة الايرانية تجاه العراق بعد مجيء أحمدي نجاد. تبنى الرئيس الايراني الجديد أحد أهداف الثورة الايرانية المتمثل في تحدي الولاياتالمتحدة، وأعلن في أكثر من مناسبة انه سيكون الرئيس الصلب القوي الذي سيواجه ضغوطها، وانه سيمضي قدماً في البرنامج النووي. لذلك تحاول الادارة الاميركية الضغط عليه، من خلال اتهامه بالضلوع في عملية احتجاز الرهائن في السفارة الاميركية، كي تضعف موقفه، وتجعله في موقع الدفاع عن النفس. وقد يتطلب الامر منه إظهار بعض المرونة في شأن البرنامج النووي، والتريث من غير أن يُقدم بالضرورة تنازلات ملموسة. لكن من المستبعد ان يتخذ خطوات تصعيدية حيال السياسة الاميركية في المنطقة. في المقابل، فإن الاصلاحيين الذين دعموا خاتمي وصوتوا لهاشمي رفسنجاني، وتصل نسبتهم الى حوالى 40 في المئة، سيعارضون السياسات التي توتر العلاقة مع الولاياتالمتحدة، اضافة الى انهم سيدعمون سياسات الاصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد، الأمر الذي يقدم مبرراً قوياً للرئيس أحمدي نجاد لإعطاء الأولوية لبرامج الاصلاح الداخلي. وإذا ما أقدمت بلدان المجموعة الاوروبية على اتباع سياسات تفضي الى المزيد من التعاون والانفتاح السياسي والاقتصادي مع ايران، وكذلك مساعدتها في برامجها الاصلاحية، فإن ذلك سيؤدي الى دعم وترسيخ تيار الاعتدال في ايران، بل ويجعل السياسة الايرانية تميل الى الاعتدال والتفاهم اكثر من المواجهة والتصادم. وبالنسبة الى الملف النووي، فإن المتشددين يعرفون تماماً ان الاصرار على تخصيب اليورانيوم يخفي خلفه الخوف من ضربة عسكرية اميركية، وربما اسرائيلية، للمواقع النووية هناك. وبالتالي فإن إظهار المرونة والتعاون مع الوساطة الاوروبية كفيل بحلحلة ازمة هذا الملف. ان ايران اليوم، على رغم ما تعانيه من مشاكل اقتصادية واجتماعية، بلد لا يمكن الاستهانة بقوته. فقد تمكنت من تطوير قدراتها العسكرية بعد سنوات الحرب الطويلة مع عراق صدام حسين، كما طورت بعض القطاعات الصناعية والانتاجية المتنوعة، وكذلك طورت قدراتها العلمية، بحيث صارت في عداد البلدان التي دخلت في طور الاستفادة من برنامجها النووي. وحدث كل ذلك على رغم اجراءات التضييق الاميركي والأوروبي، الذي تغلبت عليه عبر ايجاد حلول وبدائل داخلية ودولية، كالعلاقة المميزة مع الصين ومع روسيا الاتحادية. لذلك من المهم أن تلتفت ايران الى وضعها الداخلي، وأن تمضي قدماً في تنفيذ برامج الاصلاح السياسي والاقتصادي، وبما يعني المزيد من الانفتاح على القوى الحية في الشعب الايراني، لأن الوقوف في وجه تحديات وأخطار الخارج لن يتم إلا بمزيد من الاصلاح والانفتاح على الداخل، وهو الدرس الذي لم تعه ? ولا تريد ان تعيه ? انظمتنا الجاثمة على صدورنا حتى يومنا هذا. * كاتب سوري.